صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: ابن رشد وابن عربي.. حدود العقلانية

مجدي ابراهيمالفوارق بين الحقول المعرفية جديرة بلفت النظر إليها حتى لا يختلط على الباحثين خصوصية المعرفة بين حقل وحقل أو بين ميدان وميدان؛ ولهذه الفوارق أهميتها في توضيح الوجهة وتحديد المنهج واستبقاء الهدف من البحث النظري ودلالته العملية. ونحن أمام حقلين من حقول المعارف الإلهية. الأول: يأخذها طلباً بالنظر والاستدلال من طريق البرهان العقلي، ويتوقف عند هذا الحد لا يتعداه، ويصر عليه إلى نهاية الطريق. والثاني: يطلبها من طريق الذوق والاستبصار، ويجعل للنظر العقلي حدوداً يتوقف عندها. يمثل الطريق الأول ابن رشد (ت595هـ)، ويمثل الطريق الثاني ابن عربي (ت638هـ). وقد دارت بينهما حول طلب المعرفة الإلهية مناظرات كاشفة عن حدود العقلانية:

ابن رشد: 

يرفض ابن رشد الأقاويل الخطابية والأقاويل الجدلية ويأخذ بالبرهان فقط، ثم يمضي به إلى أعلى منازل الوصول نحو طلب الحقيقة الإلهية. ولا شك في أنه يعتقد في دين يُنسب إلى العقل أكثر مما هو منسوب إلى الوحي. يقول في شرح ما بعد الطبيعة: "فإنّ الشريعة الخاصّة بالحكماء هى الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يُعبَد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة، الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه، جعلنا الله وإياكم ممن استعمله بهذه "العبادة" التي هى أشرف العبادات، واستخدمه بهذه الطاعة التي هى أجلّ الطاعات" (ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة، تحقيق وتقديم: عثمان أمين، طبعة مكتبة مصطفي البابي الحلبي، القاهرة 1958م، ص 55،54. وأيضاً راجع: زينب الخضيري: أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطي، دار الثقافة، القاهرة 1983م ص 136).

فلئن كانت طاعة الله بالفكر والتأمل طاعة شريفة بغير خلاف، فلا مناص من أن يكون الدين الذي يقوم عليها هو دين العقل. ولو كان للعقل في ذاته دينٌ لاستغنى الناس عن الوحي.

لا جَرَمَ هذا دين لا يتعدى شرف المعرفة بمصنوعات الله، وهو دين يجعل العقل مُقدّماً على الشّرع، إذْ الشريعة بما هى شريعة جاءت للناس كافة، وليس في طاقة الناس كافة أن يحتملوا ما لا يطاق من دين العقل. والعقل نفسه يستلزم فارقاً لا بد منه - فيما يشير العقاد - بين تمثيل الحقيقة للبحث والتفكير، وتمثل هذه الحقيقة بعينها للتدين والاعتقاد. فالحقيقة الاعتقادية لا بدّ أن تمتزج بتصوّر المؤمنين بها؛ لأن الخطاب فيها مُوجّه إلى ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي، ومنهم كبير النفس وصغيرها، وعظيم الحسّ ووضعيه، ومنهم من يطلب الكمال ومن لا يعرف كمالاً يطمح إليه (العقاد: الفلسفة القرآنية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت د/ت، ص 181).

أمّا هذا الدّين الذي يدعو إليه ابن رشد من بحث عقلي بحت، ومن إيمان بسلطان العلم؛ فمن الطبيعي ألا تكون ثمرته متصلة بالدين من حيث هو دين، ولا بالتجربة الدينية التي يتعطل فيها العقل في نهاية المطاف؛ ليتقدَّم الذوق والاستبصار؛ وليرتفع لواء البصيرة على خطاب العقل والبديهة. وهذا هو السبب الذي جعله لم يستطع أن يفصل مقالاً حقيقياً بين الحكمة والشريعة من الاتصال؛ بل فصل اتصالاً فيما بينهما؛ لأنه مال إلى الحقيقة الفلسفية أكثر من ميله إلى الحقيقة الدينية. وهذا هو السبب أيضاً في هجومه على التجربة الدينية والروحيّة. واعتراضه عليها هو اعتراض على المعرفة الخالصة، في حين يؤثر ابن رشد العلم.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أننا نجد في بحوث الفلاسفة العقلية، ما يؤكد وجهة النظر التي نذهب إليها في فصل الاتصال بين الدين والفلسفة من مقال يوهم بالتوفيق. وفي الحق أنه لا توفيق؛ فابن باجة كان اتجه في كتابه "تدبير المتوحّد" إلى إقامة حياة المتوحّد على أساس الناحية العقلية الصرفة بما فيها من تفرّد من جهة، وبما فيها اشتراك من جهة أخرى، ولكن بشرط أن يكون من يشترك الإنسان معهم من المتوحدين هم من الملتزمين مثله بمنهج الفكر. ونحن لا نجد أثراً للدين في مدينة المتوحِّد. وبما أننا نجد في "الدين" دعوة إلى المشاركة في الحياة الاجتماعية والالتزام بالعبادات التي تجمع بين الناس جميعاً في كل مكان، صار ما نجده عند ابن باجة نوعاً من التّفَرد الذي يبتعد فيه المتوحّد عن اهتمامات الجماهير، ابتعاداً يلتزم فيه "الوجود" بما فيه من أزلية وثبات (تدبير المتوحد: ص 83 وأيضاً: عاطف العراقي: الفلسفة العربية والطريق إلى المستقبل، دار الرشاد القاهرة 1998م، ص 117).

ولعلّ هذا هو "دين العقل" الذي أكد ابن رشد ضرورته للعقول التي تذهب بالعقل إلى منتهاه، ولا ترى بعده غاية تنتهي عندها، هو الدين الذي يجعل العقل مُقدَّمَاً على الشرع؛ لأن الشرع عام، والعقلُ خاص مخصوص بالحكماء.

وشريعةُ الحكماء هى الفحص عن جميع الموجودات بحكمة معقودة على التثبت والنظر لا على العبادة والعمل بمقتضى الشرع المنزل.

وشَرَحَ ابن رشد أرسطو، فكان في شروحه وفياً لفكر أرسطو، ماضياً على دربه إلى حدِّ التقليد مثلما وصفه ابن سبعين بأنه كان مقلداً لأرسطو وله في التقليد نسبٌ عريق. ولئن كان ابن رشد هو شارح المعلم الأول أرسطو، فقد كان أكبر الفلاسفة الشّراح أثراً في الغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين. واشتهر باسم الشارح أو المعقب (Commentator) فإذا قيل الشارح أو المعقب في كلام من كلامهم فابن رشد هو المقصود. 

على أن مطالب الصوفية مطالب روحانية. ومطلب ابن رشد مطلب عقلي في أول وآخر مقام. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل من ابن رشد أيضاً يوغل بالمعقولات إيغالاً ربما يخرجها عن قصود الاعتدال. هذا الإيغال الذي تتصل أسبابه مباشرة بأرسطو تقليداً ومتابعة، وتكاد لا تجعل التوفيق بينه وبين العقائد الإسلامية أو الجوانب الإشراقية متوافراً ملحوظاً أو شبه ملحوظ.

وأحياناً يتناقض ابن رشد مع نفسه، فيتخلى عن منهج العقل والبرهان؛ ليقول بالفيض والإشراق، وبخاصّة في مسألة الكليات؛ ففي مقدمة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني لتلخيص كتاب النفس لابن رشد، ينقل نصّاً عن ابن رشد أيضاً جاء فيه:"وبالجملة فيظهر ظهوراً أوليّاً أن بين هذه الكليات وخيالات أشخاصها الجزئية وإضافة ما بها صارت الكليات موجودة. وإذْ كان الكلي إنما الوجود له من حيث هو كلي بما هو جزئي" (ابن رشد: تلخيص كتاب النفس؛ ص 80، ومقدمة الدكتور الأهواني، ص 57).

وهذا النّص قاطع الدلالة في أن ابن رشد يؤثر الطريق الذي يُوصّل إلى المعقولات معتمداً على المحسوسات الخارجية، لا ذلك الطريق الذي يذهب إلى أن للكليات وجوداً خارجياً حقيقياً، وعنه تفيض إلى النفس، وهو ما ذهب إلى مثله ابن سينا وغيره ممن يقول بالفيض والإشراق. ويعبّر ابن رشد عن هذا تشديداً من جانبه على تأسيس العلم القائم على التجربة الحسية ثم صعوداً من المحسوس إلى المعقول بقوله:" ومن البيّن أن هذه الكليات ليس لها وجود خارج النفس مما قلناه. وأن الموجود منها خارج النفس إنما هو أشخاصها فقط". وأن الكليات تستند في وجودها الذهني إلى خيالات أشخاصها، لذلك تكثرت المعقولات بتكثرها، واختلفت باختلاف العقليين لها ... إلى أن قال:"وبالجملة فمن هذه الجهة يَلحَقُ المعقولات الأمور التي نرى بها أنها هيولانية، لا المخالطة التي يزعم ثامسطيوس وغيره ممن يقول بوجودها فعلاً دائماً"(ابن رشد: تلخيص كتاب النفس؛ ص 81).

وددتُ التأكيد على هذه النقطة، أعنى متابعة ابن رشد لأرسطو متابعة تامة، ثم فشل محاولات التوفيق بين فلسفته من جهة والعقائد الإسلامية من جهة أخرى؛ بسبب إيغاله في العقل كمصدر فلسفي خالص يستقي روافده من الفلسفة الأرسطية؛ ثم إقحامه على المباحث الإلهية المنعزلة عن أذواق النّص المقدّس.

هذه واحدة. أمّا النقطة الثانية: فهى الفرق الفارق بين المنازع العقلية الخالصة لديه، وبين التّوجُّهات الصوفية التي يقطع برفضها على الجملة فضلاً عن التفصيل. فلئن كان قد رفض الأخذ بالفيض والإشراق، وهذا حقه بطبيعة الحال، ورفض أن يكون للكليات وجودٌ خارجي حقيقي، وآثر أن يعتمد على المحسوسات الخارجية ومنها يصعد في طريقه إلى المعقولات: طريقُ أرسطو الذي يؤثره على الدوام؛ فهو من جانب آخر أنكر بموجب اتجاهه العقلاني الموغل في التطرف كل ما ينقض لديه طريق البرهان أو يتصوّر أنه ينقضه بوجه من الوجوه.

وليس لقائل أن يقول: إنك لتحمل على ابن رشد حملة جائرة؛ لأنه أختار طريقه العقلاني، ورفض بمقتضاه طريق الصوفية؛ وهذه حملة في غاية الجور.

ولكن الحقيقة أننا لا نحمل على ابن رشد من أجل هذا الغرض غير العلمي بالمرة .. كيف وهو الفيلسوف العقلي المسلم المستنير؟ بل نفرّق تفرقة ظاهرة بين العقل المطلق الذي لا يعرف له حدوداً يتوقف عندها وهو الذي تبنّاه ابن رشد وعمل لأجله وفق ما انتهى إليه، وبين العقل المُرَوَّض على الإحالة في المطالب الغيبة العويصة، وهو عقل لا يقبله ابن رشد ولا يسيغ فيه مظنّة القبول.

وبالمقارنة بينه وبين نظرائه من الفلاسفة لم يكن ابن رشد يدين للولاء إلا لمثل هذه النزعة العقلية الخالصة ممثلة في الرفض الدجماطيقي القاطع. فلئن كان أنكر الخوارق والعجائب والكرامات، ورفض كل ما يأتي به الصوفية في هذه الأمور، وانتصر للعقل في الإيمان بضرورة العلاقة بين الأسباب والمسببات، وذهب إلى أن من يلغي الأسباب ولا يؤكد على وجودها، يلغي في الوقت نفسه صناعة العقل الذي يدلنا على أسباب الموجودات؛ إذ أن العقل ليس شيئاً أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها ومن رفع الأسباب فقد رفع بضاعة العقل.

أقول؛ إذا كان ابن رشد أنكر الخوارق والعجائب على الصوفية، واعتقد العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات؛ فإننا نجد في هذا الباب فيلسوفاً مشرقياً كابن سينا في "الإشارات والتنبيهات" فعل ما لا يفعله ابن رشد رغم نزعته العقلية، مما يوحي بالدلالة على محدودية العقل عنده، وأنّ ثمة طور يدق فوق إدراك العقول السليمة هو بلا شك طور البصيرة، حتى إذا ما بَلَغَنَا عن أحد العارفين أخباراً تكاد تأتي بقلب العادة فليس لنا أن نبادره بالتكذيب؛ فابن سينا لا ينكر كرامات الأولياء لمجرد أنه فيلسوف عقلاني بل أفرد في "الإشارات والتنبيهات" ( يُراجع:  الإشارات والتنبيهات، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق د. سليمان دنيا، القسمان الثالث والرابع، دار المعارف، القاهرة، 1958م، ص892)؛ فصولاً ناصعة رائعة تحدّث فيها عن أحوال العارفين وحركاتهم ودرجاتهم وصفاتهم مما يرفضه ابن رشد ولا يقر بوجوده أصلاً؛ الأمر الذي يكشف عن مساحة المعقول لدى كل منهما، وما يحرك هذه المساحة من مصادر خارجية تستند إليها، وتشي بنسبة كل فيلسوف إليها بفروق في الدرجات.

وإنا لنلتفت فنجد مفكراً آخر كابن خلدون يحدثنا عن "بهاليل الصوفية" الذين يأتون بالخوارق والعجائب، وعنده أن هذا  فضلاً الله يؤتيه من يشاء، فهؤلاء البهاليل - كما يقول ابن خلدون - قومٌ أشبه بالمجانين من العقلاء، وهم مع ذلك قد صحّت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق، مع أنهم غير كلفين. ويقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب؛ لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب.

وربما ينكر "الفقهاء" - هكذا يتكلم ابن خلدون!- أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم، والولاية لا تحصل إلا بالعبادة. وهو غلط عنده؛ فإنّ فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا على غيرها (مقدمة ابن خلدون؛ القاهرة سنة 1979م، طبعة 3، جـ 1، ص 425).

ولسنا نقر ابن خلدون على ما يذهب إليه، ولكنا نثبت موقفه بإزاء موقف ابن رشد؛ وإثبات الموقف لا يعني بالضرورة الموافقة عليه. ولما كان ابن رشد قد اجتمعت لديه الصفتين معاً: صفة الفقيه، وصفة الفيلسوف العقلاني، فلا تنتظر منه أن يقبل عجائب الصوفية، بهاليل كانوا أو غير بهاليل، أو يسيغ النظر في خوارق أفعالهم، بل نرجح أن هجومه على التصوف ورجاله، كانت بذرته الأولى من جرثومة الفقه نابتة. ثم لما استنّ له طريقاً عقلياً بعد اطلاعه على فلسفة أرسطو، وبعد تبينه وتبدّيه لها، قويت شوكة هذه الجرثومة فرفض التصوف بإطلاق!

ابن عربي:

ومن الأهمية بمكان أن يظهر هنا جانب مهم من خلال حياة ابن عربي؛ ليمثل أعلاء الجانب الروحي في الإنسان على شتى الجوانب الأخرى؛ بل ويكون هو القائد الأوحد لضمِّ جميع تلك الجوانب الأخرى إليه: النفسية، والعقلية، والشعورية، وهو جانب يمكن النظر إليه من ناحية الروح الإلهي في الإنسان باعتباره موهبة وعطاءً وفضلاً إلهيّاً.

ومحي الدين بن عربي متصوف فيلسوف من مفكري المغرب العربي، ولد سنة (560 هـ) بمرسية بالأندلس، وكانت له مع ابن رشد (ت 595 هـ) صولات فكر وجولات كشف وإشراق في ميادين الفقه والفلسفة والتصوف (آسين بلاثيوس: ابن عربي .. حياته ومذهبه، ترجمه عن الإسبانية عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة سنة 1965 ص 228). وقد طاف بلاد المغرب حتى بلغ به المطاف إلى دمشق، فتوفى بها سنة (638هـ). واسمه:"محمد بن على بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، (الشعراني: الطبقات الكبرى، مكتبة صبيح، القاهرة د/ ت، جـ 1؛ ص 163) المعروف بـ "محي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر، "وابن أفلاطون"، فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم.

وفي بيت علم وثراء ودين ولد ابن عربي في مرسية ثم انتقل منها إلى "إشبيلية"، وقام برحلة إلى المشرق العربي فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز. إذ كان بطبيعته "قلقاً دائب الترحال" كما يقول أسين بلاثيوس (ابن عربي: حياته ومذهبه؛ ص 4)، وأنكر عليه أهل الديار المصرية "شطحات" صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه كما أريق دم "الحلاج"، وحبس، ثم أطلق صراحه فأستقر في دمشق، وتوفى فيها، وقبره بالصالحية في مسجد عرف باسمه في سفح جبل "قاسيون".

وقد نشأ "بن عربي" في رغد من العيش، كيف لا؟ ووالده صاحب السلطان وقاضي قرطبة. كما تؤكد النصوص أن "بن عربي" نشأ في بيت ثقافة وفقه، ومن أسرة نبيلة، غنيّة، وافرة التقوى، وهو يذكر عن أبويه أخباراً تدل على شدة التقوى، وأخذ كل ذلك عن والده الذي تقلبت به المذاهب، وشارك في المجالس العلمية التي كان يديرها الخلفاء الموحدين وولاتهم، الشيء الذي جعل من ذلك كله أن يؤثر في شخصية الشيخ الأكبر سواء في الجانب الروحي أو الجانب الفقهي والنفسي، بحكم أنه  نشأ في وسط أسرة عريقة ذات مجد وكرم ونفوذ.

ثم إنّ ابن عربي ليقول: لمّا أن سمع ابن رشد ما كان قد بلغه ممّا فتح الله به عليه في خلواته، كان ابن رشد يظهر التعجب ممّا قد سمع من والد ابن عربي. ولم يظهر ابن رشد التعجب إلا لأنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، وهو جانب محدود جداً لمن يوصف بأوصاف ابن عربي من طريق العناية والفضل الإلهي.

يقول ابن عربي:"... فبعثني والدي إليه في حاجة قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طرّ شاربي (أي ما نبت له شارب)؛ فلما دخلتُ عليه، قام من مكانه إلى محبّة وإعظاماً، فعانقني وقال:"نعم!" فقلت "نعم!"، فزاد فرحه بي لفهمي عنه.

ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك - هكذا تكلم ابن عربي !- فقلت له: "لا"، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده. وقال: "كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر (يقصد ابن رشد النظر العقلي) قلت له: نعم لا - وبين "نعم" و "لا" تطير الأرواح من موادّها، والأعناق من أجسادها". يقول ابن عربي: فاصفر لونه، وأخذه الإفكل، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه .... وطلب من أبي بعد ذلك الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا: هل يوافق أو يخالف؟ فإنّه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي؛ فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلاً وخرج منها مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة. ثم قال (أي ابن رشد) - لأنه كان من أصحاب الفكر والنظر العقلي -: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أرباباً؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحدٌ من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصّني برؤيته"(الفتوحات المكية: جـ1، ص 199- 200). 

يتبيّن لنا من هذه الرواية: أن طريق ابن عربي نفسه لا يقوم على الفكر والنظر العقلي مثلما يقوم طريق ابن رشد؛ فإذا كان طريق ابن رشد يعتمد الفكر النظري والبرهان العقلي، فإنّ طريق ابن عربي يعتمد الكشف والذوق الإلهي. وفي هذه التفرقة ما يبرر جانب مهم من جوانب المعرفة الإلهية من حيث منهجيتها المختلفة عن منهجية الأنظار الفلسفية، وهو جانب تظهر فيه مواهب العناية الإلهية والرعاية الربانية التي تتولى مواهب العطاء الإلهي لبعض البشر.

فليس ما هو عند ابن عربي الذي دخل الخلوة جاهلاً بالله، وخرج منها عارفاً به، فضلاً وموهبةً وعطاءً إلهياً من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، كالذي هو عند ابن رشد يعتمد على البرهان العقلي في المسائل الفلسفية والدينية الإلهيّة. فإذا كان الأول طريقه التصفية والخلوات؛ فطريق الثاني المواهب والأذواق، أو هو طريق العناية الإلهية، وفيه ما يدل بكل تأكيد على افتراق الطريقين في أبواب المعرفة الإلهية، ويبرر القول بها من طريق العناية الإلهية.

وقد أكد علماء النفس من أمثال وليم جميز w.james، وجومز Jomes، وأندرهل Underhill، وغيرهم. أكدوا على تلك القوى التي تمكن الإنسان من أن يعبر حواجز المادة، ويتخطى حدود الزمان والمكان، ويفتح طريقاً يصل بين النظامين الطبيعي والإلهي. وليس من شك في أن الصوفية العظام هم الذين يتمكنون من إيقاظ العقل الروحاني أو الوجدان الكوني، وهو العمل الذي يعدل القوانين الصارمة التي تحكم الحياة الفيزيقية والجسدية على حد اعتقاد علماء النفس.

هذه النقطة من الأهمية بمكان؛ لأنها تكشف إذن بدراسة السيرة الذاتية لابن عربي عن مشاهد المعرفة والكشف والاختصاص الإلهي. والنقطة الأخرى التي تضاف إلى ذلك عند ابن عربي: إيمانه الشديد بالظواهر الخارقة في الحياة الصوفية كما عاناها في نفسه وعند غيره من مشايخ القوم ممّن كانت له بهم صلات. وقد شرح "آسين بلاثيوس" هذه الظواهر واعتمد فيها على نصوص ابن عربي الأساسية في توضيح زيادة إيمانه بالظاهر الصوفية؛ كالاتصال بأرواح الموتى من الأقطاب والشيوخ، والهيام بأحاديث مستسرّة مع محدثين غير منظورين.

 

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم