صحيفة المثقف

سامي عبد العال: رأسماليّة الكاميرا.. مَشاهِد من أُرستقراطيةِ المُهمّشين

سامي عبد العالدون منازع باتت (الصورةُ) ظاهرةً مؤثرةً عبر العالم الافتراضي، ومثلَّت في حد ذاتها (قيمة رمزية) تجتذب مزيداً من الأنظار، وتطلق أثيراً مكثقاً من الأغواء (الظهور- التجلي – الجاذبية – الفضول- التضمين- الفعل)، حتى أنّه بإمكانها (في ميدان السياسة) تحريك الجُموع بفضل (الصدى البصري) القابل للتردد والإستعادة بحجم الواقع. لأن الصورة في لحظة المشاهدة تسرق (العين) طاغية على كافة الجوانب الأخرى. فهي تعطى ما تجسد كافة الإنتباه والتأثير كأنه لا يوجد شيءٌ سواها.

وضمن هذا الإتجاه (لو نتذكر كما سأحلل تباعاً)، اعتمدت أحداث الربيع العربي (وهكذا تفعل كل الأحداث والأفعال السياسية) على تجليات الصورة وآثارها البعيدة. فلكّمْ مَثّل الحراكُ الشعبي آنذاك عملاً فنياً (تلفزيونياً وافتراضياً) كنّا نتعلق بمتابعته يومياً لأوقاتٍ طويلةٍ. ذلك بأثر المعاني (كرسائل خطابية ونصية مُوقّعَةٍ) على الهواء مباشرةً خلال بثِ المَشَاهِد من جميع الأطراف. كانت الشاشات والأسطح الافتراضية هي كل الواقع لا غير، حلبةَ الحياة الغاصة بالحركة والقابلة للأفعال وردود الأفعال على صعيد السياسة. وانتبهت إليها جماهير الكرة الأرضية على خريطة العالم متعلقة بتقلباتها المتسارعة. الصورة في حمأة الأحداث كانت فكرة وسلاحاً، وسيلة وغاية، استراتيجية ورصيداً للمعنى.

تقديم

"رأسمالية الكاميراً" capitalism of camera هي عبارة عن مجموعة القيم الرمزية التي تكمن في عمل الكاميرا. بدءاً من قدرتها الكاشفة بالتصوير وزوايا الرؤية، أي وضع الموضوع في حالة انكشاف كمعطى مهم، وليس انتهاء بأهمية الصور بوصفها عملية توثيقية وما يترتب عليها من معان إجرائيةٍ وحقوقية وقانونية واجتماعية وسياسية بالطبع. ونظراً لأنَّ الكاميرا (عين ثالثة) لحاملها، فهي مجانية اللحظة بلا مقابل وقوية التأثير دون حدود، وبخاصة مع وجود الصور في العالم الإفتراضي. ولذلك تحمل الصورة إغواءها الخاص مثل النقود والأرصدة العينية والمادية والمقتنيات النفيسة تماماً. وفي سياق الأحداث الثورية (بفضل الفعل العام) كانت الكاميرا مرجعاً أعطى صكاً لتصوير أي شيء واستعماله في أغراض إعلامية وحركية سياسية. بجانب ذلك منحت الثوار والمهمشين ملكية فعلية لحقوق الإدلاء بآراء معينة أو تجاوز الحدود تجاه المجالات العامة.

ظهر ذلك جلياً مع الأبعاد الأيديولوجية والثورية التي تنازعت المواقف والخطابات مع حركة الشارع في غير دولةٍ عربيةٍ. ولاسيما مع تغطيات الإعلام والوسائط الافتراضية التي سمحت لبعض القوى الإقليمية والدولية بالتدخل في توجيه الجموع أو لرسم صورة معينةٍ لها ارتباطاً بمصالحها وتأثيرها على الأرض. حاولت الفضائيات (صناعة الصورة)، حيث أدركت أهميتها القصوى، ليس أمام عيون العالم المنتظرة بشغف: ماذا سيحدث من تحولات سياسية؟، بل كان ذلك إزاء حواس ورغبات الفاعلين الثوريين والمتظاهرين أنفسهم. صناعة الصورة هي القوة النافذة التي تمثل أبرز أساليب (التدخل عن بعد)، هي استراتيجية الحرب الناعمة التي تقطع وتحسم الصراعات دون أثر مادي ملحوظ.

أثناء أحداث الربيع العربي، كانت اللقطات المتلفزة أو الديجيتال (كبسُولات بصريةً) تذهب إلى حواس المُتابع وإدراكاته في وقت واحدٍ. وهي ضمن المجال العام، تُسيِّسُ (نمطَ الرؤيةِ) الخارج لتوه من التغطية الإعلامية داخل وسيطٍ تقني جذّاب. فلا يُؤثر أيُّ عمل سياسي دون وسائط تُخْضِعه لمنطقها، جاعلةً المتلقي جزءاً من (حدوث) الحدث، حيث تتوالى تداعياته مع تفاعلها إزاء الواقع بمجمل أبعاده. بل كانت الأفعال السياسية والتظاهرات نفسها (نصوصاً مرئيةً)، تحمل (مع سياق أو غيره) معرفةً ودلالةً وقدرات على كتابة شفافة عبر اللاوعي، هي تحديداً كانت تشحن لا وعي المتلقي بما يجب اتخاذه من مواقف (مع أو ضد) الأحداث وخلفياتها السياسية.

تُرىَ .. كيف نقرأ (الاقتصاد السياسي) المنقُوش في جوانب المشاهد والصور؟ هل سنكمل نصّها السيميائي من خلفياتنا الثقافية؟! وهذان السؤلان سيركزان على الصور التي كانت بين أيدي الثوار القائمين بالأحداث والمحركين لأبعادها في الواقع. إذ وجدوا أنفسهم في أرض افتراضية تتماهي مع هذا الواقع ولا يوجد فاصل حقيقي بينهما. الإفتراض يخاطب الوعي واللاوعي مباشرة في آن واحد، يدفعهما عبر الشعارات والتظاهرات لتحقق الآمال وما تصبوا إليه الجماهير، وهو ما يريد هؤلاء تحقيقة في الحياة السياسة وتغيير الأنظمة وتداول السلطة وتحقيق العدالة والحرية والمساواة. بينما الواقع كئيب وينضح بالممارسات الغاشمة لسلطة سياسية لم تفِ بوعود الحياة الإنسانية الكريمة. فهؤلاء الثوار كانوا (فقراء الآمال والأموال والمآل) معاً، ورأوا أن فقرا مزرياً مفروض عليهم بفعل فاعل هم خارجون لتغييره.

اقتصاد افتراضي

كانت الفكرة السابقة تلّحُ مع لعبة " الصورة والمٌتظاهر" في شوارع الربيع العربي ومنحنياتها. لننظُر بدايةً: إلى أي مدى صنعت هذه اللعبة اقتصاداً افتراضياً للفاعلين في سوق الثورات؟! وكيف تبرز علاقة رأسمال الكاميرا بالرأسمال العيني، غرائزه وأسواقه؟! وهذه الأسئلة بطبيعة الحال تفترض أنَّ السياسة تعني (السوق العام) الذي يظهر فيها البائعون والمشترون للأحلام والأمال، وأنَّ الصور أشبه بالعملات النقدية التي تقرب أصحابها من المكانة وتمنحهم فرص التعبير عن متطلباتهم. لاحظنا في جميع الثورات العربية تسلُّل الكاميرا كإطار استثماري دائم. فلم تغب الكاميرات عن الأنشطة العامة دعماً أو رفضاً أو تسويقاً أو أدلجةً أو تآمراً أو ترويجاً أو قمعاً أو محاصرة. هذا نظراً لأهمية الصور كوسيطٍ فاعلٍ من جانبٍ، وبوصفها تقنيةً متاحةً لجميع الأطياف من جانبٍ آخر.

ذلك بناء على الاعتبارات التالية:

كانت اللقطةُ البصرية تحمل الوقائع وتُؤطرها. وفوق ذلك كانت تُدخلنا إلى صناعة السياق الثوري اليومي وكيف سيكون مؤثراً. ورأينا كمْ أخذ المتظاهرون شحناتّهم (بالتبادل الدلالي) مع الواقع عبر مخزون الكاميرا وقت انسداد الأفق السياسي. وبهذا كم عبرت الكاميرا عن (أرصدة رأسمالية رمزية) مهمةٍ لدى الثوار والنشطاء.

طرحت اللقطة نفسها بلغةِ النُدرّة. كانت ثمة " صُورة نادرة "، وأخرى " لقطة ساحرة "، وأخرى لقطة " مُعبرة "، وغيرهما" لقطة مُوحية" أو" لقطة صادمة " ... إلى مالا نهاية وفقاً لتحولات الأحداث. ونحن نعرف أن الندرة بُعدّ اقتصادي دالٌّ اجتماعياً وثقافياً بالنسبة لنوعية المشاهدات ارتباطاً بما يجري. نحن نطلق اصطلاحَ " عُملة نادرة " بالنسبة لقيمة الأشخاص أو للسلع الرمزية. إذن في (العالم الإفتراضي)، لاتقل اللقطةُ الثرية بالمعاني والدلالات عن سبيكة الذهب إنْ لم تزد عن الألماس النادر.

لئن كانت القيمة النقدية للسلع كامنةً بتداولها، فإنَّ الصورة بها تلك الخاصية التداولية. لأنَّ عالم الانسان نسيجٌ متفرد من الصور العالقةِ. وإذا تأملناها لوجدنا مفاهيم وقيماً وعيونًا لا حدود لها تنظر إلينا. كذلك تكتسب أهميتها من وتيرة الأحداث التي تتفاعل معها. فالصور سندات رمزية في بورصة التداول التي تدير أسواق الأفكار والأهواء والأحلام والرغبات والأفعال العامة في المجتمع ([1]).

الصورة تفترض مع عناصرها وجودَ الآخر. إنَّها تُضيفُ معانيه ومواقعه كمدخرات دون إرجاءٍ ولا استئذان. المعروف خلف كواليس الأفلام أنَّ فناناً كمحمود المليجي مثلاً كان يتمتع بحضورٍ قوي أمام الكاميرا. حتى أنَّ الفنانين كانوا يخشون الوقوف تجاهه وينسون السيناريو المكتوب والمعد سلفاً. لأنَّ أداءه التمثيلي غير التقليدي يسرق الكاميرا. ولنلاحظ هنا أنَّهم موجودون بنفس اللقطات وإلاَّ لا قيمةَ لأدائه ولا لأدائهم. لكن العبارة تبرز معنى آخر هو: اضافة المُتلقي وكثافة الشخصية إذ يقدمها فنان موهُوب للدور.

الصورةُ لا تتوقف عن الدلالةِ عقب طرحها، ولا تكتمل أبداً. هي تظل باقيةً رغم مرورها أو حتى رغم انصرافنا عنها، بل وتُواصِل استدعاءَ تأثيرها في الذاكرة البصرية. كان الثوار في إطار الصور واللقطات يعرفون ذلك جيداً. ما من نشاطٍ ثوري إلاَّ وتمّ بهذا الأثر السيميائي البعيد، لكي يقول ما لم يستطع قوله في الواقع ([2]). هم يدركون بذكاءعينَ المتلقي وشغفه بمتابعة الصراع السياسي بين الأطراف ويراهنون على هوسه بالتوقعات واستنتاج الأثر القادم.

لعلَّ صورَ سقوط الأنظمة العربية الواحد تلو الآخر قد عكست تحولات النبلاء المعاصرين. هؤلاء الثوار المسحوقون حتى الجمجمة وجدَوا أنفسهم فجأة ذوي أهمية على قارعة الشاشات الفضية. كل العيون تتعلق بهم ويتم النظر إليهم كأرصدة للزمن والحياة في جعبةِ الواقع. ذلك على خلفية (هتافات مرئية) أعطتهم أرصدةً سياسية طائلةً بلغة الإقتصاد. لأول مرةٍ في حياتهم المهمشة يقفون مزهُوين كأرستقراطيين متأخرين. تتلهف عدسات الكاميرات والحورات السياسية المنتظرة أن تلتقط ماذا هم فاعلون وكيف يرون الأحداث؟ وبينما كانوا في الأمس القريب (ضائعين وتائهين) بين الأقدامِ والظلال والأوحال الاجتماعية، فإذا بهم يستعيدون بريقّهم السياسي والحركي خلال التاريخ العربي المعاصر. وغدوا يُرْفعون من وقت لآخر عالياً فوق الأعناق ليُصبح رمزَ الموقف السياسي ببطولةٍ شبه مطلقةٍ.

سوق الألقاب

المهمش بلغة نجيب محفوظ هو ذلك " الفِتُوّة الجديد ". وكان " برتوكول الفِتُوّة " ضمن رواية الحرافيش أنْ يصعد أحدُهم بعد ذروة الصراع إلى موقعه المنتظر لحمايةِ الحارة المتروكة نهباً للفوضى والبلطجة وإذلال الناس ([3]). ها هو المُهمش المعاصر يحتل مسرح النجومية عقب معارك الربيع العربي. فكم كان يودُّ أنْ يسمعَ من نفسه ومن جوقة الثوريين أنيناً سياسياً حبسه لسنواتٍ. أيضاً أراد سماع الهتافِ بانتصار مدوٍ لم تسبقه إليه إلا ثورات العبيد قديماً. الفارق بينهما أنَّ أسلافه المهمشين ظلوا عبيداً. لحقتهم لعنة الاسم وهم في مجدهم الثوري، حتى احتفظ لهم التاريخُ بهذا التعبير القميء (ثورة العبيد).

بالمقابل نالَ المُهمشُ العربي المعاصر (ألقاباً تليفزيونيةً) شتى: ناشِط سياسي، مُتظاهر، ناشِط حقوقي، مُدافع عن حقوق الثوار، عُضو في مؤسسات المجتمع المدني، حَركي، مُدوّن الكتروني، راصد لفعاليات الثورة، مُحلل سياسي، معتصم في الميدان، محاور في برامج التوك شوtalk show، عضو روابط المفقودين والشهداء، متمرد سياسي، عضو حركات افتراضية، كاتب يوميات، خبير في الحركات السياسة، مُوثِّق أحداث، محلل سياسي، مُصور لمواقع التظاهر، مُراسِل صانع للخبر، مُعلِّق افتراضي، مُتجول ثوري، ... إلى أخر الألقاب الرأسمالية الرمزية. حيث وضعته اللقطات في قلب أسواق الحدث الثوري: كرّاً وفرّاً، مُصَاباً ومصِيباً، مقاوماً ومهزوماً، صاحب منصب ومسجوناً، شهيداً ومنتصراً.

هكذا أغدقَ الاعلامُ على المهمشين أثناء الربيع العربي ألقاباً دونما حسابٍ مثلما ستظهر أرستقراطيتهم مفتوحةً بلا نوافذٍ. وبخاصة أنَّ اللقب في تراثنا الثقافي يساوي (شيئاً ثميناً) إزاء الآخرين في الحياة العامة ([4]). شيءٌ لا يقدره حق قدرة الاجتماعي إلاَّ من يشعر بـ "تنميل الدماغ " مع ألقاب الباشا والبِك والأفندي والسيد والأب والقائد والرئيس. بتوصيف محمد حسنين هيكل كانت لأسماء وألقاب الباشوات والبكوات في مصر أصداءٌ ورنينٌ من نوع خاصٍ، بل كانت ذات معان شديدة الخصوصية لدى قطاع كبير من الناس ([5]). وإلى عهدٍ قريبٍ قبيل ثورة يوليو عام اثنين وخمسين، كانت الألقاب تُشترّى بآلاف الجنيهات وبأطيان زراعية وعيون عقارية باهظة القيمة. لدرجة أنَّه حينما أَلغت ثورة يوليو" الباشوية " مات البعضُ ممن كانوا يحملونها نتيجة صدمتهم النفسية من إختفاء الهيبة والمكانة المفترضة. ومنهم من رحل خارج مصر هروباً من مصيره الاجتماعي عارياً دون ألقابٍ، وهناك من انتحر اجتماعياً بالإنزواء والتخفي داخل أمور حياته الخاصة.

بيد أنَّ المُهمش المعاصر قد ازدادَ ثقةً مع رأسماله الافتراضي الجديد. لقد وضع ساقاً فوق أخرى أمام أعتى الرؤساء العرب محبوساً أو مقتولاً أو هارباً (حسني مبارك في مصر وزين العابدين في تونس ومعمر القذافي في ليبيا). بينما كان المهمش بالأمس القريب يتخفى من مجرد سماع خطاباتهم المتلفزة. كان يهرب من أي حلمٍ ثوري يراوده ليلاً وسط العشوائيات والأحراش والخرابات القاطن بها. بل كان ينتفض من غطيط منتمه مُستعيذا بالله من شيطانه الرجيم لو صادفته لحظات متمردةٌ أو لو تخيل أنَّه يمثل دور الكومبارس في حلم ثائر على الأوضاع القائمة.

ليست العبارة الدراجة في الحياة الشعبية: " اللهم اهديك يا شيطان " إلاَّ مقولة كأنَّها صيغت للمهمشين السياسيين. فعندما كان الناس يتسائلون حول ماذا فعل هذا المسئول السياسي أو ذاك أو لماذا يقرر رئيس الدولة سياسات بعينها يراها البعض مجحفة ومخلةً بميزان العدالة تجاه المواطنين، كان السامع يردد بلا توانٍ: اللهم اهديك ياشيطان. وتلك شريحة حطابية رأسية من (تراث الخوف) من السلطة في المجتمعات العربية، لدرجة أنَّ الكلام في الشأن العام (وهو جزء من الثقافة السياسية المعاصرة) يستحضر وسوسة الشياطين. والدلالة ذكية ومراوغة جنباً إلى جنبٍ: فهل المستمع يشيطّن القائل على أساس أنه قد يزج به إلى التهلكة واستنطاق المسكوت عنه في التفاصيل أم أنَّ دلالة النقد والغضب العام تستحضر شياطين السلطة المرعبة والجائرة؟

على الرغم من أنَّ سردية الشيطان في الإسلام لا تشيء بأن الله قد هدى الشيطان، وأنه لن يهديه فيما يبدو، مثلما نقول شعبياً في المثل (عشم إبليس في الجنة) إزاء حلم أو رغبة مستحيلة التحقق، لأن الواقع لا يبشر بقرب ذلك المأمول إطلاقاً. وعلى المنوال نفسه، تأتي مقولة (اللهم اهديك ياشيطان) كعبارة عن استحالة حل المعضلة السياسة في تصحيح الأحوال وتغيير الأوضاع وبالوقت نفسه مازال الشيطان يوسوس كلما فكرنا فيها وتحدثنا حولها. ولن يكف الوضع الراكد عن أفراز مزيد من الشياطين حول كل مسألة بهذا المعنى.

وكل ذلك في الأصل كان خوفاً من الشيطان الكامن في السياسة: ساسَ، يَسوسُ، سائِس، وسوسة، سياسةً. وهي استعاذةٌ من هذه المفردات أطلقها حديثاً الأمام محمد عبده بتفصيل الجذر المعجمي لكلمة سياسة قبل حلول الربيع العربي، لافتاً أنَّ الشياطين قابعةً في تضاعيفها سلُوكاً وخداعاً وأنظمة. ليرى محمد عبده في المقابل أنَّ السياسةَ على وجه الحقيقة عبارة عن حقوق تتقرر للناس دون أي تغرير بهم يحتمل النقص ([6]). وتلك العبارة يمكن إعادة طرحها راهناً لمنع المواجهة بين الاستبداد وبين الارستقراطي الجديد (الثائر المهمش) الآتي من أسمال المجتمعات العربية. جاء الأخير بالخلاص الثوري كما يرى وقد علَقت بأهدابه أتربة القاع الاجتماعي وغبار صعوده الشاق إلى السلطة الافتراضية. فكان هو وريثها الشعبي أمام الكاميرا ليس أكثر عبر الشاشات المصقولة.

الأرستقراطي الجديد

كيف سيتصرف المهمشُ المنبوذ كأرستقراطي معاصر؟ بأي منطق سيدير إقطاعيته الثورية revolutionary feudalism عبر الصور اللامعة؟ كيف سيتصرف بجانب أصوات الثقافة الهامسة حوله: " شبْعة بعد جُوعة "، " نّهم السلطة "، " شهوة الحكم "، " ويلّ لمن يتحكم فيه محرُوم" ؟ بأية صيغة بصرية سيطرح (أيديولوجيا الحرمان) التي جسدها خلال حياة الإقصاء والتهميش؟!

في دراما المُهمش المتمرد جاءت الثورةُ  (قيامةً صُغرى) على غرار المعتقدات الدينية. ظل ينتظر خلال دنياه حتى يأتي (بتعبير ابن عَرُوس شاعر العامية المصرية المؤصل في التاريخ): " يومٌ معلوم ترتدُ فيه المظالم، أبيضٌ على كل مظلومٍ وأسودٌ على كل ظالم". لقد شفت الثورات غليل المهمشين مع تحولها الدراماتيكي الذي لم يكف عن الحركة، وجعلوا يهتفون بالحرية والديمقراطية يومياً طوال شهور وشهور. قبل ذلك كانت أصوتُهة خفيضة، لا يتعدى كلامُهم تمتمات ساقطة أو لاقطة على النواصب وفي الطرقات العامة. وإن همَّوا بعمل شيء ملفت للأنظار، سرعان ما تأتيهم صور " الفلاش باك " flash back بعنف الحاكم وطغيانه المستطير. فيسترسلون خافضي الرؤوس بجوار الجدران هاشين مخاوفهم يمينا ويساراً كالذباب المُتطاير.

ولكي نهيئ كُراسيهم الرمزية الجديدة، كان يجب أن نعرِّف معنى الارستقراطي في القاموس السياسي. الشيء بالشيء يُذكر عبر أسواق الاقتصاد والسياسة الديجيتال. الأرستقراطيةُ aristocracy تعبيرٌ عن شكل الحكم النُخبوي الذي تتولاه طبقة خاصة في المجتمع. وهو شكل انتقائي يُغلَّب خواص الناس ويرفعّهم إلى مصافٍ أعلى دون البقية. ومن حينهم، يتمتع هؤلاء الخواص بفائضِ الثروة وتنوعها ويستمدون دماءهم من كرم الحسب والنسب والمكانة المرموقة. فضلاً عن امتيازاتٍ طبقية وسياسية متواطئةٍ لخدمتهم حصراً وقتما شاءوا. بالأخير سيعيشون وفقَ تقاليد تُرسخ سيادتهم فوق الطبقات الأدنى ([7]).

هنا تبدو المفارقة الساخرة واضحة البيان، فلم يكُن المُهمّش المعاصر ليملك أيَّ شيء من هذا الرصيد في المجتمع. لا يملك حسباً سياسياً ولا نسباً ولا مكانة اجتماعية أو غيرها. ليس برصيده الفارغ سوى كدِّ وغبار المظاهرات اليومية وسيادة الشوارع ومخزون القهر العالق به ليل نهار ومطاردة الأحلام المجهضة وأشباح الرغبات التي تم كبتها. ثم هناك شاشات فضية يملأها كلاماً غائما وصراخاً كالنحيب في مجالات الحقوق والعدالة والمساواة وتوزيع الغنائم السياسية. كان هتافه مناورات وراء مناورات وأمل وراء أمل للحاق بقطار الحياة المارق منذ سنوات.

ولكن بفضل المُنحنى الدرامي للربيع العربي عندما تنحى الرؤساء عن الحكم، آلت إليه "ثروة سياسية " ملعونة مع انهيار الأنظمة العربية، أصبح هو الغني الواهم حيت اختفى الأغنياء الفعليين. اُعتبر فجأة ارستقراطي الشوارع بلا منافس مع توالي سقوط الأنظمة. كان هو الملك في مملكة شبيهه بالفوضى الخلاقة التي بصقتها الوزيرة الامريكية كوندليزا رايس. هذا بعدما كانَ معلَّقاً من عرقوبه في سقف الحياة المتقلبة. ففي الخيال الشقي الدارج: " كل واحد متعلّق من عرقوبه". وعرقوب المهمشين هو القدر السياسي الإجتماعي المحكوم عليه به: أنْ يظل (عبداً) ولو بلغت أصواته عنان السماء أن يبقى (مقصياً) ولو سقطت الأنظمة السياسية المستبدة الواحدة تلو الأخرى.

عرقوب المهمش سيلاحقه أينما ذهب حتى بعد هذه السنوات ومع الأنظمة الجديدة. سيُعلَّق بأي خطافٍ (كُلَّاب) قريب كقدّر أوديب ملكاً قي الأسطورة اليونانية، كضحيةٍ في يوم عيدها. أوديب اليوناني قتل "الأب- الملك " وتزوج أمه، كذلك قتل المُهمش العربي الثوري "الأب – الرئيس " وتزوج " الثورة- السلطة ". أوديب الأول عاش بقيّة حياته أعمى بينما أديب الثاني وقع في فخاخ ثقافته الآسنة ([8]). كما يُقال شعبياً: " جاءت الحزينة تفرح لم تجد لها مطرح " ... أَلا يُعبر هذا المثلُ الشعبي عن هكذا حالٍ؟!

ولكن تذكيراً له كان يجب ألاَّ ينجرف المهمش وراء رغباته (المادية) الدفينة وراء فوضاه التي لا حدود لها!! فلم يكن ذلك محتملاً بالنسبة لبريق صورته وعوائدها باتساع العالم وكان يجب أنْ يتسق مع الآمال المعقودة عليه أمام المجتمع. على الأقل لكيلا يتناسى قيماً اجتماعيةً مازالت راسخةً، ولكيلا يراوغ حدوداً لثورات ربيعية كانت تحبو ولو بمعناها اليُوتوبي.

شريط سينمائي

المَشاهد التالية ستبوح بإساءة استعمال ارستقراطية الصورة لدى المهمشين في المجال العام. مشاهد جرت مع بداية القرن الراهن في العراق ولم تتوقف في غيرها من الدول، ولاسيما أنَّ الصور لم تبدأ الآن حتى تنتهي. فهي كانت متواترة كعمل فني شبه جمعي بالنسبة للمجتمعات العربية. لا تعني أعمال النهب والسلب المصاحبة للفوضى وسقوط الأنظمة حُكماً مسبقاً بقدر ما أثارت غرابة (استباحة عيون المتلقين)، وانتهاك دلالة الحقوق المرئية كذلك من نظافة المشاهد وعدم رؤية القبائح وأعمال التخريب والتدمير. كما أنها جسدت اضطراب مفاهيم الدولة والسياسة والمؤسسة والقيم والمجال العام في تاريخ المجتمعات العربية.

المشهد الأول: دخُول جحافل القوات الامريكية الغاصبة إلى مدينة بغداد بعد معارك دامية. كانت مسبوقة بتمهيد بصري لأكثر من أسابيع، إذ طرحت الشاشات صور القوات وجاهزيتها والترقب لبدء الهجوم. وعلى أثر الهجوم وأعمال الحرب تجاه القوات العراقية، ظهر الارستقراطي المُهمش ناهباً لقصور صدام ولبيوت وزرائه آنذاك. وجدناه شخصاً مُدمِراً لكلِّ ما يواجهه من أثاث ومعدات وأجهزة. كانت الصور صادمةً وقتها ولم نكن نعرف أنها (بروفات أولية) لما سيحدث لاحقاً في الدول الأولى. فهي لقطات كانت خافية عن العين العربية العابرة. ربما لم تكن لتُصدِّق حين رأت هذا التعدي على الممتلكات. كيف لمهمش مظلوم (وهو كذلك) يدخل قصراً ويحمل أثاثاً ومواداً منزليةً ولوحات وأدوات مطبخ فارّاً بها؟!

قبلها كان هذا السيد المهمش حاضراً بشكل لافتٍ حين سقط تمثال صدام حسين. بدا بارعاً في تسديد الضربات إليه بالحذاء. كان صدام طاغية حتى في تمثاله الهازئ بالفضاء المحيط، غير أنَّ السيد المهمش كان متكلِّفاً في عدوانيته. تركَ نفسه لفوضى الحشود المنفلتة ناحية الكاميراً.

المشهد الثاني: بعد تنحي الرئيس التونسي زين العابدين بن على، دخل الارستقراطي قصر بن على وإلى مخدع ليلي الطرابلسية زوجته. دخل القصور باحثاً عن غنائم الثوار ومن المنقولات الذهبية والتقنية الغالية. اعتبرَ نفسه في غياب رادع ثوري (قاضياً وحاكماً وصاحبَ حق) يتحتم نيلُه فوراً. وإذ ابرزته الشاشاتُ ملكاً متوجاً ذكرت الأخبار أعدادَ العملات النقدية وحجم المصوغات الهاربة بها زوجة الرئيس التونسي. وكررت الشاشات وزادت في كمية المجوهرات وبذخ الإنفاق مقارنةً بفقر (المهمشين الارستقراطيين) في تونس.

المشهد الثالث: عقب خلع الرئيس المصري حسني مبارك عن السلطة في مصر، تنادى الارستقراطيون المهمشون إلى حرق مقرات الحزب الوطني، الحزبُ الحاكم آنذاك. ولولا بقايا الشرطة لاقتحموا قصورَ الرئاسة المترامية الأطراف. رغم أنَّها تراث مصري أصيل مُهمل ليس لمبارك فيه إلاَّ الإقامة السياسية فقط. ولقد غرقت البلاد في فوضي السرقات وتم قطع الطُرق السريعة والاتصال. المشهد كان مزرياً داخل مقر الحزب الوطني المُطل مباشرة على النيل. فقد تمَّ احراقُه بالكامل ونهب محتوياته واخراج أمعائه الداخلية إلى الشارع. وظل الارستقراطيون المهمشون الجُدّد يقتلعون الأجهزة من الجدران والمكاتب إلى حيث غنائمهم بالخارج.

المشهد الرابع: عقب دخول قوات تحرير طرابلس إلى باب العزيزية في العاصمة الليبية. تجولت الكاميرا بين حامل لمقتنيات ملك ملوك أفريقيا وبين قافزٍ على الأسوار وبين غيرهما ظهر آخر محطماً لأثاث متناثرٍ هنا أو هناك. لقطة تالية رصدت الكاميرا آخرين يجوسون في قصر عائشة القذافي متأملين تمثالها الثمين وأجهزتها المنزلية الفخمة، ومنهم من قفز بحمام الجاكوزي الخاص بها.

المشهد الخامس: ....اليمن، حدّث ولا حرج....

المشهد السادس: ... سوريا، كوارث... وراء كوارث...

المشهد السابع: ......؟؟؟؟

السؤال الذي مازال بعد الأحداث الربيعية وأصدائها حتى الآن: هل أسسنا لقوانين تحقق غايات ومطالب الثورات المفترضة تحت بصر الرأي العام؟ لأن اللقطات بثت تأثيرها إلى نهاية المطاف مهما اُغلق جهاز الرؤية. فالعيون لا تغمض بمجرد غروب الصورة، لكنها تستمر كمقاطع سينمائية داخلنا وداخل الأجيال التالية ([9]). فتخضع الصور ثقافياً لمونتاج المُتلقي وتتفاعل مع قناعاته. قيمة الثورة إن كانت كذلك ليست في تغيرات مهمة فقط، لكن بآثارهاٍ على الأجيال اللاحقة أيضاً. هي ساكون ذاكرتهم البصرية التي تنفصل عن مصدرها وتستقر في تصرفاتهم اليومية. كانت المشاهد الأرستقراطية الطارئة من هذا القبيل سلبية. وصاغت نظرة بعض الناس العاديين بشكل مناقضٍ للحق العام. حيث أضعفت هالة التحول السياسي المأمول وقللت من قيمة الحراك الشعبي الحاصل وبررت الممارسات القمعية للأنظمة بعد الربيع العربي. وجميع ذلك على خلفية استبداد سياسي عريق، كانت ومازالت جذوره ضاربة في أبنية سلوكية وذهنية منعكسة تاريخياً.

كانَ حرياً بالنبيل المعاصر (الثوري المهمش) أنْ يكون نبيلاً مترفعاً عن الصغائر، عن عمليات النهب والسرقات. فما بالنا وهو هكذا باسم النُبل ذاته، باسم الثورة، باسم العدالة والحرية والمساواة، لقد أصبح أرستقراطياً متهوراً في أزقة العالم الافتراضي. يبدو أنَّ المُهمش قد غرقَ في إغواء الصورة. فالصُور بإمكانها رفعه إلى أعلى السحاب وباستطاعتها كذلك أنْ تهوي به إلى الأرض ثانيةً. إنَّها– أي الصور- عبارة عن عين الآخر حين يراه (الأنا)لا كما هو موجود فقط. أي أن كل صورة تمثل (الأنا والهو) في إطار واحدٍ حيث نصبح رائياً ومرئياً بالتزامن. وبالتالي هناك شيء ثالثٌ بالضرورة، خلافاً لكلينا، يجمعنا ويتجاوزنا معاً... إنَّه مسار الصورة إذ نظهر (أنا وهو) منعكسين مُضَافين إلى تراكمها، وإلى تصورات تالية ستنتجها عن الأحداث السياسية. وهذا ما يؤدي دوماً إلى الانحرافات نتيجة الإغواء بالمزيد من الصور، أي شهوة أخذ اللقطات والخيلاء بالمشاهدات وتعميم الأثر.

 

د. سامي عبد العال

.....................

[1]- في هذا الإطار يرى أودن Odin أنَّ البعد التداولي pragmatic في اللقطة الفلمية يرتبط بالبعد المعرفي cognitive.

Warren Buckland, The Cognitive Semiotics of Film, Cambridge, Cambridge University Press, 2003, P 79.

[2]- الصورة تُترجَم إلى نظام الكلام كما هو معروف ومؤثر. ولهذا مع تلقيها لا يشعر المشاهد كونها تستدعي إمكانية الفعل على غرار الامكانيات الموجودة في اللغة عموماً. فما بالنا بأن الصورة السياسية دوال كدوال الكلام الخطابي؟! وبذلك هي تتحدد بالأوامر والاحتمالات والشحن الدلالي الذي يبرز طابعها. وهذا ما يعرف في فلسفة اللغة بنظرية أفعال الكلام وانجاز الأشياء بالكلمات كما عند سيرل وأوستين.

-John Searle, Speech Acts, Cambridge, Cambridge University Press, 1969. PP 62-68.

-J.L., Austin, How To Do Things With Words, Oxford, Clarendon Press, 1962. Chapter one.

[3]- نجيب محفوظ، ملحمة الحرافيش، دار مصر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الرابعة 1985.

[4]- أحمد تيمور باشا، رسالة لغوية عن الرتب والألقاب المصرية (لرجال الجيش والهيئات العلمية والقلمية منذ عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق)، منشورات كلمات للترجمة والنشر، القاهرة 2013، ص 21.

[5]- يوسف القعيد، محمد حسنين هيكل يتذكر: عبد الناصر والمثقفون والسلطة، (حوارات)، دار الشروق، القاهرة د. ت، ص 138.

[6]- الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، تحقيق وتقديم محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1993، ص 365.

[7]- David Robertson, The Routledge Dictionary of Politics, London and New York, Routledge, Third edition, 2004, P25.

See also: Roger Scruton, The Palgrave Macmillan Dictionary of Political thought, Palgrave Macmillan, London, 2007, P37.

[8]- هذا التفسير يوظف عقدة أديب ملكاً كما طرحها فرويد، فالثوري يشبه هذا الملك الذي ظل محكوماً بنبوءة قتل أبيه وزواجه من أمه. القدر هنا كان أكثر مكراً من الاحتراز الزمني الذي صنعه الملك بإبعاد ابنه أوديب مثلما أن الثقافة قدر بالنسبة للإنسان مهما يحدث تحول ثوري. لهذا يعتبر الأثر بالنسبة للاثنين متماثلاً. وبخاصة أن الاثنين أيضاً وصلا إلى مكانتهما بعد صراع وعقب حروب. وفي هذا الجانب لا تخلو الثقافة من نماذج باحثة عن المكانة وقتل الرموز بحثاً عن رمزية أخرى.

Abraham Drassinower, Freud: Theory of Culture, Eros, Loss and Politics, Oxford, Row man &Little field, INC, 2003. PP 90- 95.

[9]- الصور بهذا المعنى كما يرى شارلز بيرس Peirce ليست علامات مرئية visual ولا مرسومة pictorial فقط لكنها تمثل كيفيات حسية sensory qualities ومن ثم ارتباطات تستحضر represent موضوعات ما في مجالي الرؤية والسمع.

Jorgen Dines Johanson and Svend Erik Larsen, Signs in Use: An introduction To Semiotics, Translated by Dinda L. Gorlee and John Irons, London and New York, Routledge,2002.PP37-38.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم