صحيفة المثقف

محمد العباسي: مظالم مخلوقات الله من البشر نحو البشر؟

محمد العباسيكثيراً ما يتبادر لي التساؤل عن الكون وكل ما في الكون من مخلوقات.. وطالما يقتصر علمنا الدنيوي على دنيانا وما حولنا في كوكب الأرض، قد يكون من غير المجدي أن نخوض في عالمنا الأبعد من رؤيتنا المحدودة ونتفادى الخوض في العوالم الأخرى التي تحيط بنا في خضم عظم المجرات والسماوات وكل ما هو أبعد من بصائرنا وعلمنا البسيط.. فهل نحن البشر وكافة الكائنات من حولنا على كوكب الأرض الوحيدة المخلوقة في ملكوت الخالق؟ هكذا تساؤل قد يبدو لوهلة عديم الجدوى وهرطقة لا فائدة منها في خضم ما لم نزل نجهله من حقائق وتفسيرات للكثير مما حولنا وبين ظهرانينا من غيبيات وعلوم تتكشف لنا بعض منها بين كل حين كلما اكتشف العالم جديداً لم نكن نعي وجوده لمئات السنوات، لتنقلب معها مفاهيمنا العتيقة عن كوكبنا الصغير الذي لا يتجاوز كونه مجرد حبة رملة في محيط شاسع من الفضاءات المحيط بنا من كل صوب!

فلنعد إلى كوكب الأرض ونحاول سبر بعض أغوارها المستعصية علينا بالفعل، ولنتباحث قليلاً عبر هذا المقال عن أوضاعنا وما حولنا من حياة البشر المليئة بالكثير من الخيرات والمنافع، من جهة، وأيضاً المليئة بالكثير من المنغصات والمظالم، من جهة أخرى. قالت الملائكة لله سبحانه وتعالى يوم خلق آدم (عليه السلام): "... أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟  فهل في خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض مظلمة ومفسدة ويترتب عليها دمار وإفساد وتشويه لكل ما فيها من خيرات وكل من وكل ما عليها من كائنات؟  سؤال عظيم من ملائكة الله وتوجس مستقبلي من مخلوقات الله السامية التي علمت بمئال ما سيؤول عليه الوضع نتيجة لهذا القرار الإلاهي العظيم.. فقال الله لملائكته: "... إني أعلم ما لا تعلمون".

وكان أول الغيث من مفاسد الإنسان ضد الإنسان عندما قتل "قابيل" أخاه "هابيل" نتيجة للغيرة والحسد، ولم تتوقف مجازر الإنسان ضد أخوه الإنسان من حينها.. حقاً نعيش في عالم غريب.. رغم أننا في الألفية الحادية والعشرون، البشرية لا تزال تعيش بربرية القرون الوسطى.. البشرية لم تتعلم ولا تبدو مستعدة لأن تتعلم من الماضي المقيت.. لا تزال الحروب قائمة.. لا نزال نقتل بعضنا البعض بكل وحشية.. لا نزال ندك المدن بكل ما فيها وكل من فيها بشتى أشكال القذائف والقنابل.. براً وبحراً وجواً.. لا تزال المذيعات الفاتنات تنقلن لنا أخبار المجازر ضد الإنسانية في كافة القنوات الإخبارية دون أن ترمش لهن الأجفان.. ولا نزال نشاهد مناظر الدماء والأجساد الممزقة وكأننا نتفرج على ألعاب الفيديو.. بنايات تتهاوى على الرؤوس.. أطفال يتم انتشالهم من تحت ركام الطوب والحجارة ومن بين الأسياخ الحديدية.. نساء وعجائز تقطعت أوصالهن وتاهت معالمهن البشرية.. ويستمر القتل والدمار والعنف والتفجيرات والقصف من شاهق السماء بصواريخ موجهة.. أو غير موجهة كما هو الحال مع البراميل المتفجرة.. ولا تزال صناعة أعتى أدوات وأسلحة القتل والفتك والتدمير هي من أكثر الصادرات التجارية من مصانع دول العالم الكبرى.. ناهيك عن قنابل الدمار الشامل من غازات سامة وجرثومية.. وقنابل النابالم الفوسفورية الحارقة والعنقودية والذرية والنووية والفراغية والهيدروجينية و"الكهرومغناطيسية".. ذات الدول الكبرى التي تتكلم عن دفاعها عن حقوق الإنسان وتنصب نفسها في خانة الدول المتقدمة والمتمدنة والراقية.. وكل أفعالها هراء مستفحل، ورياء أخرق، وكذب بلا حياء.. بل هي نفس الدول التي تفتعل الأسباب وتشجع على الفتنة وتختلق الحروب فقط لتتاجر بالسلاح ثم لتتدخل بعد الدمار لتحصيل المكاسب من إعادة الاعمار!!

حتى الأديان لم تعد بين البشرية الملاذ الآمن من ويلات الآخرين، بل صارت أديان وألوان الناس وأصولهم من معايير التفرقة وبث المظالم والأعذار لمزيد من القتل وارتكاب المجازر.. تصوروا معي مولوداً يخرج للدنيا حيثما كان.. فيكون موصوماً بملامحه الآسيوية أو السمراء أو السوداء أو البيضاء أو خليط حسب أصول الأمهات والآباء طوال عمره.. يتبع دين ملته وما يتبعون فيكون من أتباع إما البوذية أو الهندوسية أو الكونفوشيوسية أو الشنتو أو الجانية أو السيخية أو الزرادشتية أو الطاوية.. أو يكون إبراهيمياً من الصابئة أو من أهل الكتاب، مسلماً أو مسيحيا أو يهودياً.. أو يتبع أي دين من تلك التي يعبدون فيها الطاقات كالنار والشمس والأجرام السماوية والأعاصير أو بعض الحيوانات.. أو ممن يقدسون بعض البشر أو رمز الذكورة أو حتى الأصنام والحجر.. أو يؤمنون بالتناسخ وعودة الروح في أجساد الحيوانات والحشرات!!

اللهم لا اعتراض على لون البشرة والصبغة والملامح.. فالمولود بين أهله وعشيرته كلهم سواء.. أما الجنسية والتبعية.. فالحمد لله على كل حال.. على الأقل يكونون محسوبين على ملة من البشر.. قد يكبرون ويكتشفون كم العيوب والمساوئ والمظالم في مواطنهم.. لكن الوقت يكون قد فات.. جل ما باليد هو ما يفعله الكثيرون من محاولات الهجرة والهروب من الدول المعدومة.. ومن براثن تلك الدول التي يكثر فيها المجازر والحروب والقتل على الهوية.. وفي أحيان كثيرة تصبح الملامح التي رضينا بها وبالاً علينا حيثما نلجأ.. فالآسيوي والأفريقي والعربي الأسمر لا يستطيع الانخراط في دول الغرب مثلاً ولا الذوبان في تلك المجتمعات مهما غير اسمه أو لسانه أو حتى دينه بقصد الاندماج والانخراط هرباً من تبعات التمييز وسوء المعاملة.. ولكم فيما حلّ باليابانيين في أمريكا بعد قصف القواعد البحرية في "هونولولو" في (1941) مثلاً للتمييز حسب الملامح فقط.. ثم ما حصل لبعض الهنود السيخ الملتحين في أمريكا غداة الهجوم على برجي التجارة العالمية.. وتلك المعاملة المتشككة في كل من يحمل الملامح الشرق أوسطية في أغلب مطارات الولايات المتحدة والغرب إلى يومنا هذا !!

ثم ما هو ذنب المولود الذي تطأ قدماه الأرض مسلماً في قرى "الروهينغا" في مقاطعة "أراكان" في بورما (ماينمار) ليتم قتله ونحره وحرقه.. فقط لأنه يعتبر دخيلاً على أصحاب الأرض الأصليين من اتباع البوذية؟ وفي الهند مثلاً أن يُولد مسلماً بين الهندوس أو بالعكس أو لمجرد أن يكون من طبقة المنبوذين (وهذه حكاية أخرى).. وقياساً على ذلك ما ذنب أطفال العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وحتى إيران؟؟ فبرغم أنهم في أوطانهم وبين الغالبية من ذات الدين.. لكنهم يتعرضون لشتى المآسي والتفرقة بسبب الاختلافات المذهبية والطائفية والأصول العرقية والعشائرية.

أحياناً يتم اضطهادهم فقط بسبب الأسماء التي فرضت عليهم.. فهذا اسمه "عمر" و"عثمان" و"عبدالرحمن" وذاك اسمه "جعفر" و "عباس" و عبد الزهراء".. هذا سني وهذا شيعي وهذا زيدي وهذا حوثي وهذا سلفي وهذا إباضي.. هذا كردي وهذا تركي وهذا آشوري.. هذا مسيحي أرثوذوكسي وهذا كاثوليكي وهذا معمداني وهذا قبطي وهذا كلداني وهذا سرياني.. هذا يهودي وهذا بهائي وهذا مجوسي.. هذا من أصول أرمنية أو ساسانية أو أذرية.. بل وهذا فارسي وهذا أفغاني وهذا من بلوشستان وهذا من العرب.. هذا قبلي بدوي وهذا حضري وهذا أبيض وهذا أسود.. وهذا "أصل أصول جد أجداد جده" من هنا أو هناك!!

فبأي حق نفرض على المولود هذه التبعية لمدى العمر؟  ونفرض عليه فرائض دين ومذهب وملة لم يكن له في اي منها قرار؟ بل ونتوقع منه أن يقضي عمره يقاتل ويحامي ويدافع عن معتقد لم يكن له فيه خيار.. وتخبو عنده كل العواطف الإنسانية السوية.. تنمو عنده نزعات همجية رعناء من أجل أمور في كثيرها موضع شك وريبة.. وفي الأخير ربما بينها اختلافات ليست جوهرية.. بل تفسيرية يستغلها البعض من أجل مكاسب دنيوية.. جميعنا نشقى بسببها وندفع أثمانها بغباء !!

فهل تنبأت الملائكة بحال الأرض الدنيا لأن الله بالفعل قد خلق خلائق بشرية سابقة وكلها بثت في الأرض المفاسد وارتكبت المجازر مرة تلو أخرى؟  فبعض الحفريات وعلم الآثار تبدو أنها تثير نظريات ودلائل أنه كان هنالك مخلوقاً (إن لم تكن عدة مخلوقات) قبل سيدنا "آدم"، شبيهاً جداً بآدم وذريته، لكن هنالك فاصل زمني بينهما مقدراً بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف سنة، اختفت فيها آثار كل منهما، وهي الفترة بين هلاك الأول واستخلاف الثاني.. وقد وصف العلماء الدارسون للآثار التي تركها المخلوق السابق "شبيه آدم" في بعض الكهوف بأن هذا المخلوق كان يعيش بطريقة همجية، يكثر فيها القتل وسفك الدماء، من كثرة العظام حول المغارات والكهوف التي كان يأوي إليها.. وهذا الوصف يلامس شرح القرآن في قول الملائكة عند خلق آدم: "قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء".. مما يبين أن شبيه آدم لم يكن إنساناً عاقلاً كآدم وذريته، حيث أشار إلى ذلك قول الملائكة: "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ".. حيث يدل ذلك على أن هذا المخلوق لم يكن يعرف حمد الله ولا تقديسه، وكذلك ربما لم يعرف النطق والكلام، ولا تسمية المسميات بأسمائها.. وهذا ما بيّنه قوله تعالى عندما علّم آدم الأسماء، ليظهر فضل آدم على من سبقه، وحتى على الملائكة أنفسهم، الذين يقفون عند تكاليف الله التي أمرهم بها ولا يتعدونها.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

[email protected]

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم