صحيفة المثقف

جيل دولوز: المضمون والتعبير

2755 ديلوزبقلم: جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق


كيف يمكننا الدخول لأعمال كافكا؟.

أعماله رايزوم، حفرة. لـ“القلعة” عدة مداخل لا نعرف طريقة استعمالها ولا موضعها. أما الفندق في “أمريكا” فله عدد غير محدود من الأبواب الرئيسية والجانبية، ويراقبها عدد غير معلوم من الحراس، ولها أيضا مداخل ومخارج بلا أبواب. ومع ذلك يبدو أن الحفرة في الحكاية التي حملت ذلك العنوان لها مدخل واحد. وكل ما يمكن لحيوان أن يقوم به أن يحلم بمدخل ثان لا يفيد إلا بالرقابة. ولكن هذا فخ هيأ له الحيوان وكافكا نفسه، وتعمل صفات الحفرة على خداع العدو فقط. وعليه سوف ندخل، من أي نقطة لا على التعيين، وهي نقاط لا يوجد أي فرق بينها، وليس هناك مدخل مفضل حتى لو أنه يبدو معبرا، ممرا ضيقا، منفذا. وسنحاول أن نكتشف ما هي النقاط الإضافية التي يرتبط بها مدخلنا، وأي تقاطع طرق وأي صالة يمكن للمرء أن يعبر منها ليربط بين نقطتين، وما هي خريطة الرايزوم وكيف لهذه الخريطة أن تتحور إن دخل شخص ما من خلال نقطة أخرى. فقط مبدأ المداخل المتعددة يمنع دخول العدو والدال وتلك المحاولات الرامية لتأويل عمل مفتوح على التجريب فقط. سوف نباشر من نقطة متواضعة: من رواق فندق القصر والذي اكتشف فيه "كاف" لوحة الحاجب برأسه المحني، وذقنه تغوص في صدره.

العنصران الاثنان - اللوحة أو الصورة، والرأس المضروب والمحني - أمران ثابتان في أعمال كافكا، رغم تفاوت درجات السيادة بين شخص وآخر. صورة الوالدين في “أمريكا”. لوحة المرأة التي ترتدي الفرو في “المسخ” (هناك امرأة حقيقية برأس محني، وأب حقيقي يرتدي بذة حاجب). زيادة عدد الصور واللوحات في “المحاكمة” ابتداء من غرفة السيدة بورستنير وحتى استوديو تيتوريلي. الرأس المحني الذي لا يمكن لصاحبه أن يرفعه مجددا يظهر في كل الأوقات في الرسائل، وفي دفتر اليوميات، وفي المذكرات، في القصص، وأيضا في “المحاكمة” حيث يبدو القضاة بظهور محنية تحت السقف، وقبالة بعض معاونيهم، والجلاد، والقس وهكذا. وعليه المدخل الذي اخترناه لا يقدم وعدا بالارتباط مع أشياء نأمل أنها في النهاية ستظهر في العمل، ولكنها بحد ذاتها تتشكل من خلال الترابط بين شكلين مستقلين نسبيا، شكل المضمون (الرأس المحني) وشكل التعبير (اللوحة - الصورة)، وهما شيئان يندمجان في بداية “القلعة”.

نحن لا نعمل على تأويلها. وببساطة نقول إن هذا الاندماج (التوحيدي) يسبب انسدادا وظيفيا، تحييدا للرغبة التجريبية - الصورة المؤطرة التي لا تمس، ولا يمكن تقبيلها، والمحرمة، والتي يمكنها أن تأخذ المتعة من مشهديتها فقط، مثل رغبة ممنوعة يحدها السطح أو السقف، رغبة مستسلمة يمكن أن تأخذ المتعة من استسلامها فقط. والرغبة أيضا تفرض الاستسلام وتكاثره. رغبة تحكم وتدين (مثل الأب في “المحاكمة” الذي يحني رأسه كثيرا ويتوجب على ابنه أن يركع أمامه).

هل هي ذاكرة أوديبية من أيام الطفولة؟. الذاكرة هي لوحة عائلية أو صورة في عطلة تصور رجالا لا يحنون رؤوسهم، ونساء تحطن رقابهن بأشرطة ملونة (1). الذاكرة تمنع الرغبة، وتصنع مجرد نسخ بالكربون منها، وتثبتها ضمن طبقة، وتبترها من كل ارتباطاتها.

ولكن ماذا علينا أن نأمل؟. بمعبر. ومع ذلك يمكننا أن نفهم أن المعبر يكون صالحا إن شكل جزءا من الجيب الرايزومي. الرأس المنتصب، الرأس المندلع عبر السقف أو السطح، يبدو نقيضا للرأس المحني. مع أننا نجده في كل مكان في أعمال كافكا (2).

في “القلعة” لوحة الحاجب تعادل برج كنيسة البلدة التي “لها خطوط مستوية، تحملها للأعلى حتى نهايتها المدببة” (وبرج القلعة، مثل آلة الرغبة، تزيد من حركة جنونية وسوداوية للساكن الذي سيحلّق بعد أن يكسر السطح) - أضف لذلك ألا تستمر في الذاكرة صورة برج البلدة الصغيرة؟.

في الحقيقة لم يعد له هذا الدور. وإنما هو يأخذ دور حاجز من أيام الطفولة، وهذا لا يتساوى مع الذاكرة الطفلية، فهو يقوي الرغبة عوضا عن التهامها، وإزاحتها مع مرور الوقت، وإفسادها، وزيادة ارتباطاتها، ووصلها بمراكز شدة أخرى (وعليه كحاجز برج - حامل جرس الكنيسة يترابط مع مشهدين إضافيين، وهما الأول - المعلم والتلاميذ الذين تكون كلماتهم غير مفهومة. الثاني - العائلة التي تمت إزاحتها وأعيد كساؤها وانعكست. وفي هذا المشهد يلعب البالغون حول الحوض). ولكن هذا ليس مهما. المهم هو الموسيقا الخفيفة، أو بشكل أدق، الصوت النقي والكثيف الذي ينبع من حامل الجرس وبرج القلعة:”بدأ جرس يقرع بصوت رخيم هناك، جرس جعل قلبه، للحظة على الأقل، يضطرب لأن نغمته تنذر بالخطر. وأيضا كأنها كانت تهدده بإشباع الرغبة الساذجة. وسرعان ما خفت هذا الجرس المرنان. وحلت محله نغمة خافتة ورتيبة وبطيئة”.

يتطفل الصوت غالبا بطريقة غريبة في أعمال كافكا ويظهر مرتبطا مع حركة تدل على رفع أو انتصاب الرأس - الفأرة جوزفين، كلاب موسيقية فتية (“كل شيء كان مموسقا، رفع أو خفض الأقدام... الأساليب المتناسقة الناجمة عن كلب واحد يضع قدمه الأمامية على الأخرى. والبقية يلتزمون بهذه الترتيبات.. فقد كانت تسير على قوائمها الخلفية”) -

ويمكن التمييز بين حالتي الرغبة ولاسيما في “المسخ”. من جهة حينما يلصق جورج بلوحة المرأة ذات الفراء. ويحني رأسه باتجاه الباب بمحاولة يائسة للتواصل مع شيء ما في الغرفة (التي كانت فارغة. ومن جهة مقابلة عندما يغادر جورج هذه الغرفة، يقوده صوت الكمان الطنان، ويحاول أن يتمسك برقبة أخته المكشوفة (فقد امتنعت عن ارتداء واقية الرقبة أو الشريط منذ أن فقدت موضعها الاجتماعي). هل هذا هو الفرق بين زنا المحارم الأوديبي والبلاستيكي في الصورة الأمومية، وزنا المحارم الشيزوفريني في حالة الأخت والموسيقا الخفيفة التي تأتي منها؟. الموسيقا دائما تسقط في شيء لا يقبل عكسه فتكون طفلا أو تكون حيوانا، وهو حاجز كتيم يعارض الذاكرة البصرية. “من فضلك أطفئ النور. لا يمكنني أن أعزف إلا بالظلام./ لقد وقفت وجهزت نفسي”(3). بمقدورنا تماما أن نعتقد أنه لدينا شكلين جديدين: الرأس المنصوب وهو شكل يدل على المضمون، والصوت الموسيقي وهو شكل يدل على التعبير. هل يمقدورنا الآن تمثيل كل ما سلف بالمعادلين الآتيتين؟:

الرأس المحني / لوحة - صورة = رغبة محايدة مسدودة أو مكبوتة أو كابتة، بحد أدنى من الارتباطات، والذاكرة الطفلية، ومساحة أو إعادة تشكيل للمساحة.

الرأس المنصوب/ الصوت الموسيقي= رغبة ناهضة أو تتقدم للأمام، أو تفتح من أجل ارتباطات جديدة، وحاجز طفولي أو حاجز حيواني، وإلغاء تشكيل المساحة. 

ولكن هذا ليس صحيحا. إنها بالتأكيد ليست الموسيقا المنتظمة، ولا الشكل الموسيقي، الذي يلفت اهتمام كافكا (في رسائله ومفكرته، لا يجد المرء شيئا أكثر من مضاد له معنى عن بضع موسيقيين). ما يهم كافكا ليست موسيقا مؤلفة أو مشكلة سيميائيا، إنما مادة مسموعة وصافية. ولو أحصى المرء الدخلاء المتكلمين يمكن له تقريبا أن يصل للقائمة التالية: كونشرتو تشبه موسيقا جون كيج في “وصف صراع” حيث أن الدخيل (يفكر بالعزف على البيانو لأنه يشعر بالسعادة. (2) لا يعرف كيف يعزف. (3) لا يعرف أبدا (“في تلك اللحظة أمسك سيدان بالمقعد وبدآ بعزف أغنية وهما يؤرجحانني للأمام والخلف، ثم حملاني بعيدا عن البيانو إلى طاولة للطعام”)(4). وهو يتلقى التهنئة لأنه يعزف بشكل جيد. وفي “تحقيق مع كلب” الكلاب الموسيقية تطلق صخبا ضارا، ولكن لا أحد يمكنه أن يعرف كيف يفعلون ذلك، فهم لا يتكلمون ولا يغنون ولا ينبحون وإنما تندلع الموسيقا قادمة من العدم. وفي “جوزفين المغنية، أو شعب الفأرة”، ليس من المحتمل أن جوزفين فعلا تغني، بل تصفر فقط وبطريقة لا تختلف عن أي فأر آخر. وربما أسوأ، وبأسلوب يزيد فيها حجم لغز الفن الغائب. في “أمريكا” يعزف كارل كروسمان بسرعة أو ببطء، على نحو يبعث على السخرية. وتشعر “بصعود أغنية في داخله، والتي تتجاوز نهاية هذه الأغنية”. ويكون الصوت في “المسخ” في البداية أنينا خافتا يغطي على صوت جورج ويصخب بكلمات طنانة. ولاحقا مع أن الأخت موسيقية تتدبر أمرها وتضرب على أوتار الكمان، وهي تشعر بالاضطراب من ظل الخطوط.

هذه الأمثلة تبين لنا بما فيه الكفاية أن الصوت في مجالات التعبير لا يعاكس اللوحة، مثلما عاكس الرأس المرفوع الرأس المحني في مجال المضمون. 

إن نظرنا بطريقة تجريدية للشكلين الذين يتخذهما المضمون نلاحظ دون شك تعارضا مبسطا ورسميا بينهما. علاقة تقابل، خاصية بنيوية أو دلالية نادرا ما تسمح لنا بالخروج من مجال الدال وهذا يحولها من رايزوم لتكون أقرب لثنائيات. ولكن حيثما اللوحة، من جهتها، هي شكل حتمي من أشكال التعبير الذي يوافق شكل المضمون “الرأس المحني”، هذا ليس صحيحا بالنسبة للصوت. ما يهم كافكا هو المادة المسموعة وعالية الشدة والنقية المرتبطة دائما بإلغائها - صوت موسيقي ينحدر، صرخة تهرب من الدلالة، عبارة، أغنية، كلمات - شيء يقطع لينفصل من سلسلة لها دلالة. في الصوت الشدة وحدها تكفي، ومثل هذا الصوت عموما يكون أحاديا ودائما له دلالة. وعليه في “المحاكمة” الصرخة المنفردة والمترنمة لشخص في العنبر ويتلقى عقوبته “لا تبدو أنها نابعة من إنسان وإنما من آلة للشهادة”(4). وما دام هناك شكل، لا يزال هناك إعادة تشكيل للمساحة، حتى في الموسيقا. بالمقابل، كل فن جوزفين يتكون من حقيقة أنها لا تعرف أكثر من أي فأرة أخرى كيف تغني. وربما هي تعمل على إلغاء تشكيل مساحة “المزمار العادي”، وتحرره من “هموم الحياة اليومية”. بوجيز العبارة الصوت لا يبرز هنا بصورة شكل للتعبير، وإنما كمادة تعبر دون شكل لها، وهو ما ينطبق على بقية الشروط.   

من جهة: هذا يفيد في التعبير عن المضامين التي سوف تكشف عن نفسها وتأخذ شكلا أقل فأقل. وعليه لا يهمنا الرأس المرفوع بعد ذلك بذاته، لأنه يصبح، رسميا، شيئا لا يزيد على مادة بلا شكل تخلص منها وألغاها تدفق التعبير المسموع. في قصة “تقرير للأكاديمية” يضع كافكا على لسان القرد قوله: إنها ليست قضية عن حركة عمودية حسنة التشكل باتجاه السماء أو أمام المرء نفسه، وهي ليست قضية عن اختراق السطح، ولكن عن “الاندفاع بعيدا” بقوة، وحتى دون أي حركة، ودون أي اهتمام بالمكان المقصود. إنه ليس مسألة عن التحرر قبالة الاستسلام، ولكنها مسألة عن خط نتبعه للهروب، أو عن منفذ بسيط للخروج، “سواء لليمن أو لليسار أو أي اتجاه”، ما دام بأدنى درجات الدلالة والمعنى.

من جهة أخرى: التشكل المقاوم والصارم - على سبيل المثال، الموجود في  اللوحة أو الرأس المحني - سيفقد ذاته تماسكه من أجل النفاذ أو لتجهيز فوضى سوف تقود للسقوط في خطوط شدة جديدة (حتى انحناء ظهور القضاة يشكل صدوعات قوية تدفع موضوع العدالة خارج الصورة، وتتطور الصور والرسومات في “المحاكمة” لتتخذ وظيفة جديدة لها). رسومات كافكا، الرجال المسنون والظلال التي يحب تصويرها، تكرر صور شخصيات برؤوس محنية، ورؤوس مرفوعة، وبحركة سريعة وللخارج. خذ نظرة من إعادة انتاج الخطوط عند كافكا. لا يمكننا أن نشاهد نماذج بدائية تمثل مخيلة كافكا، ديناميكيته أو مجازياته (النمط يعمل بالتركيب والتجانس والموضوع، بينما طريقتنا تعمل فقط حيثما برز خط يقطع ويخالف). علاوة على ذلك نحن لا نبحث عن ما يسمى الترابطات الحرة (نحن جميعا نعلم بالقدر المحزن لهذه الترابطات التي تحملنا دائما للخلف، لأيام الطفولة وذكرياتها، وحتى الأسوأ، للتوهم، ليس لأنها تفشل بالعمل ولكن لأن هذا القدر هو جزء من المبدأ الحقيقي الذي يبطنها). حتى نحن لا نحاول أن نفسر، أو أن نقول إن هذا يعني ذاك (5). وعلى الأقل نحن نبحث عن بنية ذات تعارضات رسمية ودال مكتمل البناء. ويمكن للمرء دائما أن ينتهي إلى تعارضات متقابلة مثل “رأس محني - رأس مرفوع” أو “لوحة - كلام مسموع” وعلاقة تقابلات أحادية مثل “رأس محني - لوحة” أو “رأس مرفوع - نبرة”. ولكن هذا غباء ما دام المرء لا يمكنه رؤية من أين يأتي النظام وأين يذهب، وكيف يتشكل، وأي عنصر سوف يلعب دورا في الاختلاف، الجسم المكتمل الذي يدفع الكل للتدفق بعيدا ويكسر البنية الرمزية، كما يكسر التأويل الهرمونطيقي، الترابط العادي للأفكار والنمط الخيالي. ولأننا لا نلمس فرقا كبيرا بين هذه الأشياء (من يمكنه أن يخبرنا ما هو الفرق بين تعارض بنيوي، اختلافي وبين نمط خيالي دوره أن يميز نفسه؟). نحن نؤمن أن كافكا ليس خياليا ولا رمزيا. ونحن نؤمن بواحد أو أكثر من آليات كافكا والتي هي ليست بنية ولا توهم. ونؤمن فقط في تجريب كافكا الذي هو دون تأويل أو معنى ويتبلور فقط في اختبار تجربته:” أنا لا أنتظر حكما من أي إنسان، أنا فقط أصنع المعرفة، أنا قط أكتب تقريرا. وأنتم، يا أعضاء الأكاديمية الموقرين، أقدم لكم تقريري"(6). الكاتب ليس كاتبا - إنسانا. هو إنسان - آلة، ورجل تجريبي (وعليه يتوقف أن يكون رجلا أو قردا أو خنفساء، أو كلبا، أو فأرة، أو حيوانا بمرحلة تحول، مسخا غير إنساني، ما دام عمليا من خلال الصوت والصخب ومن خلال الأسلوب يمكن للإنسان أن يكون حيوانا، وبالتأكيد من خلال قوة التحمل). كافكا - الآلة مركب من المضامين والتعابير التي تتشكل لدرجات متفرقة بواسطة مواد غير متشكلة تدخل في هذه الآلة، وتغادر بالمرور من كل الحالات الممكنة. أن تدخل أو تغادر الآلة، أن تكون في الآلة، أن تدور حولها، أن تقترب منها - هذه لا تزال عناصر من الآلة نفسها: وهذه هي حالات الرغبة المتحررة من كل التفسيرات.

 خط الهروب جزء لا يتجزأ من الآلة. في الداخل أو الخارج الحيوان جزء من الحفرة - الآلة. والمشكلة ليس في أنك حر ولكن في العثور على مخرج، أو على منفذ للدخول، جانب آخر، قاعة، تقارب. ربما هناك عدة عوامل يجب أن نأخذها بعين اعتبارنا: وحدة سطحية ونقية للآلة، الطريقة التي يكون فيها الرجال أنفسهم قطعا من الآلة، موضع الرغبة (إنسان أو حيوان) بالعلاقة مع الآلة. في “مستعمرة العقوبات” تبدو الآلة على درجة عالية من الوحدة ويدخل فيها الإنسان بكامله. وربما هذا ما يقود للانفجار الأخير وتداعي أو سقوط الآلة. في “أمريكا” بالمقابل يستمر "كاف" شيئا خارجيا لسلسلة كاملة من الآلات، وينتقل من واحدة لما بعدها، ثم ينفجر ما أن يحاول أن يدخل: الآلة - القارب، الآلة الرأسمالية للعم، وآلة - الفندق وهكذا.

ونواجه نفس المشكلة مجددا في “المحاكمة”. فالآلة مصرة على شاكلة آلة العدالة المفردة. ولكن وحدتها متحركة، هي آلة مؤثرة، تلوث، ولا يوجد بعد ذلك أي اختلاف بين الوجود في الخارج والداخل.

في “القلعة” الوحدة الظاهرة تفسح الطريق بدورها للتجزؤ الأساسي (“كانت القلعة كومة متداعية تتكون من مبان صغيرة لا تعد ولا تحصى ومتجاورة.. أنا لا أناسب الفلاحين، وعلى ما أخمن ولا أناسب القلعة. قال المعلم: لا يوجد فرق بين حياة الفلاحين والقلعة).

ولكن في هذه المرة عدم التمييز بين الداخل والخارج يقود لاكتشاف بعد آخر، نوع من التجاور الذي تتخلله وقفات، توقفات مفاجئة حيث تتجمع الأجزاء والتروس والمكونات:” الشارع الذي كان فيه، لا يقود إلى هضبة القلعة. فقط يحدد الاتجاه، وكما لو أنه شيء متعمد، ينعطف جانبا، ولكنه لا يقودك بعيدا عن القلعة كذلك. ولا يقربك منها أيضا”.

الرغبة بشكل ملحوظ تمر من هذه المواضع والحالات، أو من خلال كل هذه الخطوط. الرغبة ليست شكلا، ولكنها سيرورة، آلية.

 

.......................

هوامش:

1- لرقبة المؤنث المغطاة أو العارية أهمية مثل رأس المذكر المرفوع أو المحني:"الرقبة تحيطها ياقة سوداء". والياقة من حرير مزركش. الياقة من حرير أبيض رقيق وهكذا.

2- نجدها في رسالة مؤرخة بـ 20 كانون الأول 1902 موجهة لصديق من أيام الطفولة هو أوسكار بولاك: حينما نهض لاكي بوجهه المغطى بالخجل من مقعده كان رأسه الكبير المثلثي يخرج من السقف رغما عنه. وتوجب عليه أن ينظر للأسفل نحو السطح المثبت" (فرانز كافكا، رسائل إلى الأصدقاء، والعائلة  والمحررين. ترجمة: ريشارد وكلارا ونستون (نيويورك: شوكين بوكس، 1977) 6. وفي ورقة من المفكرة بتاريخ 1913: " كي تدخل من نافذة بيت في الطابق الأرضي بواسطة حبل مربوط حول رقبتك" (مفكرة فرانز كافكا: ترجمة جوزيف كريش. نيويورك. شوكين بوكس. 1948. 1:191.

3- وصف صراع. في فرانز كافكا. القصص الكاملة. نيويورك. شوكين بوكس. 1971. 39. (أول جزء من وصف صراع يطور باستمرار هذه الحركة المزدوجة للرأس المحني - المرفوع وارتباط الأخيرة بالأصوات).

4-  توجد ظهورات متعددة للصرخة في أعمال كافكا: الصراخ لتكون مسموعا. بكاء الموت. بكاء رجل في غرفة. "صرخت عاليا، لأسمع صرختي فقط والتي لم تحظ بأي رد أو أي شيء يمكنه أن يخفف من قوتها، ولذلك ارتفعت رغما عني ولم يمكن إيقافها حتى حينما توقفت عن أن تكون مسموعة". الشقاء. في كافكا. القصص الكاملة. 390-391.

5- على سبيل المثال: لم تفترض مارتي روبرت ببساطة تفسيرا أوديبيا نفسيا لكافكا: كانت تريد اللوحة والصور لتكون خيالات أوهام فنية trompe-l'oeil، معنى يمكن حل شفرته بمعاناة مؤلمة. ورأت في الرأس المحني بحثا عن شيء مستحيل.

euvres completes,ercle du livre precieux, 3:380

6- تقرير إلأى الأكاديمية. في كافكا. 259.

 

.......................

المصدر:

Gilles Deleuze and Felix Guattari (Translation by Dana Polan): Kafka: Toward a Minor Literature. University of Minnesota Press. 1986.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم