صحيفة المثقف

رودي دويل: منع التجول

2761 doyleبقلم: رودي دويل

ترجمة صالح الرزوق

كان في الشاعر عائدا من الجبهة البحرية، ونظر للأعلى، فشاهد امرأة تقترب منه. كان يراقب أوراق النباتات. وهبت عاصفة أوفيليا على دبلن وبدأت الأوراق تطير بعكس الاتجاه. كانت الأوراق تتجاوزه. وتمر كالسهم من جانبه، وتصعد على سفوح الهضبة. ولم يبق على توقيت منع التجول غير نصف ساعة. كان يفكر بها مسبقا، قبل أن تغادر زوجته لعملها. هل يعتقدون أن الحرب الأهلية ستندلع؟. إنه مجرد طقس عابر. عمليا كان يحب الدراما التي ترافق مثل هذا الجو. وحتى الآن وهو يعود إلى البيت - بخطواته الواسعة، كان يباعد بين خطواته، مثل إنسان لديه مهمة - شعر أنه صاحب علاقة، وهو جاهز، ويسابق الكارثة. وقد نفعه ذلك. كان يحمل الدواء في حقيبة من الورق، ولكن شعر أنه رجل لا يحتاج لدواء. كان قد طوى كراسي الحديقة ونحاها جانبا، ووضع علبة النفايات ذات الدواليب تحت الساتر. ووزع الشموع في أرجاء البيت، فقط من باب الاحتياط. وقام بواجبات إضافية أيضا. لقد أستعد تماما.

وأغرم بالكلمة - منع التجوال. وأغرم بأهميتها الخرقاء. سيترتب عليها وجود دوريات عسكرية ترعى الشوارع، وستتردد أصوات بمكبرات الصوت تحذر المواطنين للبقاء في الداخل ليتهربوا من المطر. الزموا بيوتكم - وإلا ستواجهون الموت!. وسيعقب ذلك رشات رصاص. والدم سيسيل على الجوانب، وينحدر من الهضبة، بينما الأوراق تتسابق وتتطاير على السفوح.

لن يتوجب عليه أن يزور أمه. ولا أن يعمل. ولا أن يخبر زوجته عن ما يعانيه وعن انسداد الأرملة. سيكون بمأمن أثناء منع التجوال لبعض الوقت.

قال بأعلى صوته: هيا. لم يكن هناك غيره في الشارع. لتهب الرياح، ولتصفع خديك.

ثم نظر إلى الأعلى وشاهد المرأة. كانت ترتدي واحدا من حمالات الأطفال، وكان وجه الولد للخارج، ينظر نحوه، من تحت ذقن أمه تماما. والآن يرى وجهين ييممان شطره. لم يكن طفلا.

**

سأل: ماذا يجب أن أفعل؟.

قالت الطبيبة: لا شيء.

- لا شيء؟.

أجرى فحصا طبيا قبل أسبوعين. فحص روتيني، وفرته شركة الضمان الصحي - بالمجان. القلب. البروستات. العينان. الأذنان. ولا يمكنه أن يتكر ماذا أيضا، وكل ما يذكره اختبار البروستات. كان الطبيب امرأة. ولم يهتم. استلقى على جانبه وقبض على ركبتيه كما أخبرته، ولم يشعر بالامتعاض، كان مسرورا، وحينما لاحظ كيف تخلصت من قفازيها المطاطيين في سلة المهملات وهي تقول له أنه بوسعه أن يجلس الآن. وشعر أنه إنسان حديث. وهذا شيء لم يخبر بناته عنه، لكنه لا يزال يتذكر، وهن تلقين عليه محاضرة حول الهوية الجنسية وسقف الزجاج في جامعات إيرلندا. وشعر بالرغبة أن يقول: لدي فكرة عما تتكلمن عنه. فقد وضعت طبيبة أصبعها على مؤخرتي، وكانت ماهرة جدا.

أعجبته محاضرات بناته.

بعد أسبوع من الفحص الطبي، اهتز هاتفه في جيبه. ولم يعرف الرقم المسجل على الشاشة.

- ألو؟.

كانت الطبيبة.

سألته: كيف أنت اليوم؟.

قال: عظيم. و أنت؟. أخبرته أنه مصاب بمرض في الأوعية القلبية.

- آه.

قالت: لا تقلق.

سألها: ماذا يعني بالضبط؟.

أخبرته بوجود نسبة عالية من الكوليسترول في الأوعية. وأحدها مسدود بنسبة سبعين بالمائة.

- سبعون بالمائة؟.

- نعم.

قال: هذا تقريبا ثلاثة أرباعه.

قالت: نحتاج لمزيد من الاختبارات. ومجددا لا ضرورة لإرباك نفسك حقا. بالمناسبة الحالة معروفة باسم انسداد الأرملة.

كان صوتها حذرا، وأعجبه ذلك.

سألها: الأوعية المسدودة؟.

قالت: نعم. الحالة. ولذلك يسمونها بهذا الاسم. انسداد الأرملة.

أعجبه جرس الكلام. وارتاح لفكرة وجود زوجة بالموضوع. جعلت لوضعه معنى ما. شيء وراءه فكرة نبيلة. وأنه يتألم بسببها. ولكن لم يكن يتألم. ليس هناك ألم. ولا حتى وجع، ولا حتى القليل منه. كل ما يعاني منه هو مشكلة بالقلب. حالة قلبية. مرض لعين.

- وماذا يتعين علي أن أفعل؟.

- لا شيء.

- لا شيء؟.

قالت: حاليا أنت بوضع جيد. وسنقوم بفحوصات إضافية، وسندبر لتصوير. وربما قثطرة. ولكن لا شيء الآن. ولا ترهق نفسك بالبحث في غوغل.

- حسنا.

قالت: لو فعلت ستجن.

سألها: ما هو التصوير؟.

قالت: تستطيع أن تبحث عنه في غوغل. ستجد معلومات وافية.

وشعر بعاطفة نحوها. لكنه لم يتذكر كيف كانت تبدو.

- وهل يمكن أن أبحث عن “قثطرة”؟.

- يمكنك ذلك. لكن لا تذهب لما هو أبعد.

أعاد الهاتف إلى جيبه وتابع العمل.

كتب كلمة “تصوير” على مغلف. وكتب “قثطرة”. وكتب “أوعية”  “قلبية”. و“لا شيء”. و“مرض”.

**

لم يكن طفلا في الحمالات. كان دبا دمية. وبلغه كلاهما - المرأة والدب - تقريبا. ولم يتوجب عليه أن يتحرك، أو أن يميل - لا أن يميل لليسار ولا اليمين - كما يفعل غالبا حينما يقابل الناس القادمين من الاتجاه المعاكس. كانوا بين الأشجار، هو وهي، ولذلك يوجد مجال واسع في الممر.

دب دمية - كبير، وقد امتلأت به الحمالة. دب بحجم طفل - طفل كبير. وكان يرتدي بلوزة فضفاضة، ولكنها ليست جديدة. وكانت أوسع من أي طفل يمكن أنه ارتداها. نظر للمرأة رغما عنه.  ولم يكن ينتظر أن ترد له النظرة بنظرة مثلها. ولم يكن يريد أن تنتبه له. وكانت تنظر أمامها. وشعر كأن جمهورا يتابعها من وراء النوافذ. ولم يكن معها، ولا قربها، ولا خلفها.

 وتجاوزته. ولم ينظر للخلف. وتابع مسيره نحو البيت. كان منع التجوال يقترب، والعاصفة في طريقها إليه. ورغب أن يتأكد من دواليب العلبة. وأن يضبط النوافذ و يتقين أنها محكمة الإغلاق. كانت تلح فكرة أن لا يتواجد في الشارع.

لم تكن تبدو مثل أم. وعمليا لم يفهم معنى ذلك. وكان بوسعه أن يسمع نفسه يقول لزوجته ذلك وكانت تسأله. يمكن أن تقول إنها كانت رفيعة. لا تبدو مثل امرأة حملت حديثا. كان لديهما أربعة أولاد. لقد عاش بجو الحمل و الأطفال. ولم يكن جاهلا بذلك تماما. ويمكنه أن يقول إنها نحيفة. نحيفة جدا بطريقة غير معتادة. كان وجهها - ماذا يقول عنه، الكلمة على رأس لسانه - فارغا. كان وجهها فارغا. هذا ما يعنيه. دون تعابير. ويمكن القول إنها مرت من جانبي، كما لو أنني غير موجود.

أخرج مفاتيحه. ليجهز المفتاح المناسب قبل أن يصل للباب.

وتذكر وزن كليونا، أصغر بناته حين يضعها في أحد تلك الحمالات. لكن لم يكن لديه حمالة، وربما لم تكن موجودة بعد، بالنسبة لبقية الأولاد، الصبي والبنتين الأكبر بالعمر. كان لديهم حقيبة على الظهر. مثل جعبة، لحمل الصغار.

كم كره حقيبة الظهر، ست أو سبع سنوات متواصلة وهي على ظهره، وليس بمقدوره مشاهدة الطفل وهو يمشي. كرهها حتى أصبح الطفل بعمر ليسمح له بالقبض على شعره أو ياقته ليتأكد أنه على ظهره وبحالة ممتازة. وذات يوم على شاطئ كيري منذ سنوات، كان يحمل البنت الكبيرة كيارا على ظهره. نهض باكرا في الصباح. كان دوره. وضعها في الحقيبة، وقبلها من جبينها، ورفعها على ظهره، وبدأ بالمسير. لم يتأكد من الطقس ولم ينظر من النافذة قبل المغادرة. قال له شخص، ولد كبير بقبعة على راسه: إن تمكنت من رؤية براندون في المساء ستكون بحالة عظيمة. شاهد الجبال في الليلة السابقة - بالتأكيد شاهدها. وهكذا أطعم كيارا، وألقى قطعة من الخبز في فمه، وغادر من الباب الخلفي للبيت الذي استأجره لمدة أسبوع. كان هناك حوت ميت على الشاطئ، كما علم وهو يتناول طعامه في البار المحلي - ولم يتمكن من تذكر اسم البار أو اسم الشاطئ. سار على طول زقاق، وعبر الشارع الرئيسي، وتقدم لمدة عشر دقائق إضافية على طول طريق يودي نحو الشاطئ. كانت كيارا بعمر ثماني سنوات، ولم يكن قد بدأ يكلمها من فوق كتفه كما فعل مع البقية، أو يكلم نفسه، ويسأل أسئلة لن يردوا عليها. كان الوقت باكرا - باعتقاده حوالي السابعة. لأنه كان قد تخلص من ساعته مع بداية العطلة - لكن كان الحر واضحا. وبلغ الرمال. كان الشاطئ مهجورا، ولا أحد غيره. وأدرك أن الحوت على يساره.

قالوا حوالي عشرين دقيقة على طول الممشى. بالتأكيد لن تفوت هذه الفرصة. وبدأ يسير على الرمل القاسي على حافة البحر، وفي مكان ما، بعد عشر دقائق، اعتقد أن كيارا ماتت. وتابع المشي حتى شاهد الحوت، وشم رائحته. وخاف أن يتوقف، واستسلم لمشاعره، مع أنه متأكد أنه مخطئ.  واقتنع أنه لم يعد نفسه، كان يقفز على الرمل كالأحمق. منطق الأبوة الجنوني. وتوقف حينما اشتم رائحة الحوت. هه محطته. ولم يتذكر الرائحة. ولم يتذكر الكلمات التي وصفها بها بعد عودته إلى البيت. نفاذة. ربما قال نفاذة لعينة. شيء لا يصدق - يا للمسيح. لا يعلم. ولكنه يعلم أنها كانت فظيعة لدرجة أنها منعته من المتابعة.

وتمكن من أن يشعر بها على جلده، أضافت الزيت لعرقه. وكان على مبعدة خمسين ياردة من الجثة. وتوقف لينظر لها. لكنه لم يهتم. كانت ظلالا متدرجة من اللون الرمادي. وهذا كل ما بقي في ذهنه. تخلص من حقيبة الظهر. وألقاها على الرمل. كانت كيارا بخير.

كانت نائمة. وكان يرتدي قبعة الشمس. فقد وضعها قبل أن يغادر البيت. وكانت رقبتها مغطاة. لم يخبر أحدا أنه اعتقد أنها ماتت. وأنه حملها وهي ميتة، لمدة عشرين دقيقة.  وهي الآن في فانكوفر. ستراسله بالسكايبي لاحقا. لم يفكر بالموضوع لعشر سنوات بعد. موضوع يومه على الشاطئ. ولم يخبرها - ولا يعرف لماذا. أصبح عند الباب الأمامي. ولكنه ابتعد عن الشرفة وعاد أدراجه للخلف من خلال الحديقة باتجاه الحاويات - بنية وخضراء وسوداء - ثم الإفريز. نظر مجددا. وتأكد أنها تحت طرف الحافة. وأن الريح القادمة لن تحملها. دفعا لمسافة أبعد. ولم يكن يعلم ماذا يفعل سوى ذلك. كان بمقدوره أن يضعها في البيت. لكنه لا يريد. ولم يكن يود أن يرصفها بصف واحد في الردهة لتراها زوجته. ربما ينظر من نافذة غرفة النوم ويراقب كيف حملتها الزوبعة مثلما فعلت ببيت دوروثي في “ألعاب الساحر” هذا شيء يمكن أن يرويه لكيارا. البنية سقطت على الساحرة العجوز في عرض الشارع.

وسمح لنفسه بالدخول.

  **

كان البيت خاليا. كما تركه. وستعود زوجته سريعا. لا بد أن تعود. لا بد من العودة للبيت قبل بداية منع التجول. وإلا ستضبطها دائرة الضوء، وتصبح هدفا لعسكري شاب من الجيش. تابع في البيت نحو المطبخ. تناول دواءه، العلب الرقيقة الثلاثة، من كيس الصيدلية الورقي. حبوب جديدة. نظامه. وضع كل شيء في صف واحد. كانت تبدو ناقصة. وكان بحاجة لمزيد من العلب. ستون هنج. يمكنه أن يسخر من نفسه وسيخبرها بهذه النكتة لاحقا. أخذ نظارة القراءة من الطاولة. كان يتركها على كتاب يقرأه. دائما يفعل ذلك. “الطريق إلى اللاحرية: روسيا، وأوروبا، وأمريكا”. لتنتظر ريثما يتناول دواءه. ويتأكد ماذا تناول عمليا.

كان يحب حمل ابنته الصغيرة كليونا. وعند أي عذر، تقريبا بالمعنى الحرفي، يعيدها إلى الحمالة، وجهها للخارج نحو العالم. ويبدأ - إلى المخازن، البلدة، الشاطئ، أي مكان لا على التعيين. كان يأنس للوزن الموجود على صدره وحقيقة أنه يرى ما تراه هي. ويشعر ببهجتها، وساقيها تتحركان، والوجوه التي تقترب وهي تبتسم - لها، ثم له. رائعة. جميلة. وهو فخور بابنته، وفخور بنفسه. كليونا في الحمالة، وكونور في العربة، كيارا وماييف على الجانبين يمسكان القبضتين. نحو وسط المدينة، عبر الزحام، ثم هنري ستريت، وغرافتون ستريت. وكان الناس يفسحون لهم الطريق. وهو لم يفقد طفلا رغم ذلك.

أرسل له الطبيب أوراقا بالبريد. كتب في إحداها:” دهون الحياة - تخفيف مستوى الكوليسترول العالي”. لم يكن بدينا. ولم يقرأ المحتويات. فقط أخذ نظرة منها. هناك مقال عن ممثل مبتسم من “مدينة المعارض” استطاع أن يتحكم “بكوليستروله” وهناك صفحة عنوانها “زاوية الأطعمة”. هناك ورقة أخرى. “القسطرة وفتح الأوعية”.

لم يجد صورة في تلك. تعريفات، أجوبة على أسئلة. واستمارة موافقة منفصلة في الخلف. لم يقرأها أيضا. تخلص من نظارته وعاد إلى ستون هينج. أصغى للريح التي تصفر. والأغصان المتساقطة، وأحجار السطح وهي تكشف المسنين.

وتذكر زوبعة شارلي - في عام 1986 حسب معلوماته. جلس على سريره طوال الليل وانتظر أن تطير النوافذ وتلطمه، وأن تمزق الستائر، وأن تدفعه نحو الجدار. عاش وحيدا. كانت هذه آخر مرة شعر بالخوف الفيزيائي، واعتقد أن هذا صحيح. كان ذلك قبل ثلاثين عاما.

نظر للعلب الثلاثة.

قالت مختصة القلبية حينما التقى بها هذا الصباح: الجرعة القصوى. لتكون على الجانب الآمن.

- حسنا.

- ولك مني نصيحة.

- نعم؟.

قالت: لا تنظر في غوغل.

_ أخبرتني زميلتك بذلك أيضا.

قالت: جيد. لديك معلومات كافية. وسنخبرك بالمزيد مع تطور العلاج.

كانت تنظر نحوه من فوق نظارتيها، كما لو أنها توقفت أن تكون طبيبة وأصبحت زميلته. وتساءل لاحقا، حينما كان يتأمل البيض المخفوق الذي طلبه في الكافتريا المقابلة للمستشفى، وقطعة الزبدة الفضية التي تغطي الخبز المحمص، إن كان ذلك هو من يراها هكذا، أم إن كانت هي، مدربة بهذا الشكل أم أن هذا جزء من شخصيتها. تقبل نصيحتها. ولم يلجأ للغوغل. “أمراض الأوعية التاجية”.

نظر للعلب. وتناول أكبرها. روزوفاستاتين تيفا فارما. كأنه اسم نجم في السماء. أربعون ميليغراما. الجرعة القصوى. كما قالت طبيبة القلبية. تلك الحقيقة أثرت به.

- علينا تخفيض الكوليسترول لوضعه الطبيعي.

- حسنا.

معظمها يسبب الدوار. قرأ العبارة على العلبة. تناول أحد العلب الأخرى. الشيء نفسه - قد يسبب الدوار. إن تأثرت لا تعمل ولا تشرف على الآلات. هل هذا يشمل الكومبيوتر؟. أو الطابعة. وسخر من نفسه أيضا، وهو يخبر زوجته بالنكتة. سأسقط من فوق الكومبيوتر - بعد ثوان من تناول الدواء.

وهناك في العلبة ورقة - ورقة أخرى. الموت للأوراق اللعينة - فتحها. كانت تبدو مثل تعليمات استعمال ترافق الغسالات أو الخلاطات: اقرأ كل هذه الورقة بعناية قبل أن تتناول هذا الدواء لأنها تتضمن معلومات تهمك. لم يقرأ ورقة إعلانات في كل حياته. ولذلك حمل التحذير على محمل الجد.

قالت له طبيبة القلبية: حدد موعدا في يومك، صباحا أو مساء. ما يناسبك.

لم يكن يريد أن يكون إنسانا ينسى تناول حبات دوائه، أو إنسانا يتذكر حبوب دوائه باستمرار. أين هي الحبوب، أين تركت الحبات؟. هذه العبارة كانت تحمل أحفاده - أولاده - على الضحك كلما سمعوها. ولا زالوا يذكرونها، بعد عشر سنوات من جنازة أبيه، حينما يبحثون عن الملح على طاولة الطعام أو عن جورب مفقود تحت السرير - كلما كانوا في البيت.

لم يكن لديه أحفاد ليسخروا من حبوبه. وقد تناولها على كل حال - الحبات - في الصباح، مع الحلوى. أخبر طبيبة القلبية أنه يتناول الحلوى يوميا في الصباح. آه، هذا عظيم. شيء يساعدك. ثلاثة أقراص - يسميها الأقراص. هذا أفضل، تعبير ناضج، بالمقارنة مع الحبة.  أين هي أقراصي، أين تركت أقراصي؟. واحد من كل منها، مرة في اليوم. اثنتان ستاتين، واحدة اسبرين. لا شيء معقد. وسيتدبر أمره. فتح العلبتين الأخريين. واحدة من مربعات الحبوب تحمل أسماء الأسبوع بمربعات محددة - الإث. الثلا. الأرب. هل هذا يعني عليه الانتظار حتى يوم الاثنين قبل أن يبدأ؟. لو بدأ الآن، يكون قد تناول حبة يوم الإثنين. قرص يوم الاثنين - ولكن في يوم الأربعاء. يا له من أرعن أحمق. نهض وتناول كأس ماء. نظر من نافذة المطبخ حينما كان يفكر. شاهد ثلاثة أغصان على شجرة بيت الجيران تهتز. ثم تنحني. وسمع الصفارة. انطلقت في مكان ما. وسمع خشيش الأسلاك. واعتقد ربما حصل ذلك.

**

- أين هي حبوبي؟.

جاءت أمه تركض. تركض بخفها المنزلي. قادمة من المطبخ.

- أين هي حبوبك؟.

- هذا هو سؤالي اللعين. أين هي؟.

كانت تخشى أن يسقط زوجها ميتا إن لم يجدوا الحبوب. تقريبا سيموت. وستشاهد ما سيجري. سيصاب بأزمة قلبية. وبعدها عملية جراحة في القلب. كان أمامها على طاولة المطبخ. ثم وضع وجهه في حسائه وأمكنها مشاهدة العرق يسيل من جبينه.  مثل حنفية. مثل مسيل مائي. اتصلت به - ابنها - وأخبرته عن وصول سيارة الإسعاف، كان رجال النقالة يدخلون للبيت. تحرك وقادها بالسيارة إلى بومونت - المستشفى. نظر إلى وجهها، جانب وجهها - الخوف، التوتر. لم تكن تشبه أمه.

سألها: ماذا كان نوع الحساء؟.

قالت: قشدة الخضار.

وابتسمت.

- نفايات مزعجة.

وجد حباته، كان يعلم أين هي بالضبط - وهذه أهم نقطة بالموضوع. أنفقت سنوات تبحث عن حبوبه، وتحفظ أباه على قيد الحياة. حتى بدأ الأحفاد بالسخرية منها، والطاغية المسن اللعين قرر التآمر معهم.

ولكنه رآها قبل أن تكون جزءا من طرائف مساء الأحد. شاهد وجه أمه ووالده. رعبها ومتعته، قبل أن يحول الأولاد ذلك لجزء من طرائف كل أسبوع.

- أين هي حباتي؟.

لم يكن لديه حبوب. كانت أقراصا. وهو يعلم أين يحتفظ بها. فهو ليس مثل أبيه.

كان يضعها فوق الثلاجة. سجل ملاحظة في هاتفه يقول فيها: الأقراص = الثلاجة.

**

جلس على السرير. أمكنه أن يشاهد الأشجار في الشارع. وكانت الأوراق تسقط منها، أوراق السنديان - بحجم يد سمراء كبيرة - تتساقط، وتطير، وتمسكها الريح وتسوقها لأعلى الهضبة. لو رفع نفسه قليلا، سيشاهد علبة النفايات تحت الإفريز. مر شاب على دراجة. كان غطاء رأسه منفوخا، تهب فيه العاصفة. وتلك هي كل الدراما - شاب على دراجته.

بلغت الساعة الثانية والصنف. واستمع لأخبار وقت الظهيرة. كان الطقس يقضم غرب البلاد. ورافقه انقطاع بالكهرباء. وأغلقت الطرقات. وسقوف من المعدن خلعتها العاصفة وجعلت الأكواخ الريفية مكشوفة. في الخارج - هنا، في دبلن - كان اليوم عاصفا. وهذا كل شيء. كان جالسا على السرير، ينتظر. ورغب لو يشاهد سيارة تطير في الهواء، أو سنديانة بعمر مائة عام تتدحرج. أراد أن يشاهد شيئا جسيما - أي شيء.

لكن لم ير أي شيء.

**

كانت الأوراق هي كل الحكاية. والحقيقة أن شيئا هاما لم يحصل. وكانت الأوراق تطير بالاتجاه المعاكس. وكذلك المرأة صاحبة الدب الدمية. تلك هي حكايته.

استلقى على ظهره فوق السرير. وسقط في مساحة بيضاء ثم في العدم. لا تفكير أو أي شيء. وغلبه النوم.

**

استيقظ و ذراعه الأيمن يتألم. الألم - الوجع - أيقظه. هل تلك إشارة؟. هل الألم بيمناه أم بيساره وهو تمهيد لذبحة قلبية؟. أم أنه الكتف؟. لا يعلم. لم يتأكد. كانت ذراعه مخدرة. دون إحساس فقط. كأنه يستلقي عليها. أخبرته زوجته أنه نام و ذراعه مطوية، كما لو أنه يجلس على كرسي وسقط منها على السرير. ولكنه لم يصدقها.

اعترض بقوله: ليس كل ليلة.

- نعم - كل ليلة.

- كيف تعرفين؟.

- رأيتك.

- هل كنت مستيقظة؟.

- أحيانا.

- لماذا؟.

- يا للمسيح. ما هذا السؤال.

وهي هناك الآن. كانت تجلس بمكانه قبل أن يغلبه النوم. وشعر بثقلها على الفراش أولا. ثم شاهد ظهرها. كانت تنظر من النافذة. والجو مظلم.

- أي شيء يجري هناك؟.

قالت: ليس تماما. الزوابع ليست كما كانت في الماضي.

- مثل كل شيء آخر.

عليه أن يخبرها. لديه انسداد الأرملة، وستكون أرملة.

قال: لقد وصلت للبيت قبل منع التجول.

قالت: بصعوبة.

لم يتحرك. لم يرغب بالنهوض. وأراد أن ينظر إليها. من مكانه. إلى مكانها. كان دائما يحب أن يتبادل معها النظر.

سألته: هل لدينا طعام؟.

- كميات كثيرة.

- ممتاز.

- سأشعل الشموع في أرجاء البيت. على سبيل الاحتياط.

- يمكننا أن نتخيل أنه حمام بخار.

لم تتحرك. ولم تلتفت لتأخذ منه نظرة. مال قليلا - تلاشى الخدر من ذراعه - وضع يده على ظهرها. وشعر بها تتحرك. ولامست يدها يده. لمسة فقط.

قالت: انهض. لنستمع للأخبار. الغرب بحالة استثنائية. في غالواي وكيري وبقية الأماكن الحبيبة.

- بطريقة المحيط الهادر.

- الآن أنت في الطريق الصحيح.

ونهض.

قال: شاهدت شيئا.

أخبرها عن المرأة التي التقاها، المرأة ذات الدب الدمية.

قالت: قصة محزنة.

وسمع صوت حذائها يسقط على الأرض. والآن أصبحت قربه.

سيخبرها حالا. سيخبرها عن أقراصه وقلبه.

قال: أشتاق للأولاد.

وانخرط ببكاء مرير.

***

.........................

* منشورة في النيويوركير. عدد 2 كانون الأول 2019.

* رودي دويل  Roddy Doyle روائي إيرلندي من مواليد 1958. يستعمل الحوار على حساب الوصف و خبايا الشخصيات. من أهم أعماله “الإلتزام” 1987، “الشاحنة” 1991، ” ثلاثية مدينة باري”. حاز على المان بوكر عام 1993 عن روايته “بادي كلارك، ها ها ها”.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم