صحيفة المثقف

سامي عبد العال: حيوان الثقافة

سامي عبد العالتنتزع الثقافةُ من الإنسان (من حيوانه المتوحش) حيواناً أليفاً. وأيةُ ثقافة تحاول الذهاب بعيداً في اصطياد هذا الكائن الحي كي يعُود طائعاً وخانعاً عبر الأنظمة الحياتية المختلفة. فالثقافة دُربة تاريخيةٌ على (ترويض الإنسان) ليرتدي عباءة القيم والقوانين والفنون وأساليب اللياقة السياسية والاجتماعية. هل تكتمل عملية الاصطياد هذه أم أنَّ هناك ثغرات ما؟! فالثقافة خلال عصر التقنيات الراهنة نوع من الإخفاء لتوحُش قاسٍ بشبكات رمزية أكثر شراسةً.

السؤال القابل للاستمرارية: كيف نفسر هذه المفارقة؟! أي رغم أنَّ هناك تطوراً مذهلاً في المظاهر التقنية والمعرفية إلاَّ أنَّها أعطت الإنسان قوى الشراسة والتوحش بتعبير ابن خلدون. ولم تقلل- بالمقابل- من حيوانيته البادية للعيان مع الجرائم والعنف والصراع حول الأديان والسلطة. وهذا مثل القول إنَّ (الأكواخ البدائية) التي كان يعيش فيها الإنسان البدائي مازالت تجاور (ناطحات السحاب) ، ولم تستطع الأخيرة أزاحتها من الوجود. وأنَّ الاثنين (الكوخ وناطحة السحاب) يتمتعان بالقيمة نفسها في تفسير تحولات الثقافة وجذورها مثل غرائز الإنسان والأشكال التي تأخذها تاريخياً.

الثقافةُ تأبى إلاَّ أنْ تكون كُّلاً كنسق متوحد بتفاصيل الحياة. فالفعل التجزيئي لها ليس يُخْمِد تمردَ المرء مهما يكُّن. فهذا إنْ حدثَ سيتجاوزه الإنسانُ تخطياً ونسياناً. ما يقتلِّع أنيابَّه الجارحة: أنَّه كائن حساس لماكينة نسقية تدجن قواه الميتافيزيقية وتوظفها. ولن تكون قوى كهذه خالصةً لتنفتح على ذاته اليومي. فالأنا يتجنب خشونتَّه العارية في الحياة ليتقولب بحسب الأدوار الاجتماعية الغالبة. ولذلك فإنَّ المنعطف الثقافي- خلال أي عصر من العصور- هو انحناء مضاعف في حيوانية الأنا بمعناه الغرائزي، ولا يكف عن التضاعف.

هكذا يتسرب القمعُ عبر الحياة المنتظرة للإنسان. وجانب من المفارقة أنَّ الثقافة تبلغ عُريها عندما تغدو غرائزية وفضائحية كحال الإعلام والسينما والوسائط الافتراضية والخيال الاجتماعي والأغاني. هذا التعري الثقافي واسع المساحة لدرجة الافتضاح. وبات فاعلُوه العرب على موعدٍّ مع الانكشاف المجاني في الصراخ السياسي والعويل والتنابذ والتعصب الديني والسباب والدراما الهابطة والخلاعة والتهتك الأخلاقي. لقد جاء عالمنا الافتراضي سُوقاً عربياً إلكترونياً لتبادل الأفعال اللا أخلاقية وفوق هذا يتم الأمر باسم كلِّ أخلاق ممكنة. وأشكال التعبير عن ذلك ليست متناقضة، ولكنها متدرجة من رجال الدين وليس انتهاءً بالرجل العادي مروراً بالسياسيين والاعلاميين وغيرهم. أغلبهم يتدثَّر بالأخلاقيات النظرية – بطريقة كانط- بينما ينفث ألفاظاً قبيحةً في مجال الأخلاق العملية.

الحيوان البديل

في إطار الغريزة يعلن الأنا عن نفسه لدرجة الإشباع الذي لن يكتمل. وقد يتخفى الأنا بما هو شفاف ورهيف راشقاً أظافره في كيان الآخرين. لهذا تضع الثقافةُ مهمةَ أطول له بشكلٍّ ماكر، حيث تستطرق الأبنية الذهنية للإنسان شحذاً لملكاته وتصوراته الدفينة. كما يعتقد فرويد أن تلك المهمة هي تقليم أظافر التَّوحُش داخلنا بشكل مغر ومقبول. لا لشيء إلاَّ لكي يشيّد عالمه تحت آفاق القيم والتحضر والتمدن. هذا يعني أنَّ التقاليد والقيم لا تتأقلم بسهولة مع الغرائز. كل نسق ثقافي لا يتوانى عن ذلك العنف الضمني، إنَّه تطويع لما هو شاذ وغريب في وجودنا البشري.

لا يفوتنا أنّ كلمة الثقافة بحروفها العربية تعنى " الشحذ والتبرية والتهيئة". ثقَّفَ الرمحَ جعله حاداً ونافذاً حال إطلاقه (أي شحذه) . وثقف حدَّ السكين جعله ماضياً وقاطعاً لما يستعمل له.

تلك العملية بها أربع نقاط:

1- القدرة العامة على ترويض شيء ما أصلي وسابق على الشحذ والتهيئة، وهو الموروث الذ   ي سيأخذ وجوداً جديداً.

2- الانفتاح على ممكنات تالية من خلال الإعداد لما هو قادم.

3- صقل الأدوات الفكرية والحسية للإنسان في أتون الكل الثقافي.

4- التثقيف عنف ليس أقل من انقلابه على نفسه بأسلوب ملتوٍ.

ثمة اعتراضٌ لنيتشه على هكذا ثقافة: أنَّ الحرية التلقائية (أصالة الحرية) تسقط في هذا المستنقع الثقافي، فيرتكس الإنسان أخلاقياً، أي يخضع لنسق القيم بثمن فادح، ثمن فقدان حيويته التلقائية البكر. تلك التي لن تستعاد إلاَّ بتعرية جذور التشوّه بأسماء مختلفةٍ واعلان إرادة التمرد على تقاليده البالية.

يري نتيشه أنَّها لعبة الحياة حين تستعيض دفقها الأصلي في أنماط بديلة من الخنوع والاستعباد. لكن ماذا لو بدا انتظار الاستعاضة افرازاً لحيوانيةٍ مقلوبةٍ. فالأصل البري (البربري- الهمجي) لا يذهب، لا يموت بسهولة. إنَّه يرفل محبوساً في "سِوار من عقيق" اسمه المجتمع.

وقد يتحول السوارُ العقيق إلى قيدٍ دامٍ مع حالة الأنومي anomy برأي إميل دوركايم، أي أن الانسان يتحول إلى وحش كاسر في حالة فوضى المعايير والقيم. فالمجتمعات بغياب التماسك المعياري تغدو حظائر مزرية من التخبط. لا توضيح لذلك إلاَّ فقدان بوصلة الأهداف العليا للجماعة البشرية. ويستمر المجتمع كمجموعة أناوات مفككة بلا مجالٍّ عام. فكلُّ أنا مسكون بشواش عارمٍ يتسمّع أصداءه الخاصة وحسب.

وفي هذا ترتد الثقافة إلى طابعٍ حيواني يعيد منتجاتها إلى علاقات دنيا بين البشر. طابع يتدخل في جميع تفاصيل الحياة. حتى أنَّه يطفح برؤى حسيةٍ لما هو مثالي ومعرفي. فالحس انطباع أصلي عندما يتصفى الجانب الرمزي في قالبه المباشر. ورغم أن الرمزي هكذا يتعيّنٌ لكنه قد يأخذ خطاً عشوائياً مع تنامي الصراع الأيديولوجي. فالإله على سبيل التوضيح قد يصبح سكيناً ورمحاً وحربة. والرحمة تغدو قوساً قاتلاً لا مناص منها. والحب يبدو سُماً ناقعاً في قِدْر عدواني يطغى على كل شيء.

بالنتيجة مع المذاهب الدينية يتخلق البعد الرمزي في شخصياتٍ وممارساتٍ، غير أنَّها تمهد لشيء أبعد. إنَّها تشحن الأخيلة بتجارب العنف تجاه المخالفين. لعلَّنا نراقب تمزيقاً للإسلام من واقع الحروب بين الملّل والنحل: شيعةً وسنةً ومعتزلةً وأشاعرة وجبرية ... إلى غير ذلك.

علينا النظر إلى الجوانب الحسية بقدرتها على تصفية مضمونها للالتقاء مع اليقين المثالي أو العكس كما أشرت. لدرجة أنَّ الدجما لا تتشكل صورياً فقط كما قد يظن البعض. فلأنها تنطوي على إقصاء من نوع ما، فهي تبرز واقعياً كنوع من العزل الحسي والشعوري. وهذا ما ظهر مع الجماعات الدينية القائمة على العزل الشعوري لتأكيد المواقف من الحياة. الإسلام السياسي يضع بينه وبين غيره جداراً عازلاً من الكراهية بشكل لا يطاق. وبفضل أنَّ بوصلة الأنا ولظاه موجهين بالاعتقادات الحدِّية، فيحافظان على توتره الدائم ويجنبانه انشقاقاً على نفسه.

صور الإنسان في الثقافة الإسلامية هي موروث مبني على هذا التوتر تخصيصاً. ولربما تتسع في أنماط طائفيةٍ أشبه بجاذبية المغناطيس دونما تنوع وبلا حرية أصيلة للأفراد. على سبيل المثال، فإن وَقْع عنوان كتاب الغزالي وفحواه أشد أثراً على المتلقي رغم مرور هذه السنوات: " إلجامُ العوامِ عن علم الكلام "، فهو يقيد كلَّ حريةٍ بشكل صارم من خلال سلطة المنع والحظر.

ولهذا الأمر عدة مضامين:

أولاً: يعتبر الغزالي العوام صنفاً متوحشاً من الحيوان الشارد والسوائم المنفلتة، فاللجام يستحضر الحيوان الموجود في الإنسان.

ثانياً: يفترض سلفاً ضعف قدرة العامة على التفكير في قضايا الدين، فهم أجسام بلا عقول ولا فهم ولا إرادة حرة. وتلك دعوة صريحة لاستعمالهم في السياسة و صناعة أرتال منهم خلف المستبدين.

ثالثاً: يمتلك الغزالي حظيرة سياسية لا تقل عن حظائر السلاطين والمستبدين، أي أنه بتكبيل العوام وتكفير الفلاسفة، ينشيء سلطة رجال الدين ونفاذ خطابهم في الحياة العامة، وهو ما برهنت عليه الثقافة العربية الإسلامية في كافة عصورها حتى اللحظة.

رابعاً: يدعم منطق الاصطفاء الإلهي لفئة من الفقهاء دون غيرهم وأنهم بالمنطق ذاته لهم قوة الأمر والنهي.

خامساً: يحتكر الحقيقة، فهي حقيقة محجوزة لأهل النظر ليس أبعد، ولا يصح لغير الناطقين بها عن السماء التكلم عنها.

سادساً: يحتقر الحقيقة، لأنَّ حقيقةً لا يراها كل إنسان (بواقع إنسانيته) إنما هي حقيقة ناقصة، وتظل محل إزدراء حتى محاولة الوصول إليها، إنما هي محاولة محكوم عليها بالتسخيف والسخرية.

سابعاً: يؤسس المعنى السابق للعنف على نطاق واسع. فعلم الكلام يدافع عن العقائد الإيمانية بأدلة عقلية برهانية (ابن خلدون) ، وحينما يحْجُر أحد الفقهاء على غيره معرفتها، فهو يبرر قمعاً ضرورياً للحفاظ عليها.

ثامناً: يسهم في زيادة حيوانية الثقافة السائدة. فقد أورد العنوان كلمة إلجام قصداً، وهي ترتبط بأداة تستخدم للخيول والحمير والبغال... فما الفرق؟!

تاسعاً: يضمر التعبير في العنوان دلالة الفتنة والريبة إذا شاع الفكر بين الناس.

حيوان المجتمع

ليس أوضح من سيولة الرغبات في مجتمع لا يمتلك أكثر من أجساد أفراده. الجسد هو الحصن الأخير لثقافة عربية تعمل على افنائه وتكفينه وإقامة صلاة الغائب عليه ثم احتقاره وملاحقة الناس باسمه في النهاية. فصور الإعلانات- مثلاً- أجساد مرغوبة وأفواه تسيّل اللعاب وأطعمة تناكف المحرومين بلظى اللحم الحي. والإعلام أجساد في صور براقة تخطف الأبصار وكأنَّ الصورة هي كل المجتمع لا غير.

والخطاب الديني تحذيرات رغبوية في تحريم وتأثيم وتفسيق أحوال الجسد ومصيره. لكن تصويره بتلك الأحوال أمر يلوي على رغبةٍ دفينةٍ في التهامه جنسياً وقتلاً وتمثيلاً وجثة واعتقاله وسحله سياسياً. كلُّ ذلك يتم بينما تعتاش السياسة على تراص الأجساد أو اعتقالها في واقع مأزوم بالتجلط الديمقراطي الذي لا يذوب. حتى بات الواقع العربي عمليات انتحارية تحت عناوين مختلفة على مسرح الجسد. بالضبط كما أن النظام الاجتماعي إدارة للأهواء في سوق للأجساد محاطة بهالة الشهوات النفاذة.

سلطة الجسد هي السر وراء هذا التنوع الأثير لاستهلاكه الفج. ومجالاتٌ كهذه تخاطب الحيوان الشرس داخل البشر في ثقافة اللحم الحي. فالحيوان باقٍ ثقافياً بينما ستزول أشكالُّه التي تتحول مع الممارسة. ولئن كان للحيوان فعلٌّ دائم الدلالة ضمن الأنشطة الإنسانية، فهو شعور يربط مجموعة كائنات وفضاءات معاً. ربما تسمى بالحياة حين تعبر عن نفسها في أكثر من طاقةٍ ناميةٍ. فنحن على علاقة شبه خفية مع الكائنات الحية الأخرى، فهي داخلنا ولم تزل تصول وتجول في البيئة المحيطة. ورغم التطور التاريخي للإنسان وتعقيده إلاَّ أنَّها لم تخفف من إلحاح هذه العلاقة الحسية بينها وبيننا.

وتتسع سلطة الجسد باتساع الرغبات وأساليبها العامة القابلة للتوظيف. فالرغبة لا تملك من انطلاقها الرمزي أو المادي غير الإفراط إلى حد الانهاك. فكيف إذا كانت الثقافة تعمل على توظيفها، لتحقيق أكبر قدر من التسلط والغلبة. وهو ما يأتي بعكس المُراد منها دائماً. لأنَّ معنى الجسد له طاقة غير عادية على المراوغة والتشكل خارج الأُطر. فأقل مساحةٍ ممكنة تتاح له سيكون بإمكانه أنْ ينفذ إليها خلال حضوره المرغُوب. ومع هذا الرسم عليه بكافة الأحبار (السياسية والاجتماعية والدينية) إلاَّ أنَّه ينقلب إلى (كتابٍ جلدي) يحمل نقوشاً وبثوراً. يحمل هذا الأشياء حيث يعرضها للعيان، ويطرحها للتلقي.

هكذا إذا رصدنا شيئاً ذا بال في عصرنا الافتراضي، سيكون هذا المعنى أو ذاك لهذا الجسد الذائب في مظاهر العصر وتقنياته. المجسات الالكترونية والألياف الصناعية والشرائح الحساسة جميعها عينات جسدية تحمل من خصائص الحيوان ما تحمل. هي تختزن حياةً وذاكرةً مقننتين في وضع افتراضي له خصائص تمثيلية إزاء المتلقي. حقا الجوانب التقنية هي أبرز معالمها، لكنها كسرت التفرقة الشهيرة بين المادة والروح، الجسد والنفس، الزمني والأبدي. غدت هذه المفاهيم طاقة للفعل كما هو الجسد في طاقته النامية. الجسد تماهى مع العالم حتى غدا أسلوباً في التعامل مع الأشياء، رغم أنَّه يُدرج ضمن الأشياء.

هذا اللاتصنيف الماكر للجسد جزءٌ من دائرية الحياة - الحيوان معاً. إنَّ الجسد تلاشى كمعطى محدد. لقد بداً وسيطاً وعملاً شفافاً كالرقائق الشفافة بحجم العالم. ولقد تجلى فنوناً وحقيقة تفجر مفاجآتها النوعية في مجالات شتى. ثمة تعميم خفي لأنماط المودة modes والأزياء على نطاق عالمي، ثمة رشاقة تبدو جاذبة للأنظار وتتاح كنموذج محليٍّ في أغلب الدول. كما أنَّ الأنشطة الرياضية لون من التنويع المشهدي على الجسد. ليس ثمة أجساد فقط، لكنها القوة الكامنة فيها التي تستحضر فكرة ألعاب الأولمبية قديماً وراهناً. هذه الألعاب اليونانية التي كانت لها آثارها ومردودها في الفلسفة والفكر والمعرفة. فتلك الألعاب كانت تخص الآلهة اليونانية بمقدار ما تخص الإنسان، كانت مشاركةً في الأساطير وصناعتها.

ظلت هذه القوة فاعلةً في وجود الغرب تاريخاً وثقافةً وصولاً إلى الأحلاف والقوى العسكرية. الفكر الغربي بدوره كان واعياً لسلطة الجسد. صحيح ثمة تمثيل رمزي له، لكنه أنتج ثقافة منفتحة في مجال السياسة والمعرفة والأدب. فالديمقراطية (التصويت، تداول السلطة، الثورات، الحوارات، التفاوض، التعبير عن الاختلافات) تضع الجسد في مركز اهتمامها. كذا الأدب صوَّرَ الجسد أكثر روحانيةً بخلاف الغرائز الوقتية. فالأدب تذرية للكتلة وصولاً إلى موضوعها الشفاف. إذ ذاك غدا الجسد استعارة وترادفاً ورواية وسرداً وشعراً خارج المادة البسيطة المنطوي عليها. وأضحت الرغبة الجنسية رغبةً وجودية لا تخلُو من القداسة مثلما تستخدم في الأعمال الآثمة.

حيوانُ الإرهاب

عكس ذلك تنغرس أفعال الإرهاب كأنياب في بنية الجسد، وتتركه كتلة مثقوبة ومهترئة. انياب تشحذها التأويلات العنيفة لنصوص الدين. هكذا جاء مصاصو الدماء الجدد، فاعتبروا الجسد بركة دماء ساخنةٍ تمخر خلالها فتاوي التكفير بلا نهاية. وهذه الأعمال تعرفنا بالضبط: ماذا يُقصد بالحيوان في موروثاتنا الثقافية؟ إنَّه ضحية تتلقفها الأيدي من مجالٍّ إلى غيره. إنسان منهك القوى يخضع لخطاب ديني متطرف. ثم تسفك دماءه التنظيمات والجماعات الجهادية وغيرها. كما كان موضوعاً لأوصاف القبح المدعوم بالأقوال والأحاديث. فالسمة البارزة للخطاب الديني هذا الزجر واللعن تجاه من يذنب، ذلك التهديد والوعيد بالويل والعذاب. وصولاً إلى صور العذاب الحسية التي يضخمها تفسير النصوص الدينية المعبرة عن جهنم في الأديان السماوية.

كانت هذه خطوة لعمليات تقطيع الجسد في أيِّ مكان تحل فيه لعنة الإرهاب. فكم شاهدنا رؤوساً معلقة في الرقة والموصل والأنبار ونينوى واللاذقية وحلب وسيناء علقها الأرهابيون. العجيب أنْ يقف أحدهم بلحيته الكثة وأمامه رؤوس مقطوعة ناظراً بعين التشفي لما يراه. وقد أخذ لقطات جعلته أحد كتّاب الأرشيف الثقاة في تاريخ إراقة الدماء باسم الأديان.

إنَّ الوظيفة الدموية للنص الديني لم تختف في تاريخ الإسلام السياسي. فما أنْ تحكم جماعاته (ولو دويلة) حتى يجرون الأرض دماءً بجز أعناق الكفار والمرتدين والعصاة. وفي هذا يتبدل مقصد الدين من الحفاظ على النفس إلى نصوص انتحارية. جاءت الجماعات الدينية بترسانة من النصوص القاتلة بإمتياز. في كل لقطاتها أثناء الجهاد لا يختلفون عن كائنات شرسةٍ تقتل لمجرد القتل، تريق الدماء البشرية لمجرد رؤيته المرعبة، تخيف بألوانه اللامعة مع صليل السيوف.

إرثٌ كهذا تجاه الجسد يطرح سؤالاً: لماذا تتعامل الجماعات الإرهابية مع الحيوان في الإنسان؟ تراه رغبات دنيوية دنيئة من جانب وموضوعاً للتكفير اليومي من جانبٍ آخر ومادة للأستعباد بالتربية والإخضاع لأفكار المتطرفة. ولهذا لا تملك إلاَّ تقليص كل الدين في ثنائية الجنة والنار حتى تلبي احتياجات التكفير. ثنائية لن تنفك عن استقطاب حادٍ طالما أن هذا الحيوان نفسه له الأولوية على أي شيء آخر. بمعنى: إما سيُذبح الحيوان بسكين التكفير؛ أي إلامَّه جسداً ونفساً كنوع من التصفية القصوى. وبالتالي يرسلونه إلى جهنم لينال الألم الأكبر. إما سينعم الحيوان تحت الطاعة للأمراء باسم الدين وسيدخل الجنة رأساً!! هذا وقد امتدت ثنائيةُ الجنة والنار لتُخرج تفسيرات متشددة للمجتمعات المتنوعة. وعطلت الفهم المفتوح تجاه الآخر والحياة. وشوهت تصورات الخطاب الديني، لأنَّ اختزالاً للإنسان في حيوان داجن ينتظر العذاب لهو قتل لرحمة الدين بالطريقة نفسها. وجعله قنبلة جسديةً تنفجر في وجه أصحابه قبل أعدائه.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم