صحيفة المثقف

علجية عيش: المؤرخ العلاّمة مولود قاسم نايت بقاسم: أمازيغيُّ الدّمِ عربيُّ اللِّسَانِ

علجية عيشهل يمكن للإنسان أن ينسلخ عن جلده ويبدله بجلد آخر؟ لاشك أن الإقدام على هذا السلوك يعد انتحارا أو جنونا، فالهندي يظل هنديا حتى لو تكلم بلغة غير لغته الأصلية، وكذلك  الإيطالي والألماني والروسي والعربي  والمغاربي، والإفريقي، الأمر لا يتعلق بالعقيدة واللغة ليست عقيدة، بل هي جسر للتواصل، فلا أحد يمكنه أن يتنكر لجذوره وهذا يعبر عن الإعتزاز بالإنتماء، الأمر لا يتعلق بالعقيدة واللغة ليسا عقيدة، بل هي وسيلة للتواصل، ومن يريد أن يعرف تاريخ الجزائر من شباب الألفية الثالثة عليه العودة إلى ما كتبه رجال كانوا في مستوى عظمة المسؤولية بدءًا من مولود قاسم نايت بلقاسم، محمد الصغير غانم، أحمد توفيق المدني و امبارك الميلي وغيرهم

المعركة  في الجزائر هي  معركة لسانٍ وانتماء مهما اختلفت الحدود الجغرافية (شمال جنوب شرق غرب) إن جوهر الصراع هو أن نعرف من نحنُ؟، من أين جئنا؟، لماذا نعيش؟ ولمن؟،  وهل اختلافنا مع الآخر يحقق لنا نتيجة، إنه الصراع من أجل الهوية، أن نحافظ على هويتنا لا يتطلب تقديم تنازلات حتى لو غيّرنا شكلنا وانتقلنا إلى مكان آخر خارج حدود بلادنا،  فلا بمكن أن نغير هويتنا الأصلية أو نتخلى عنها، لأنها تعبّر عن جذورنا وأصولنا، أما إن تعلق الأمر بشيئ "مقدس"  (الدين) تكون لنا القدرة بل القناعة للتنازل عن شيئ كنا نراه مقدسا، أوكنا نقدسه، ذلك هو  المفكر والمؤرخ الجزائري العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم الذي تنازل عن  لغته الأمازيغية ليستعمل اللغة العربية يخاطب بها غير الأمازيغي، فقد رضي عن نفسه أن يكون لسانه عربيُّ اعتزاز بدينه، لقد آثر العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم اللغة العربية على اللغة الأمّ (الأمازيغية) لأنها لغة "القرآن" تعبيرا عن انتمائه للإسلام فلا فرق بين عربي وأمازيغي إذن، طالما يجمعهم رابط الدين، هذا الإيثار لا يعني أنه انسلخ عن جلده واستغنى عن لسانه الأصلي.

 أما الذين سماهم بـ: " المُخَرْبِشِين" ، الذين يريدون للآخر  أن ينسلخ عن جلده،  فمكرهم بلغ ذروته ويردون أن يخلقوا حالة من التمزق، وبالوقوف على شخصية العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم وهو يتحدث عن شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830   وهو عنوان كتابه (في جزئه الأول والثاني) جعل من اللغة العربية همزة وصل بين الجزائر والقارئ العربي وهو النهج الذي سار عليه العلامة عبد الحميد ابن باديس المعتدّ بصنهاجيته (كأمازيغي) المعتز بعروبته وإسلامه، إذن لا يمكننا أن نلغي التاريخ، هذا التاريخ الذي قال عنه مولوود قاسم نايت بلقاسم "الإسمنت الروحي إذ فيه الدين والإيديولوجيا والسياسة لتقوية وحدة الأمّة وتعزيز تماسكها وتوطيد أركانها وتعميق الوعي بتلك الوحدة  وإذكاء الإحساس بذلك التماسك"، يقول مولود قاسم نايت بلقاسم: "إن التاريخ وسيلة لغرس حب الوطن لدى الشباب، ويؤكد عناصر الشخصية الأصيلة المنفتحة، في الوقت نفسه على ضرورات العصر بما لا يضر أصالتها ويضمن للأمة  الوجود المتميز الذي يكون عنوانا لها وبطاقة إنِّيَّتِهَا – أو تعريفها- بين الأمم، كَكُلٍّ  قائمِ بذاته وكجزء من كلٍّ أكبر منه ويشمله عربي، مغربي،  إسلامي بل إنساني عالمي، وبالتالي يشمله جزائري سواء كان عربي، أمازيغي، إباضي أو تارقي، فهو الأهم (أي التاريخ) في كل ثقافة، ليس فقط لإستخلاص الدروس أو التعريف بالأجداد ولكن أيضا لغرس الإعتداد بالنفس وتعميق الوعي بالذات وتقوية الإعتزاز بالوطن.

 وقد اهتم العلّامة مولود قاسم نايت بلقاسم بدبلوماسية الجزائر وعلاقاتها مع الدول العربية والأوروبية باعتبارها سيدة البحر البيض المتوسط منذ أكثر من ثلاثة قرون ولا تزال، وكانت الخصم اللدود لقوى الشر، ومكانت الحَكَم العادل بين الخصماء،  فكتاب شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830 كان ردا على هؤلاء الذين سمّاهم بـ: "المخربشين" الذين قالوا أن الجزائر لم تكن في يوم ما "أمّة" ومنهم (موريس طوريز، إذغار مور، شارل ديغول، جيسكار ديستان وغيرهم من القادة الأوربيين،  وردا كذلك على الصحفي المصري محمد حسنين هيكل الذي قال ايضا أنها لم تكن أبدا أمّة في التاريخ)، أمر معقول طبعا من هؤلاء الذين زيفوا تاريخ الأمة الجزائرية، فالعيب والعار من بعض ابنائها الذين تنكروا لتاريخهم،  فقد أرخ مولود قاسم نايت بلقاسم لعلاقات الجزائر الدبلوماسية مع دول اوروبا وعلاقاتها مع أفريقيا، كما أرخ للمقاومات الشعبية والمعاهدات التي ابرمتها الجزائر مع هذه الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.

و لنتصور الأسلوب البلاغي الرفيع الذي اعتمده مولود قاسم نايت بلقاسم وهو يؤرخ لهذه الأحداث وكأنه عربيٌّ الجذور، أو كأنه أديب أو فيلسوف، إذ يقول في الجزء الأول من الكتاب: " وكان ظلم الحقيقة من ذوي القربى ظلما منقولا، أفليس الظلم من الأبناء مازوخية صارخة وتواطؤا مصقولا "، ويرد في الجزء الثاني من كتابه: " إن دولة الجزائريين التي بعثها بابا عروج بهذا الإسم سنة 1516م لم تكن إيالة ولا عيالة ولا خيالة ولا ذيالة ولا سيالة ولا شيالة (حمّالة) لأحد ولا جزء منه ولا تابعة له ولا ملحقة به، هي دولة جزائرية خالصة من الدولة النوميدية إلى الرستمية إلأى الزيرية، الحمادية إلى الزيانية إلى دولة الأمير عبد القادر إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ثم أخيرا إلأى الجمهورية الجزائلاية الديمقراطية الشعبية.

أراد مولود قاسم نايت بلقاسم أن يقول  أن العيب في الشعوب التي لم تسجل أحداثها وظلت خرساء بكماء، فالتاريخ ايضا سيبقى أخرس ابكم ساكتا عنها، لا يدرجها في سجلاته أو يعمد إلى ملء ذلك الفراغ الذي يستدعي الإنتباه باستعمال الشهادات الناقصة والمجحفة المُزَوَّرَة بالضروري التي تتمثل في الكتابات الرديئة التي يدلي بها أعدلؤ ثرثارون، كما ينتقد  الجزائريين الذين كانت لهم القدرة على  تدوين تاريخ الجزائر وأعمال الرجال وكشف الحقائق ولكنهم كانوا أميّين من حيث تسجيلها والإبانة عنها وإبرازها وتخليدها بالكتابة بالحرف للأجيال جهلا منهم بقيمة التاريخ واستخفاف بأهمية تسجيل الأحداث لإستخلاص العبر، إن خطاب مولود قاسم نايت بلقاسم (الأمازيغي) بلغة الضاد لهو رسالة للعروبيين، بأن المشكلة ليست في اللسان وإنما في الفكر،  فهو يخاكطب الوجدان ويستعمل المعاني التي تؤثر في النفس.

و يختتم المؤرخ مولود قاسم نايت بلقاسم كتابه (الجزء الثاني) : لقد ظن بعض الناس في وقت ما أنهم يستطيعون الإستغناء عن التاريخ،  ولايزال البعض حتى اليوم على هذا الرأي،  فهم يرون أن التاريخ ليس غبار الماضي الذي لا يجدي فتيلا، ولكن الماضي يظل مفعوله مستمرا حتى عندما يرفض البعض معرفته، هذا الرفض الذي ينتظر البعض أن يحررنا ولكنه في الحقيقة يضيق الخناق علينا ويعرضنا لأحداث يومية وتيارات جارفة، لأننا لا نعرف أسبابها التاريخية، ثم يضيف قائلا: إنه لا يمكن أن يأمل النجاة من أخطاء الماضي إلا من يعرفها، ولكن ليست معرفة الأخطاء فقط هي قصدنا من التاري، بل معرفة الصورة الكاملة للماضي، معرفة التاريخ كله، وهكذا فإن تاريخ أية أمة من الأمم مفتاح يؤدي إلى وطن فكري، روحي يخلق ألفة ويضمن أمنا وثقة بالنفس.

  من هذا المنطلق يمكن أن نفتح هنا قوسا (...) ونقول: ماذا يفيد إن كنا نتكلم عربي ولا نفكر عربي، فإسرائيل تتكلم عربي، وأصبح لسانها عربي لكنها  ظلت تحافظ على فكرها، هذه الملاحظة تقودنا إلى ما كتبه الدكتور عبد الله ركيبي في كتابه " عروبة الفكر والثقافة أولا" حيث قال: "إن تفكيرنا في كافة القضايا أو معظمها يوشك أن يكون مستوردا، جاءنا من الغير وتبنيناه نحن بلا فهم ولا تمحيص ولا تدقيق ووضعناه في رؤوسنا وحاولنا صبغه بصبغتنا، فلا هو تفكيرنا ولا هو نابع منّا، ولعل هذا هو السبب فيما نعانيه في بيئتنا العربية من اضطراب في الفكر والسلوك معا"، يقول الركيبي: إن مثل هذه القضايا لا تذوب ولا تتجمد ولا تتوقف، لأنها تحدد هوية الشعب وتصور واقعه وتطبعه بطابعها الخاص، كما أنها أيضا ترسم له مستقبله وهذا من شأنه أن يقضي على التشرذم والتمزق والتناحر

 

علجية عيش

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم