صحيفة المثقف
سامي عبد العال: علمانية على سنة الله ورسوله ( 2)
يطرح الإسلاميون فكرةَ (العلمانية المؤمنة) كلما دعت الحاجة إليها دون وعي، في محاولةٍ لإضفاء طابع (الإيمان الساذج) على السياسيات التي لا توصف (ولا ينبغي أن توصف) أساساً بالإيمان ولا بالكفر. هم يريدون أخذ (اللقطة الحية) أمام الجماهير التي كانت ومازالت تنتظر في حيز الواقع: ماذا هم فاعلون بالسلطة؟! لأنَّ الممارسة رغم عوامل الإحباط والفشل التي تكتنفها لهي أكبر ميدان لإختبار الشعارات والأفكار. مما يعني أنَّ الواقع قد يصبح (معياراً كاشفاً) من حيث إنكاره الدائم في الخطابات الدينية المؤدلجة.
وليس هناك (شيء مُرعب) لدى الإسلام السياسي أكثر من (حضور الواقع) على أعتاب أفكارهم أو العكس. فالإيهام الأيديولوجي الذي أحدثُوه بشكل خرافي نتيجة عبارات(التكفير والتهويل والتفسيق والتبديع) إزاء الممارسات السياسية للأنظمة والدول قد تمَّ اختزاله في (واقع متوّهم) قابل للإنفجار. وكلُّ إيهام متضخمٍ لايذهب سُدى كأنّه مياه سائلة تتبخر مع ارتفاع حرارة الشمس، ولكنه ينقلب إلى(عثرةٍ كأداء) أول ضحاياها هم أصحاب الإيهام أنفسهم.
فإذا كان الإسلاميون يرون أنَّ المجتمعات عاصية لله ومنحرفة عن الشريعة، وبالتالي مرتدة تستحق الملاحقة والهداية، فلتتحين المجتمعاتُ بدورها: كيف سيتصرف هؤلاء لو جلسوا على سُدة الحكم. وبالطبع لن يجلسوا إلاَّ بآليات وظواهر وتراث المجتمعات ذاتها وكذلك تراث البشرية المتطور حتى اللحظة. وأنه من المستحيل شطب (محو) هذا التراث بجرة خطابٍ. ومن ثمَّ كان التوظيف السياسي لهذا التراث يتلبس المواقف ويتلاعب بالأصول ويحيل المؤدلجين إلى(أشباح) على مسرح بطول الدولة وعرضها. ونحن نعرف أنَّ استعمال العلمانية كأحد أُطر الدولة الحديثة يتطلب تراكُّماً من جنسها لا مجرد خلط بين تراثين لهما من الأشكاليات أكثر ما لهما من الحلول.
ومن أسفٍ أنَّ الإسلاميين دائماً يمتلكون (الأقفال المغلقة) فقط لجميع أبواب الحياة، تلك التي تربط المشكلات والقضايا برباط صارم. ولذلك هم يقعون فريسة مواتية لفقهاء التحليل والتحريم والتكفير والتفسيق، بينما لا يستطعون صناعة (أية مفاتيح) لأقفال صنعوها بأنفسهم. وفي حمأة الواقع (سرعان ما ينسون البحث) عن المفاتيح أو يبحثون عنها تائهين في أضابير التاريخ، ولا يسمحون لأحدٍ أن يقدمها ممسكين بإغلاق الأبواب حتى أمام ما يعتقدون. وهذه هي الكارثة الكبرى التي أحدثوها في العقول وأعلقوا بها جدارن الأمم والشعوب العربية الإسلامية.
النموذج المُهجّن
العلمانية المتدينة هي النموذج الإسلاموي المهجّن (المهندّس وراثياً وتاريخياً) نتيجة التلاقي بين (مرجعيتين مختلفتين). المرجعية الغربية التي تأتيها العلمانية secularism مشتقة من معنى (العالم(world ولا شيء غير العالم ككيان (أنطولوجي وبيولوجي وطبيعي وكوني واحدٍ)، يحمل قوانينه وآليات تفسيره والأسباب الكافية لوجوده ويمكن للبشر فهمه ووضع النظريات العلمية له ونزع الأسطّرة عنه بما هو كذلك. وهذا يستند إلى كل تراث الحداثة الغربية في الفلسفة والفكر والعلوم، حيث كانت السياسة إمتداداً لهذا التراث.
ولذلك يستمد العلماني صوره الفكرية وأنماط حياته بحسب هذه المرجعية من جسد العالم وتحولاته النوعية، أي من طبيعة العالم (معرفة وفكراً وإنساناً وحياةً). وكان الأحرى أن تسمى العلمانية بـ (العالّمانية) world-ism ارتهاناً بــ(العالم كما هو) في وجوده وجوهره، لا أنْ تُسمى بــ(العِلْمَانيَّة - القول بالعلمية أو التعالمية) scientism من (الإهتمام بالعِلْم) كما يُشاع أحياناً شرقياً وعربياً.
والمرجعية الغربية تنطلق من مقولتي(الإنسان والإنسانية) كمصدر كافٍ لوجودهما كما أتيّا إلى الغرب الحديث والمعاصر، وكما تطورا في أسبابهما وتكوينهما الحي فردياً وجمعياً. وأنَّ هذا الإنسان يضع نظامه السياسي والفكري والإقتصادي الناتج عن إبداع عقله والمتسق مع منطقه الخاص، بدءاً من طرائق التفكير مروراً بأنظمة التعليم والمعرفة والتربية وانتهاءً بتأسيس الدولة وأسلوب العيش وممارسة اختياراته لنمط الخلاص الذي يريده تجاه حياته أو مماته.
ولا تعني تلك المرجعية بتنحية الدين إلاَّ بقدر ما يتحوّل إلى عائق تجاه هذه المعطيات أو حين يصبح بذاته (مرجعية مؤدلّجة) تلتهم ما يقابلها من مرجعياتٍ. أي أنَّ العلمانية في الغرب تترك الإمتلاء الروحي والديني للأفراد، بحسب إيمانهم الحُر الذي لا يفرضونه على الآخرين. فهؤلاء الآخرون غير معنيين بإيمان ذاك المؤمن مثلما أنه في المقابل غير معنٍ بإيمانهم. فالدين – من تلك الجهة- مرتبط بالاعتقاد الشخصي الحر، لا بالتفتيش في النفوس، ولا بأية سلطة مراقبة على الضمائر والأرواح.
استندت مرجعية العلمانية بهذا المعنى إلى ثقافة المجتمعات الغربية التي عاشت مفاهيم وتجارب الذات والحرية والفضاء العمومي والدولة والعدالة والتقدم واستيعاب التنوع والتعددية والتسامح والإندماج وأفرزت حقوق الإنسان والتشريعات التي تكفل الحفاظ عليها. واختفت تصورات اللاهوت حول محاصرة الآخر والغير وأتاحت حرية العمل والإنتاج وسيولة الحركة والانتقال والإندماج بين البشر، ذلك في ظل تقوية صورة القوانين تحت سلطة الدولة المحايدة التي لا تميز بين المواطنين وتتفهم مواقفهم في الحياة إلى درجاتها القصوى طالما لا تنتقص من حقوق الآخرين.
أمَّا من زاوبة المرجعية الدينية (الإسلامية أو غيرها)، فلا يكفي العالم في ذاته لتفسير الوجود الإنساني، فكلُّ العوالم والبشر والكائنات مخلوقات لله، وأنَّ كل شيء بالنسبة إليها لا ينفصل عن وجوده ورسالاته وستؤول إليه الكائنات حياةً وموتاً. وتباعاً ستتحدد مواقع الأشياء والمجتمعات والبشر من تلك المرجعية، لكونها تشكل جميع (العلاقات والمساحات) التي يتحركون فيها من الحياة المفردة أو المشتركة. وأنَّ ارتباط العالم بما هو خارجه في شكل الخالق كمصدر الوحي ليس ارتباطاً هامشياً ولا يمكن إرجاعه إلى مجرد (علاقة رأسية) في حالة إجتماع بشري(الله - العالم– الإنسان- المجتمع)، إنَّما يجب أنْ يكون الارتباط أفقيا كذلك حاكماً المجتمعات بصرف النظر عن إختلاف أفرادها وتنوع معتقداتهم وأديانهم.
ذلك أنَّ نمط الحياة والفكر يجعلها علاقة أساسية قبل أي شيء آخر، بل هي علاقة تقع بكل أهميةٍ من جوهر الأفعال الإنسانية قبل هذه العالم نفسه. وبالتالي سيكون طرف المرجعية الأول خارج العالم (الماوراء - الله - الوحي) والطرف الآخر داخل العالم(المابعد - الإنسان - المجتمع). فتصبح العلاقة مشدودة وعابرة للذوات لربط الطرفين(الخالق والمخلوق) ببعضهما البعض بما يحقق الغاية والمآل ويجيب عن أسئلة البشر. وبالطبع هناك تصورات ومعتقدات مكملة لهذه المرجعية أو بالأساس (تقع داخلها بهذا التكوين) مثل الحاكمية (مصدر الحكم والسيادة والتشريع في المجتمعات)، ومثل أسلمة الأنظمة السياسية (القوانين ونمط السلطة وشكل الحكم والإمامة)، ومثل نسق القيم العامة الذي يحكم نمط الاجتماع البشري (مكانة الآخرين والأديان الأخرى والتعايش والمشاركة في الحياة العامة).
مشكلة هذه المرجعية واردة في الفضاء العام، ليس لأنها ذات طابع خاص، من حيث كونها إسلامية أو غيرها، لكن لأنها تقدم تفسيراً جاهزاً وتاماً للحياة في العالم ولفاعليها ولآمالها وغاياتها القصوى دون النظر لكيفية تحقيقها ولا لمن يقوم بذلك ولا تضع في الحسبان الظروف الإنسانية الثقافية التي تفرزها أو تتعايش معها. وفوق هذه المعطيات جاءت مهمة المرجعية وسناريوهاتها مكتوبة سلفاً، فمن المعروف أن هناك خلافةً إسلاميةً بطابع ميتافيزيقي(الإمام العادل والمعصوم بحكم السلطة والغلبة) وهناك مسلمون بطابع ميتافيزيقي كذلك (العباد- أي درجة العبودية لله التي قد تنحرف في التفاصيل لتصبح عبودية للحاكم).
كلُّ ذلك مع اختفاء موضوعية(العقد الإجتماعي) الذي يحكم العلاقة بغير المسلمين، والمفترض أن يحكم العلاقة بغير المؤمنين إنْ وجدوا، فضلاً عن أنَّ امتداد المرجعية على هذه المساحة من (الماوراء إلى الما بعد) ومن (الزمان والمكان إلى الخيال والفكر) ومن (الدنيا إلى الآخرة) ومن (الحاكم إلى العباد) ومن (المعتقدات إلى الرغبات والأحاسيس)، جعل هناك إمكانية لظهور طبقات متواترة في الفضاء العام من(أصحاب الوصاية) فارضين رقابتهم الصارمة: على ماذا يعتقد الناس؟ وكيف يعتقدون؟ وإلى أيّة اتجاهات سيذهبون بهذا الإعتقاد أوذاك؟
التناقضات الحادة
ربما من أول وهلةٍ سيكون هؤلاء الأصياء(الأدعياء الجُدد في كل مرحلة) منصوصاً عليهم في صلب المرجعية الإسلامية ذاتها، وما فكرة (العلمانية المؤمنة) في مقابل (العلمانية الملحدة) إلاّ مثال على هذا المعنى. وسيكون ذلك في شكل فقهاء ورجال دين وجماعات وفرق ونحل ومذاهب وتنظيمات وأدعياء نبوة وخلفاء راشدين وأدعياء ألوهية بالمثل، نتيجة هذا الفراغ الميتافيزيقي(غير القابل للحسم) بحكم التفسير اللاهوتي للعالم والإنسان، وهذا ما حدثَ فعلاً في تاريخ الإسلام السياسي ولاهوت السلطة التي جرت بإسمه.
1- إذا كانت المرجعية الغربية قد حيدّت الأصول (الخالق - المعتقدات – الأديان)، فالإسلاميون أعتبروها (خاصة ومحابيةً) لهم دون سواهم. وهذا الوضع (يدفع) الناس إلى التمايز والتناحر ويشكل خطوة سابقة الإقرار لقيام أي مجتمع على أساس الفرز اللاهوتي. على الرغم من أنَّ الإسلام لم يقُل ذلك من قريبٍ أو من بعيدٍ، لكنه دعا إلى قبول الآخر والتعايش معه وإعطائه كافة الحقوق، بل والسماح له دينياً بممارسة العبادة والطقوس المغايرة لشعائر الإسلام. أي أن المسلم بحكم مرجعيته الإسلامية التي يراها فارزة يجب عليه وجوباً شرعياً أنْ يساعد الآخر غير المسلم على ألَّا يؤمن بها وأنْ ينكرها ولا يسير وفقاً لأحكامها وأنْ يرفض الخضوع لها .. كيف يتم حلّ وتحقيق هذه المسألة المتناقضة؟!
إنَّ هذا التناقض في(أصل المرجعية) ومحاولة الهيمنة عليها قد أفشلا كلَّ محاولات أقامة نظام سياسي ديني قابل للتطور وأجهض إمكانية زحزحة مفاهيمه خارج التكوينات الرعوية لفكرة الخلافة والسياسات الشرعية. أي أحال دون تطويرها أو تحولها إلى شيء عام مختلف وبمكن أن يشترك الناس فيه بتباين توجهاتهم جميعاً.
2- هناك هذا الإبتعاد المقصود (بحكم المرجعية الشمولية) عن الحياة المتنوعة والقابلة للمشاركة من الآخرين، وهذا ما يعني تكوين أفكار وممارسات سياسية عازلة لمنطق التعايش بين البشر. وكم ظهر ذلك جلياً لدى الإخوان، حيث كانوا جماعة من العميان، لا العمي الطبيعي لمن لا يبصر ولا يرى، بل العمى الأيديولوجي. فالأيديولوجيا (حجاب وغطاء كثيف) بحكم ما يعتقد الإنسان ويمارس ويكرر طوال الوقت. إنه فقط سيرى ما يريد رؤيته تبعاً لأفكاره وانحيازاته، بينما لن يرى أبداً (الواقع كما هو).
والإسلاميون عندما يقولون بعلمانية مؤمنةٍ، فهم لا يعتقدون أنَّهم بذلك يعلنون غياب الواقع المتنوع والثري بلا نهاية. والحقيقة أنهم يغيبون الحياة نفسها، لا مساحة المجال العام فقط. وبينما تقول العلمانية: فليكن تعبيرنا السياسي عن الواقع بكل تكويناته وعناصره حراً وعقلانياً وطليقاً، يغفل التوجُه الاسلامي الأيديولوجي واقعاً حياً بهذا المعنى.. كيف سيكون الوضع عندئذ؟!
3- مرجعة العلمانية تسمح بتداول السلطة في ضوء ثقافة مفتوحةٍ تقبل المختلف والمتنوع والمغاير تماماً شريطة الالتزام بقواعد اللعبة والتحول، فهل ستقبل العلمانية المؤمنة تداول السلطة بهذا المعنى أم أنها ستكشر عن (أنيابها المؤدلجة) معتبرة أن الإمامة والخلافة لا يتولاهما غير المسلم؟! وهذه مشكلة حقيقية، فقد يرفع الإسلاميون شعارات الحوار والتسامح وقبول الآخر، ولكنهم لا يعطون أية مساحة سياسية حرة لو شعروا أن هناك قوى سواهم تقترب من السلطة. وهذا يخالف مضمون التعددية والتنوع في الفضاء العام، ويجعل من العلمانية المؤمنة (مجرد طريق) للوصول إلى كرسي الحُكم ليس أكثر.
4- تدعو العلمانية المؤمنة إلى إحتكار الحقيقة، لأنَّ الأوصياء التي ستفرزهم سيربطون الحقائق بتأصيلات (فقهية وسياسية) لا يتفق عليها كافة الناس أو أغلبيتهم، لأنها ستكون عبارة عن إملاءات معينة. وسيتحول المجال العام إلى مجال وعظ وإرشاد ومراقبة باسم الدين عوداً على بدء. وسيكون كلُّ موقف سياسي نوعاً من الأختبار والتدقيق لمعرفة (الصحة من الخطأ) في الأقوال والأفعال، لتصبح المرجعية التي يفترض أنْ تكون موضوعية مرجعيةً خاصةً.
5- هناك انقسام كامن في لب (العلمانية المؤمنة) جعل كل جماعة دينية قابلة للتمرد ثم التشذر إلى عدد لا نهائي من الجماعات. أصل الإنقسام هو المرجعية التي تربط السياسة بالمعتقدات الدينية التي لها تأويلات وتخريجات متناحرة. فليس هناك من وسلية للتغيير الآمن والسلمي كما تفعل أنظمة الديمقراطيات المختلفة، لأن التغيير الوحيد يكون بحسب ما تريده المرجعية ذاتها في الجوانب التنظيمية وإعادة ترتيب الأولويات. ومن ثمَّ سيحدث هناك تكلس لمسارات السياسة وسيؤدي إلى مزيد من الصراع المكتوم والمقموع في الآن نفسه.
6- لا يخلو الأمر من إحالة دائمة إلى الجوانب المؤدلجة والمراوغة، فالأساس دائماً هو كيف يمكن استعمال (منتجات الحداثة) لصالح أيديولوجيا الإسلام السياسي بصورة من الصور. ولكن إذا كانت العلمانية في مرجعيتها الغربية ترفض تلوين المجال العام، فعملية تديينها تكشف أن هنالك نوعاً من السطحية في التعامل مع الثقافات العالمية التي أبدعت وطورت أدواتها ومجتمعاتها لتصل إلى مراحل متقدمةٍ في دائرة الحياة الإنسانية.
7- لن يحل مصطلح (العلمانية المؤمنة) ولا ممارساتها الوظيفية(مشكلة التبعية للغرب) التي كم إتهم بها الاسلاميون جميع الأنظمة السياسية الوطنية والقومية المتعاقبة. وهو مصطلح عام ينم عن عدم فهم (المسألة الحضارية) في العالم العربي والإسلامي التي إنتجتهم (كشخصيات وجماعات أزماتٍ وانحطاط ثقافي). وهي ذاتها المسألة الحضارية التي انتجت بالمثل الأنظمة الإستبدادية كأعراض لتخلف حضاري مزمن.
إذن تعد جماعات الإسلام السياسي والأنظمة الحاكمة (أشقاء من أم واحدة)، رضعوا تاريخياً من (ثدي ثقافي واحد) ونشأوا في الحاضنة الفكرية ذاتها. وعندما تتعارك (الجماعات والأنظمة السياسية)، فإنها تتعارك على المكاسب ذاتها وعلى احتلال المساحة التي يجب أن تتحرر في حياتنا وثقافتنا (مساحة الشعوب والتطور والحرية). وهذا ما جعل أهداف الطرفين رغم تراث الصراعات بينهما أهدافاً واحدة أيضا، وهي سلب ماهية البشر وقنص العقول وسرقة المنافع وتحقيق المآرب بإسم الدولة أحياناً وبإسم الله أحياناً أخرى.
8- تصنيف العلمانية إلى (علمانية ملحدة) وأخرى (علمانية مؤمنة) هو تصنيف نفعي برجماتي دون فهم لطبيعة العلمانية. لأنها ابتداء (ولو فقدت هذا لفقدت ماهيتها) ليست معنية بقضة الإيمان والكفر، لأن الدين يعود إلى مرجعية الفرد وحاجته الميتافيزيقية للإعتقاد والتدين، ولا تكرهه على ذلك ولا ترشح له ما يعتقد، غير أنها تهتم جُل الإهتمام بتساوى كل المعتقدات مهما تكن مصادرها من حيث الوجود والممارسة الخاصة لا التفضيل ولا المركزية ولا الانحياز الجمعي. ولو كانت هناك (علمانية مؤمنة)، فلن تكون هناك أيةٌ علمانيةٍ أصلاً، فقد تصبح أي شيء أخر إلّا أن تصبح رؤية حياتية وتواصلية للآخر والعيش الإنساني معه.
9- العلمانية نوع من (الإقرار والإعتراف) المطلقين بتنوع البشر فكرياً ودينياً وإنسانياً إلى أبعد مدى، وبالتالي فهي تحاول توفير وتهيئة الأجواء والظروف والقيم الداعمة لإنشاء (أنظمة سياسية) تكفل استمرارية التنوع والحفاظ على ثرائه. وتستعمل كافة الموارد الإنسانية من جهة العلوم والمعارف والفلسفات والفكر والآداب لجعل هذا الإعتراف ثقافة تجري من البشر مجرى الحقائق في حيواتهم العامة. ولو تدخلت فيما يؤمنون أو أقصتهم عن الفضاء العام لأي سبب من الأسباب التي تمت لهذا الفضاء بصلة، فإنها ستتحول إلى(أيديولوجيا قميئة) لا تختلف عن الإرهاب في شيء.
10- تعامل الاسلاميين مع العلمانية كـ(عدو) يجب أسلمته هو تعامل أسطوري وخرافي، يحول الثقافي إلى مادي والجوهري إلى سطحي والماهوي إلى عرضي. ومع الزمن سيصبح هذا (الكائن المتحول) وثناً مثلما يتعاملون هم أنفسهم مع المرجعيات والنصوص السلفية وشيوخها. إن تاريخ الأيديولوجيات والممارسات المتراكمة للأفكار الدينية هو الوحش الكاسر الذي يقلب المفاهيم إلى أوثان تجسد الحقائق وتضعها في إناء الزمان والمكان. لأن العقل البشري قائم لا محالة على التجسد والوثنية.
إلى الآن لم يدرك الإسلاميون أنَّ أزمة خطابهم ليست في حسم الصراع مع العلمانية ولا مع التنوير ولا في نجاح تديين العلمانية من عدمه ولا في اعادة انتاج الثقافة الغربية ومؤسساتها السياسية بصيغة إسلامية، بل تكمن في (الهوة الحضارية) الكبيرة بين عصور وأمكنة ومفاهيم وتصورات تستند إلى (تراث ونصوص وأفكار) لم يتم (التصالح التأويلي) معها على نحو جذري، وأن ما يقدمونه مختلف تماماً عما استطاعت البشرية أنْ تسهم به لسكان الكوكب وإن كان الإسهام مجرد خطوات في عمر الحضارة الممتدة عبر التاريخ.
الأزمنة بالتقريب هي: كيف يمكن إبداع صورة متقدمة للحياة المختلفة بحسب معطيات العصر والإسهام في الثقافات الكونية التي مازلنا نعاصرها زماناً، دون أن أن نواكبها ولا أن نتفاعل معها. ومالم ينتج الإسلاميون هذا النمط الحر من الثقافة المتطورة معترفين بقيم التعددية والتنوع الخلاق، لن يستطيعوا رأب (صدع القطيعة) بينهم وبين حالة العالم المكتنزة بالإختلافات الثرية. هم لابد أن يفعلوا ذلك شريطة تقديم إسهامهم دون صراع ودون أن تزيح إحداها الأخرى عكس طبيعة العصر والحياة!!
لا يمكن للإسلاميين أنْ يقدموا هذه الثقافة المفتوحة، لسبب بسيط أنَّ مبتدأ شروطها هو تفكيك منظوماتهم الفكرية بالمقام الأول. وهذا بالطبع مثل (محاربة طواحين الهواء) التي لا تتوقف عن الدوران، ذلك نظراً لنقص الوعي والعيش طوال الوقت في (عباءة الأيديولوجيا) بما لها من إستحواذ وهيمنةٍ.
د. سامي عبد العال