صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية.. رواية (البلد الجميل) أنموذجا

حيدر عبدالرضاالفصل الثاني ـ المبحث (3)

الواقع الروائي بين السيرذاتي وفضاءات المؤلف الشاهد


توطئة:

عالجت أحداث رواية (البلد الجميل) جملة مواقع و أشكال مزدوجة تتراوح ما بين محاور (المؤلف الجاد = المؤلف الشخصية = السارد العليم) وصولا إلى هوية الواقعة السردية المنتخبة والمتحولة بين (فضاء الداخل ـ فضاء الخارج) كما رأينا الحال في مرويات المؤلف الشخصية المفترضة في شبكة وقائع روايته، كقيمة وقائعية تشكيلية من شأنها وصف دليل سرد حكايته وأحداثها ضمن مخصوصية متشظية ومنشطرة ومنسحبة غالبا على هيئة وقائع فضاء المؤلف الجاد ـ انعكاسا ومحكومية حياة المؤلف الشخصانية الذي راح يوافر وظيفة مكونات نصه المخطوطة في مساحة خاصة من المعايشة الموزعة ما بين موقع السارد وحضورية الفضاء الشخوصي المتصل والمنفصل في أغلب الأحيان عن حقيقة خلفية المؤلف الشهودية في مجال الشاهد والمجسد والمبأر .

ـ الفضاء الخارجي والأبعاد السياقية في هوية النص .

إذا ما تأملنا في الواقع مستوى الاتساق في مجلى الفضاء الخارجي للنص، لوجدنا بأن أغلب أحداث البنية السردية، تكمن في رقعة حدوثاتها ضمن مفاصل حراك الشخصية بمفهوم العلاقة الخارجية المكرسة في خواص مقارباتها المعنوية والمادية تقريبا، ولهذا الأمر نجد بأن الشخصية الكاتبة أو المدونة للمخطوطة في رواية المؤلف الجاد، ذات مجالات واسعة في تنضيد وتخصيص أسباب العملية السردية في منحى مستواها الاتساقي ـ الخارجي، الناتج من قبيل متواليات جملة الأفعال والصفات الدلالية للشخوص في النص: (في أوثق الأخبار، أنهم أستقلوا القطار الصاعد من الجنوب باتجاه بغداد بمتاعهم القليل، مصحوبين بفكرة غائمة عما سينتظرهم هناك..انحشروا مع بعض كالحيوانات، مخلوطين مع صرر ملابسهم وأشيائهم، وحين صفر القطار معلنا بداية انطلاقه، تنفس الجميع الصعداء وحمدوا الله وشكروه، فكأنما هذا الصوت الذي أصدره الوحش الحديدي الهادر، قد حجبهم نهائيا عن الرعب الذي يلاحقهم من خدم الشيخ و عبيده . / ص61 الرواية) السارد هنا يعاين مستوى أحداث سياقية، لخصتها وحدات خارجية وداخلية من مواقع حكاية الشخصية حلمي إزاء مواطن أسلافه، وهذا الأمر ما جعل من الشخصية حلمي تستهلك واقعها المعنوي في حد من الإسراف والمبالغة في غور أوصاف عادات الجدة قسمة وكيفية حيواتهم الطقوسية في مجلى السرد الخارجي والخارجي.أقول أن أغلب مستويات وحدات الرواية جاءتنا غاطسة في قص حكايات هي من الأطوار الشعبية والمحلية المبتذلة إلى حد التخمة في محمول الفكرة الروائية، فلا حاجة بنا إلى كل ما ذكره أحمد سعداوي عن تفاصيل جغرافيا مواقعه الشخوصية التي كان الغالب منها من الشواغر واللاأهمية في بناء مستوى الرواية السردي، حتى أن هذه التقانة الخاصة في خلق ثنائية المؤلف المفترض في كتابة الرواية داخل الرواية، أصبحت من النمطية والشرود الفني والجمالي، فما معنى أن يكون الشخصية مؤلفا في مساحة عاملية من دوره كشخصية مسندة في تأليف النص الروائي داخل السياق الروائي العام؟ ما قيمة كل هذه الخواطر والهواجس من استحضار كل حكايا الأجداد في مسار خطة بؤروية سردية تسعى جاهدة إلى التفنن في وصف إلتباسات حاصلة ما بين المؤلف الحقيقي والشخصية الموظفة في النص كمؤلف آخر للرواية ؟أنا شخصيا كقارىء إلى مستوى تعاملات هذا الأداء من قبل الروائي السعداوي، لا أجد ثمة طاقة تقانية حاذقة في تأسيس مثل هذا المشروع إطلاقا وعبر شكله وبنيته المزدوجة حينا والملتبسة حينا إن صح العرض في الوصف؟لذا بقيت حالات الشخصية حلمي في مخطوطته، كمحاولة في تجريد فكرة و طريقة إنشاء النص داخل النص، وعلى هذا النحو بقيت الأحداث في الرواية تشحذ لذاتها الهمة من هنا وهناك، فمرة بالحديث عن الكلب، ومرة عن علاقته بنادية وأحساسه الأخوي إزائها، إلى جانب إصرار أهله بالزواج منها، ومرة حول مشاكله مع فقدان فرصة العمل المناسب، وشعوره العدمي بالملل من جراء تلك الأعمال الاستهلاكية اليومية، ذلك لأنها تشكل له تلك المرحلة اللامجدية ب (الآن) هذه الأداة الزمنية الملازمة لكل مرحلة بدئية من أضطرابات أحواله الشخوصية .

1 ـ الأفق التواصلي بين الذاكرة والفضاء الحلمي:

أن ما يميز هذا الفضاء المستحضر من خلال رؤية وعي الذات الساردة، كونه أصبح مصدرا لجميع حالات فضاء الألفة وفقدانها من قبل الشخصية في الرواية، وعلى هذا النحو وجدنا تمظهرات (الذاكرة = الحلم) يستعيدان للشخصية جملة أواصر ديمومتها من داخل فضاء خياراتها الشخصانية في الرفض و العدول عن المستقر في المزاج الواقعي المستعاد حلما أو انفتاحا حول مساحة ملائمة من التعالق الانطباعي مع المكان من ناحية والآخر والزمن المتداخل من نواح مسرودة بوسائل السرد العليم: (سأبدأ إذن من جديد، فهذا كل ما لدي أنا أيضا، أضع رقما جديدا، وأشرع بالحياة نفسها، أعرف الصباح والظهيرة، وأمحو أسماء الليل كلها..أنظر إلى الشباك بجواري، وأرى من خلاله الصباح بشمسه الغائبة وراء غيوم شفيفة / أرتجف من البرد، بينما حلمي يتقلب في فراشه الدافىء..يدعك وجهه ثم يرخي يده على الجانب الخالي من الوسادة./ص 70 الرواية) يوهمنا السارد ومن خلفه المؤلف، بأن شخصية حلمي ملازمة في تحولاتها الحلمية، وفي ذلك سببا يقنعنا بأنتشار بقع أحمر الشفاه التابعة لأنثى ما على وجهه ورقبة الشخصية، فيما كان حلمي مجردا في فراشه إلا من جسده وأحلامه المكررة بشخصية الفتاة نود الممرضة الأمريكية التي قامت بالعناية على حالته يوم سقوطه جريحا في الحرب..الأمر الذي رافق كل مواقع الشخصية، لدرجة كاد يتصور أن كل من يشاهدها تتمثل بشخصية نود الممرضة الأمريكية في ذلك المشفى العسكري في السعودية: (أن صورة امرأته أقرب من أن تكون متخيلة، لقد كانت هنا قبل قليل، وتمرغت بجسده الملفوف بالعتمة، جعلته يلمس لمس اليد أنه أكثر من شخص، و أنها واحد على الدوام /ولكي يتذكر ما ألم به، ينظر /أنظر إلى الأجزاء الماضية من حصته الزمنية في الحياة، أو فصول حكايته في سجلات ذاكرة تتخيل نفسها ذاكرتي، أو مخيلتي، أو بالعكس./ص17 الرواية) أن حالة التحول الشخوصية هنا جرت ما بين (المؤلف =السارد =الشخصية) إذ الأمر يبدو على غير موقعية ثابتة، فقد يكون حلمي المؤلف الحقيق للرواية، أو أن المؤلف الحقيقي هو ذاته السيرذاتية في مشخصات السرد مستعيرا موقع الشخصية لنقل ملفوظه في زمن الحكاية تخاطرا، وقد لا ينحو فعل المؤلف هنا بأتجاه الموقع الشخوصي من رؤية الأشياء، ولكنه يشتغل لذاته في أحياز هوية (الشاهد) من مؤشرات فعل نمو الوعي التكويني بالشيء المحسوس تماهيا، ومن يقرأ مستهل الفصل الأول من الرواية، لعله يلاحظ وجود ذلك الحيز من الإيهام المتتابع ما بين المؤلف والراوي والشخصية، امتدادا نحو مواجهة موقع (المؤلف الشاهد) بحكم الإيهام بهوية الواقع، وقد تبدو من ناحية مواجهة الشخصية من خلال موقع المؤلف الضمني أو الراوي، وعلى هذا النحو نقول ونسأل: هل أن مرجعية الشخصية حلمي أداة محكومة بموقع الراوي أو أنها مرتبطة بخلاصة مراوية من هوية المؤلف الحقيقي ؟وأن كان حلمي مرآة المؤلف كيف يتاح له أن يكون لعبة إيهامية ما من أوجه أخفاء حقيقة قول المؤلف في هويته الثانية من الكتابة للنص الروائي ؟ .

2 ـ اللاموقع بين المؤلف المفترض والراوي كلي العلم:

يتساوى التبئير السردي في مستوى متواليات الرواية في العلاقة اللاموقعية ما بين المؤلف المفترض والسارد العليم في مستوى الإدراك و النمو، لذا فإننا وجدنا في بعض وحدات السرد ثمة علاقة دمجية فاعلة تتعلق في حدود مفتوحة ما بين المؤلف المفترض والسارد كلي المعرفة، ما جعل مستوى التبئير معتمدا على جهة التبئير الداخلي تحديدا كمصدر ما من جهة السارد والشخصية معا: (أما أنا فقد توهمت أشياء كثيرة يصعب حصرها، منها أن الكتابة ستساعدني، ستبطىء الزمن الذي يلاحق نفسه، ستؤخر خروجي من هذا المكان./ص75 الرواية) فإذا اقتربنا بشكل أدق لأستكشاف بنية السرد، لوجدناها ذات قطبين (مركزـ هامش) القطب الأول يدور في مركزية الشخصية حلمي وما يواجه من فواصل تجربته مع شخصية نود المتخيلة في ذاته إلى جانب شخصية الجدة قسمة أيضا، أما ما يتعلق بالقطب الثاني، فهو ما يتمثل بسلوك حلمي إزاء طبيعة الأماكن و الأزمنة في مسرح الرواية إجمالا.

ـ تعليق القراءة:

أن من محاسن هذه الوظيفة اللاموقعية بين المركز والهامش، هي ما جعل تجربة الرواية في ذاتها عبارة عن نسق متواصل في حدود المشاهد وثنائية (المؤلف الضمني = المؤلف المفترض =الراوي) إذ أن ما جعل الفضاء الروائي يتحول نحو ساحة ميلودرامية متصلة يظلم جزء منها لينير الجزء الآخر بمحمولات بؤروية راصدة في الوعي و التحول السردي في ذاته ما جعل القارىء لها يشعر بأن الرواية تكمن عبر لقطات ومشاهد ومتواليات يحكمها المركز والهامش وذلك السياق المرجعي إقترابا لها نحو مشروعية الدلالات الأخيرة من إيحاءات الخواص الداخلية المهيمنة على علاقات الأجزاء من مستويات الرواية الخاصة والعامة ـ اقترانا لها بمسلمات ذلك الواقع المتصل بين بؤرة السيرذاتي وفضاءات المؤلف الشاهد والمفترض على مظاهر المنظور الروائي المجمل: (نظرت الجدة العجوز إلى الحائط الذي علته الصور المغبرة، ثم رنت إلى العنكبوت الحارس في شبكته، وودعته صامتة..اقتربت من ثوب يعود لسناء /أرتدت الثوب الرطب، ونعلها البلاستيكي الأسود، ودنت من الباب، الذي ترك مفتوحا /تمسك بطرف العباءة المدلاة على رأسها، ثم نظرت إلى السماء، كأنها أحست بلسعة ما من عين الإله./ص216) هكذا يتمظهر عنف النذر والنذور في حكاية ومحكي طقوس الجدة مقترنة بوظيفة المؤول المندمغة في منظومتها الزمنية الكلية بخبايا الكون الروائي، ليتجسد في اسطورة (الحضور ـ الغياب) لذلك الغائب مجددا بزمام المحكي المضمر بمقصدية متراكبة الرؤية وشمولية المعنى المرمز في رفات الزمن المتخيل بالواقع وبقاياه المرسومة في المضمر من السيرذاتية النصية الروائية المركزة في دليلها ودالها .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم