صحيفة المثقف

سامي عبد العال: علمانيٌّةٌ على سنة الله ورسوله (1)

سامي عبد العالكثيرةٌ هي الشعارات التي رفعتها الجماعات والتنظيمات الدينية وبعض الأحزاب والكتل السياسية ذات التوجهات الإسلامية، مثل (الإسلام هو الحل) و(تطبيق الشريعة) و(مجتمع الحرية والعدالة)، بل أطلقوا على بعض البرامج والأحزاب السياسية أحياناً (النهضة والتنمية). ولو نلاحظ بدقة، سنجد أن الأوصفات تستحضر أفاق الحداثة وتغازل عصرّنة الحياة السياسية وتغري بالانخراط في التطورات الراهنة للأنظمة والدول والمجتمعات. والشعار في إطار الأيديولوجيا اللاهوتية المسيّسة ليس عبارة لغوية، ولكنه (كيان حي بحسب اعتقاد أصحابه) ينمو ويسعى ويتوالد داخل الإحساس والوجدان والعقول خالعين عليه صفات القداسة والعلو.

ولذلك يأتي التساؤل الطافح بالمفاجأة: كيف يسير هذا الشعار الإسلامي المؤدلج أوذاك وسط معطيات حداثية حتى النخاع؟! فمفاهيم الدولة الراهنة وآلياتها ومؤسساتها التشريعية والضبطية والقضائية هي نتاج الحداثة، وتفترض بنيتها أنها لا تتعامل مع الإنسان إلاَّ بمعناه الحديث (ذات وجسد وإرادة حرة - أي مواطن)، ولذلك يصعب قبول هذا النتاج (محض قبول) دون قبول (تراثه التنويري الحديث) بالتبعية أوعلى الأقل مراوغته والاشتباك معه فكرياً وحياتياً. وأنَّ الإنسان لن يمر سياسياً ليكون مواطناً (في الدولة) إلاَّ بمروره سلفاً بهذا (الغربال الحديث) الذي سيجهزه وسيصقل وجوده الفاعل للمشاركة والعمل.

بمعنى أن الاسلاميين قد يدخلوا إلى مؤسسة سياسية معينة وقد يتعاملون مع آلياتها الخاصة، ولكنهم لن يدركون أنها تبتلع مواقفهم وتعاملهم على أساس (خلفياتها السياسية والفكرية هي) لا تمشياً مع (أفكارهم هم). وأنه من الصعوبة بمكان (أسلمتها Islamization) كأننا نتعامل مع كائن بشري سيغير قناعاته ومواقفه. وبالتالي لم يجد الإسلاميون بدا من التوفيق بين الحداثة وبين ما يعتقدون، وقد خاضوا معارك الفكر بين شد وجذب لإقامة نظام سياسي تحت عنوان (التنوير الاسلامي) كنوع من الموائمة مع العصر وتطوراته. أي الخروج (بنسخة معدَّلةmodified copy ) تقلل من غلواء العداء والكراهية تجاه منتجات الغرب الحديثة، لكنها في حقيقة الأمر هي نسخة غير واضحة المعالم (كائن غريب). كما أنها مفروضة عليهم بحكم الواقع الطاغي لسيادة الحضارة الغربية. ولذلك كانت تلك الفكرة بارزة الخلط بصدد (العلمانية) التي أرادوا (أسلمتها وإعادة تشغيلها) على صعيد الأيديولوجيا السياسية. فلم يعترفوا بالعلمانية كإطار عام ولم يعترفوا بكامل التنوير (لأنهما يتعارضان مع منطلقاتهم). ولكنهم  أخذوا (النصف من هنا والنصف من هناك) كما تظهر بعض الشعارات الدينية الحداثية، حتى جاء الوليد السياسي (كائناً مسخاً) تحت قهر الواقع.

العلمانية المؤمنة

زحف التنوير المزيّف إلى (عقول الإسلاميين) من باب السياسة والإقتصاد ومواقف الحياة العامة والتقنيات ووسائط التواصل في (شكل هجين ومشوّه). وبتنا نسمع مقولات أيديولوجية مرحليةً من قبيل: أننا نسعى إلى (دولة علمانيّة) أو (دولة مدنيّة) أو (دولة المواطنة) في إطار إسلامي. أي الجمع بين العلمانية بإحالتها إلى (الدنيا والحياة المشتركة وتجنب الإنتماء الديني) وبين التدين السياسي وإحياء المرجعية الأخلاقية العنيفة للإسلام السياسي. وهنا لا يعوزنا الفهم المباشر لرؤية الخلط بين المقدس والدنيوي، بين النسبي والمطلق، بين الكلي والجزئي، بين الثابت والمتحول دون أدنى مشكلةٍ. بل.. وكأنَّه لا توجد أيّة مشكلات فكرية أصلاً، فالعبارات اللغوية المؤدلجة ستحل الإحراج المنطقي بين الحدود، وستغطي فجوات السياسة التي توظف الشعارات النفعية مهما تكن واضحة التمزُق.

لأول وهلةٍ سترتدي العلمانية في شرقنا العربي الإسلامي (جلباباً وعباءة فضفاضة) وتطلق لحيتها وتلبس حذاءً شرقياً تخلعه عند كل صلاةٍ وتنظفه عند أية مناسبة مقدسةٍ وتحمل سبحة واضعةً سواكاً لتخليل الأسنان في نصف جيب الجلباب المخصص لهذا الغرض وتمشي غاضةَ البصرِ ومثقلةً بالأعباء الدعوية وكيف تصبح (سمةً برانيةً ظاهرية) مع حياة المسلمين وأحزابهم السياسية وشركاتهم المالية والتجارية وعلاقاتهم مع أهل الأديان الأخرى. وعندما تتحدث هذه (العلمانية المتدينة) أمام الجماهير، سترصّع كلماتها بعبارات ونصوص وآيات وأحاديث لتثبت ما تقول بحسب القرآن والسنة وسير السلف الصالح وما إتفق عليه إجماع الأمة.

والأغرب أنْ تأتي هذه (الخلطة العجيبة) من قبل الإسلاميين بمآرب الاستحواذ على الحكم والهيمنة اللاهوتية والعملية إزاء المجتمعات وإدعاء معرفة الرُشد والصلاح والهداية لكل البشر. إذن هو الزحف (التوظيفي) لصياغة العلمانية المتدينة أو كما يُفترض أنْ تكون هي  العلمانية الشرعية (المستأنسة والمؤدبة والخجُولة والمؤمنة) في ثوبٍ عصري قشيب. بكلمات واضحةٍ، يتم التعامل مع السياسة على قاعدة(أسلمة العلمانية Islamization of Secularism) هذه المرة، وإعادة تدويرها كأحد العناصر النشطة ضمن السرديات الدينية، وإدخالها – رغم ذلك- في طور من التكوين غير مأمون العواقب إزاء المنطلقات (الفكرية والثقافية للأديان والسياسة معاً).

المهم لدى الإسلاميين خلال هذه المرحلة الراهنة كان هو (الشعور شبه المريح) بكونهم يعيشوا بجميع الأقنعة مع (مظاهر العلمانية) دون كراهيةٍ، تمهيداً للإنقضاض عليها في مرحلة لاحقة. وأنه مهما بلغت درجات التطبيع معها ومع مرجعيتها، فهناك مرحلة لن تفلت العلمانية من (الأسلمة الجزئية وإعلان دولة الخلافة أو تديينها) كما حدث مع إخوان مصر في الكواليس ومع إخوان تونس في العلن، أو أن تدخل الدولة المعلمنة بيت الطاعة تحت عصمة أمير المؤمنين(داعش العراق والشام). وتصبح هي (العلمانية المنقبة كالمرأة المنقبة) التي تسمع فتعي وتؤمر فتطيع بعدما كانت شمطاءً لعوباً تغوي المؤمنين الغافلين (الوهابية السياسية). وبالإجمال من تلك الزاوية، ليس أمام العلمانية إلاّ أنْ تنصت لصوت الشرع (سواء بالمداهنة أم بالسمع والطاعة أم بالحروب والصراعات).

بالفعل لجأ الإسلاميون إلى ذلك (النموذج العلماني- الإسلامي) تحت ضغوط الحياة الكونية الراهنة التي أنتجها الغرب وباتت واسعة الإنتشار في أرجاء المعمورة وأمست مطبقة سياسياً خارج بيئتها الخاصة. وتم ذلك أيضا بفضل إخفاق الإسلاميين في التعايش مع الأحداث السياسية بمنطقها التاريخي، لا نتيجة تطور تلقائي للنموذج العلماني المتدين ولا بفضل جهود إبداعية ومنتجة في فهم العالم وتطوير المعارف والحياة والإنسان.

يمكن تأكيد أبرز الأفكار وراء هذا النموذج كالتالي:

أولاً: ظهر الإسلاميون متأخرين عن الحياة الراهنة منذ قرون (كأنهم قد حطوا رحالهم الآن من عصور ماضوية غابرة). وضُح ذلك جلياً عندما جلسوا على كراسي السلطة بعد أحداث الربيع العربي. كانوا غرباء إلى حد الوضوح، لا يدركون كيف تعمل أجهزة السلطة. ليس لقصور في المعرفة فقط، بل لأنَّ (جنس المعرفة نفسه) مختلف تماماً، وأنَّ السلطة التي وصلوا إليها تستند إلى آليات ومفاهيم علمانية لم يكن ليبلغوها دون تلك المفاهيم وكيفية إدارتها في الواقع.

ثانياً: عجز الإسلاميون عن فهم خطابات الجماهير الغفيرة والمتباينة أشد التباين. وهذا ليس راجعاً بالمثل لقلة الحيلة ولا إلى اختفاء اللغة المشتركة بينهم، ولكن لأنَّ نظام الجماهير الحُرة والقابلة للمواطنة ينتسب إلى نظام جذري (مختلف برمته) عن لاهوت السلطة لدى الإسلاميون. ولذلك عندما كانت الجماهير تطالب بحقوق سياسيةٍ، كانوا يستحضرون تراث السياسة المدنية وممارسة الثورة من باب سد الذرائع ليس أكثر. وذلك إجمالاً لا محل له من الإعراب في ذهنية الحاكم كأمير لهذه الجماعة أو تلك.

ثالثاً: أدرك الإسلاميون أنهم مكتوفو الأيدي أمام (ترسانة الدولة الوطنية) التي ورثوها مع تولي مقاليد الحكم (كما حدث مع إخوان مصر وأخوان تونس)، وأنها ترسانة عصية على الإحتواء والتفكك (أطلقوا على كيانها الغريب الدولة العميقة). وهي عميقة لكونها تحمل أفكاراً ومعطيات تاريخية لا تنقلب بين ليلة وضحاها (ويستحيل أسلمتها) بمجرد تولي السلطة.

رابعاً: فجأة إكتشف الإسلاميون وجود حالاتٍ من التعددية الدينية والتنوع الثقافي في المجتمعات العربية الإسلامية، ولم يعروفوا ماذا هم فاعلون بصددها؟ كيف يسمحون للآخر بالتعبير عن نفسه، في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات للمطالبة بتحديد الموقف من أهل الأديان الأخرى وحقوق المواطنة والتعايش وتداول السلطة والديمقراطية.

خامساً: جاءت عبارة العلمانية المتدينة (دولة علمانية في إطار إسلامي) كنوعٍ من تهدئة الهواجس لدى الإسلاميين أنفسهم قبل غيرهم أحياناً. فهي عبارة من قبيل العبارات المعسولة (والمحلاة بمذاق العصر) لإبتلاع (الدواء السياسي المُر)، وهي كذلك محاولة للتعايش (على مضض) مع مفردات الحضارة والسياسات المدنية التي أنتجتها. وبالمثل قبلوا العلمانية، لكي يكونوا متسقين أمام أتباعهم على المقاعد الوثيرة وأمام القاعدة العامة من مواطني الدول.

سادساً: أُطلقت عبارة (العلمانية المؤمنة) لتحسين (لتجميل) صورة الإسلام السياسي أمام العالم الخارجي وأنَّ جماعاته تستطيع تولي السلطة (هذا الغول والبعبع التاريخي المخيف) في دول إقليميلة وبآليات الأنظمة السياسية الموجودة في العالم الحر. مع التأكيد على أنهم لا يعلمون تاريخ هذه السلطة ولا صورة العالم الخارجي وتطوراته. فهم غالباً ما يزجُّوا بأنفسهم في هكذا مواقع تاركين الأحوال تجري على أعنتها حتى ولو إلى غير مآل.

تراث الصراع

مع العلم بأنَّ الاسلاميين تاريخياً كانوا يميزون بين (العلمانية السياسية والحكم الإسلامي) بموجب أنهما طرفان متنافران تنافر الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية التي عبر عنها  كل طرف تجاه الآخر وأثبتتها الأيام والأحداث. تاريخياً، لم تكن هناك علاقة إبتداء بين (الدول العلمانية والأنظمة الإسلامية) قبل العصور الحديثة، لكونها كانت واضحة الصراع والتشوهات والحروب، سواء أكانت الحروب الصليبية أم حروب الدولة الإسلامية تجاه بعض القوى الغربية بشعارات الجهاد.

ولم يكن سؤال الإلتقاء بين الشرق والغرب مطروحاً من الأساس، نظراً لتمايز الثقافتين تمايزاً جغرافياً (الشرق – الغرب) وتاريخياً (التراث الاسلامي والتراث اليهودي المسيحي) وفكرياً في ظل وجود نظامين فكريين وثقافيين حول العالم والحياة (نمط الحياة الشرقية – نمط الحياة الغربية).  ولعل ذلك كان وراداً في المقولة الشهيرة للشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج  Rudyard Kipling(الغرب غرب.. والشرق شرق.. ولن يلتقيا أبداً). وقد ثمّن الاسلاميون هذه المقولة البارزة في كل الأدبيات والخطابات الجماهيرية والخاصة تحت بند (وشهد شاهدٌ من أهلها)... ولسان حالهم يردد: أفلم نقل لكم أيها المسلمين ذلك مراراً وتكراراً؟! وألم يكن ذلك توجهنا منذ أمد بعيد وهاهي المقولة تثبت الفكرة؟!

وحالما تمَّ إعلان سقوط الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين، حضرت الثقافة الأوربية إلى معاقل الإسلام في الشرق عن طريق الإستعمار وتم اجتياح الدول الشرقية ونهب ثرواتها. ولقد حدثت صدمات حضارية كبيرة، ولأول سابقة تقريباً في العصر الراهن جرى رؤية العلمانيين الأوروبيين (الجنود والقيادات وعلماء الحملات العسكرية) مترجلين وجهاً لوجه وكيف يعيشون وما لديهم من تقنيات حربية وعلمية متقدمة في مقابل الأدوات البدائية للشرقيين أثناء مقاومة جيوش الدول الإستعمارية (انجلترا وفرنسا تحديداً) كما جرى بمصر شمال أفريقيا. ولذلك سعت الدول الغربية مثل فرنسا إلى فك الشفرات الحضارية للتاريخ المصري وتوغلت في دراسة الجوانب الاجتماعية والفنون والعادات والتقاليد (كتاب وصف مصر).

ثم كان تأسيس الدول الوطنية- بعد إجلاء الإستعمار- إيذانا بدخول الصراع بين الدول العلمانية والدولة الإسلامية حلبة الصراع القائم على (لعبة المؤامرات والإقصاء). بمعنى أنَّ الإسلاميين كانوا يؤرخوا لهذه المرحلة عن كثب، ليس بمنطق التحرر الوطني والدفاع عن الإنسان وبناء المجتمعات، بل لكون (كيان الدولة state entity) قد انحرف عن طريق الخلافة، وأنّها لم تكن دولة وطنية بالمرة طالما لم تعد إسلامية. فعلى الرغم من إجلاء الاستعمار إلاَّ أن أنظمة الدول الإسلامية باتت خاضعة لدول الغرب وأخذت تبحث عن موضع لأقدامها الحائرة تحت مظلتها في العالم. وأنَّ تحديث المجتمعات العربية التي رفعتها (الثورات الوطنية والقومية) إنما جلبت نماذج لأنظمة علمانية منحرفة عن جادة الشريعة ومنبتة الصلة عن تراث الخلافة الإسلامية.

ولذلك حرص الإسلاميون تباعاً على محاربة أنظمة الدول القومية باعتبارها (دولة إستعمار) من نوع آخر، الاستعمار المحلي الذي يمارس الألعاب والحاكمية المادية المنحرفة عن توحيد الربوبية والألوهية(أي الشريعة والدين). وليس هذا فقط، لكنهم أتهموا كيان الدولة نفسه بالمؤامرات على الإسلام معتبربن أنَّها جاءت لتنفذ أجندات أجنبية ولتحل محل الغرب في قيادة المسلمين إلى أهدافها الخبيثة. وتنامت لدى الإسلاميين كراهية كل ما يأتي من الغرب، سواء أكان من جهة العلوم والمعارف والتقنيات وبرامج المؤسسات أم حتى من زاوية خبراء العسكرية والحروب الذين تولوا تدريب وإعداد بعض الجيوش العربية (روسيا مع سوريا ومصر).

بالمقابل أخذت أنظمة الدول القومية في رفع (شعارات شعبوية) مثل نعرات التحرر والإنتاج والنهوض ونفي التبعية، وأخذت تلك الأنظمة تلاحق الإسلاميين  بوصفهم خطراً على كيان الدولة وباتت المؤامرات والمؤامرات المضادة هي اللغة السائدة، الأنظمة تتأمر على الإسلام بينما الإسلاميون يتأمرون على الأنظمة. وفي غير حالة حدث ملاحقات ومطاردات بين الطرفين في السجون وفي الساحات العامة. وكذلك باتت (العلمانية ومرجعياتها) هي ردهة الصراعات الخلفية والأمامية على السواء. وكان الإقصاء هو مصير الجماعات الدينية التي أخذت طريقها السياسي قرباً أو بعداً من الأنظمة المتعاقية على الدول العربية تبعاً للمواقف من العلمانية.

ونظراً لأنَّ الاسلاميين لم يجدوا مكاناً سياسيا لهم طوال القرن العشرين، فقد أوغلوا في لغة التكفير المعاصر وإراقة الدماء وأصدروا خطابات الأستحلال للدولة والآخر الديني، وبخاصة مع ظهور جماعات العنف الديني المادي (التكفير والهجرة والناجون من النار وجماعة الجهاد والقاعدة وداعش والسلفية الجهادية). وفي الأثناء أطلق منظرو الإسلام السياسي مصطلح (العلمانية الملحدة  atheistic secularism) على حالة السياسات المعاصرة. واعتبر تنظيم الدواعش والسلفية الجهادية أنَّ الدولة العربية(ناهيك عن الدولة الغربية) هي تجسيد للعلمانية غير المؤمنة الفاجرة. وليس هذا وحسب، بل أعلنت  تلك العلمانية الحرب الضروس على الإسلام. وبالتالي صدرت الفتاوي بمحاربة العلمانية المتدثرة بعباءة الدولة ووجودها المادي(الجيش والشرطة والمؤسات السيادية).

وهنا تمَّ خلط (مساحة الدولة) التي يجب أن تكون (هي المحايدة) بفكرة التكفير، وكان الأخيرُ هو السلاح الرمزي المشّهر إزاء كل الأنظمة السياسية. فالحل الوحيد من وجهة نظر هؤلاء الإسلاميين أو أولئك كان هو التخلص من العلمانية بالتكفير، كما طرحت جماعات الاسلام السياسي في منتصف القرن الماضي حتى وقت قريب. وانتشر الإرهاب والتفجيرات المدمرة في مجتمعات علمانية وإسلامية، وكذلك رأينا تخليق ظاهرة التكفير في هيئة دولة الدواعش معممة بالخلافة ومحصنة بالمجاهدين من كل حدب وصوب.

ولكن عندما نجح بعض الاسلاميين في الوصول إلى الحكم (إخوان مصر)، إنقلب التكفير إلى تطويق العلمانية وإعتبارها جزء من الحياة المكره عليها الإسلامي، وأن الضرورات (غلبة العلمانية مع الخوف من فشل الحكم الوليد لتوّه) تبيح المحظورات (التعايش مع الآخر اللاديني أو الآخر الديني: الملحد والكافر).

لقد تم غمس العلمانية في بئر التوظيف الأيديولوجي للإسلاميين، فخرجت من فورها علمانية طائعة تسمع الآذان في المؤسسات التشريعية (حالة السلفيين في البرلمان المصري) دون أدنى تذمر. وتقبل أن يرتدي المسئولون جلباباً شعبياً متخلين عن الزي الرسمي لإدارة المؤسسة أو لإدارة المنصب العمومي دون ململة. وحل الإسلاميون مكان العلمانيين في مواقع الحكم مستخدمين أدوات علمانية مثل البرلمان والديمقراطية والتصويت ودراسة الجدوى من غير الرجوع إلى أولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتم رسم خطط مستقبلية دون حساسية من التحدث عن الغيب السياسي وماذا سيجري في الغد.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم