صحيفة المثقف

بليغ حمدي إسماعيل: تَجْدِيدُ الفِكْرِ مِن شَهْوَةِ البِدَايَاتِ إلى قَسْوَةِ النِّهَايَاتِ

بليغ حمدي اسماعيلإن الإنسان لم يواجه محنة في تاريخه أشد مما يواجهها اليوم، ولا يظن البعض أننا نرمي إلى خطر أسلحة الدمار الشامل وملحقاتها، ولكننا نقصد ما هو أفدح من أسلحة الدمار والفتك التي باتت تهدده ألا وهي محنة العقيدة، محنة الروح من خطر الفلسفات المادية التي أصبحت تسود وتزحف وتحتل كل يوم موقعاً جديداً . لقد تجاهلت الفلسفة المادية كل القوى المعنوية، والقيم الإنسانية، وحصرت المشكلة كلها في لقمة العيش أو الجنس، ونسيت أو تناست أن عمل المعدة وشهوة الجنس تتساوى فيه مع الحيوان تمام المساواة، وأنهما ليسا أشد عراقة من المشكلات الإنسانية العليا ونفاذا إلى الصميم.

ومما يضاعف خطرها أنها لا تقف وحدها في الميدان ولكن تساندها قوتان لا نقلل من أهميتهما هما: الإيمان المغرور بالعلم، والاستغلال بنوعيه؛ المادي والمعنوي، والخطة الحصرية لمواجهة هذا التيار الجمعي الجارف شئ واحد هو المسئولية الفردية، هذه هي بداية الطريق في معركتنا الإنسانية القادمة ، فليس الوعي الإنساني فرض كفاية، وإنما على كل فرد أن يحمل عبئه من الواجبات الإنسانية قدر جهده.

وما أحوجنا في ظل هذه الظروف المادية التي تكبل إنسانية الإنسان أن نقدم ملامح  منهج ذي أسس إسلامية راسخة لمجتمع أفضل وما أحوجنا هذه الأيام لمنهج كهذه في ظل ظروف سياسية محمومة يسعى البعض بيننا لتقويض الوطن ومحاربة مؤسساته ومعارضة الرئيس بغير حجة أو دليل تحت دعاوى الديموقراطية والتعددية السياسية في الوقت ذاته الذي نرى فيه بعض رجال الدين يهرعون باتجاه السياسة متغافلين جل شأوهم وشأنهم الجليل وهو تبصير المسلمين بمعالم دينهم وشريعتهم السمحة.

مِحْنَةُ العَقِيدَةِ:

ولعل أبرز مشكلات العصر الراهن مشكلة الجيل الحائر الذي فقد المثل الأعلى والهدف الصالح والغذاء الروحي والقدوة الحسنة والفكرة السليمة التي يمكن أن يجتمع عندها الشمل وتأتلف الكلمة وهو ما نفتقده بوضوح هذه الأيام بعدما تفرقت الكلمة بين تيارات إسلامية وجبهة إنقاذ وتيار شعبي وحركات ثورية تأتي من كل فج عميق وتهوي بنا إلى مستقر سحيق. و طالما يتعرض هذا الجيل إلى هزات عنيفة من اليأس والأمل والمفارقات الطريفة من الإقدام والتردد والصراع الأليم بين الواقع المر والحلم الذي نعيش فيه، ومن ثم فالواجب على رجال الدين أن يستنهضوا عزائم الشباب لتشخيص دائهم وتقديم العلاج الصحيح لهم، و ضياع الجيل الحالي مفاده أن المعنيين بعلاج الشباب روحياً يخطئون في تشخيص الداء ثم يضعون حلولاً غير عملية لمشكلات وهمية لم تقم على أسس من الدراسة الواعية والفحص الصادق العميق، وتكون النتيجة في تلك الحالة أن تذهب جهودهم سدى ويستسلمون لليأس بعد أن يبلوا البلاء الصادق في كدهم وجهدهم، وينفقون الأعوام الطوال في الجهاد والكفاح.

ولنا أن نؤكد على أن التاريخ مملوء بالمصلحين والضحايا منذ الأزل فما انتفى الشر ولا صلح الحال، ولكن جهود المصلحين لم تذهب عبثاً، وإنما أفاءت على الإنسان جسداً وفكراً وروحاً ما لا يحصى من الخيرات، وغاية الأمر من ذلك طموح أبداً لا يكاد يعتلي درجة من درجات الرقي حتى يتطلع إلى أخرى، وتتلخص سعادته ورقيه في هذا التطلع والعمل له، وما دام في الإنسان نفس يتردد فلن يهدأ له بال ولن يستقر على قرار ولن يكتفي بجهد السابقين فيما قدموه له، بل عليه أن يأخذ دوره مثلهم وأن يجعل حياته عامرة بالجهاد والنزوع. وهناك ضرورة أن يقوم كل جيل بدوره في تصحيح أخطاء مجتمعه، وفي السمو به مادة وروحاً إلى أعلى، و مفرق الطرق بين مصلح ومصلح لا في مقدار الجهد ولا الحماسة للفكرة، وإنما في تشخيص الداء، ووضع يده على المشكلات الحقيقية التي تعتاق طريق مجتمعه عن الرقي والنهوض.

وإذا كانت الخطوة الأولى وهي تشخيص الداء تبدو عسيرة، فإن الخطوة الثانية لإصلاح المجتمع هي أشد عسراً من الأولى، فقد يتفق أكثر من واحد على تشخيص الداء ويختلفون في تحديد العلاج . وهو ما نلاحظه اليوم مع تعدد المذاهب، والتي عادة ما ترجع إلى مذهبين جامعين المذهب الجماعي والمذهب الفردي ونحن نرى أن من بين أتباع المدرستين من وفق توفيقاً لا شك فيه في الكشف عن العلل الدفينة، ولكنا لم نر بعد من وفق مثل هذا التوفيق في العلاج الصحيح مع أن كليهما يشتعلان غيرة صادقة على خدمة الإنسان.

وبين هذين الاتجاهين المتقابلين يقف الإنسان حائراً متردد الرأي والخاطر ويتساءل مستمراً أين الاتجاه الصحيح؟ وهو ما يعبر عنه الطرح الاستفهامي التالي: هل هناك حياة أفضل؟ . وإذا لم تكن هناك حياة أفضل فهل حياتنا هذه جديرة بأن نحياها؟ . نعم لمن هذه الحياة إذا كان كلنا يشكو؟ هل يدعي أحد أنه يعيش في دنياه كما ينبغي، وأن يحقق الوسائل التي تكفل له ذلك؟ أم سيظل أبد الدهر عاجزاً عن تحقيق هذه الوسائل.. الحق أننا غفلنا عن السعادة التي نتعشقها كما تدور في خيالنا لأننا غفلنا عن الوسيلة الصحيحة، إن بيننا وبين السعادة الممكنة حاجزاً شفافاً نراها منه ولا نتناولها، فهل نستطيع أن نصل إلى المفتاح السحري لهذا الباب لنغترف من هذه الحياة المترعة بالهناء على قدر ما نطيق، فلم يمنحنا الله الحياة لنعطيها ظهرنا ونعيشها ونحن نتحسر في ضيق الحرمان، إن الله أوسع رحمة وأشمل عدلاً من أن تكون هذه الحياة مجرد معاناة وحرمان.

وقبل أن نضع خطة ونعبد بها الطريق الذي يجب أن نسلكه يحسن بنا أولاً أن نلقي نظرة فاحصة على المعوقات التي تقف في طريق نهضة الأمة فتجعلنا ننحرف عن الجادة وأبرزها التقليد والنزوع وراء المادية وغلبة الأنظمة الطاغية وشيوع الدعوات الانفرادية المفككة التي لا تجيد الربط بين القيم العليا وجمعها في خيط واحد لتنتظم حياتنا من جميع نواحيها.

كما أن معظم النهضات السابقة كانت رد فعل لمظالم واقعة وهذا طبيعي، ولكنها لم تكد تقوم وفي نيتها دفع الظلم وحده حتى تحل مكان القوة المنسحبة كقوة طاغية مستبدة، فتكون أشبه بعملية انتقام منها بثورة وإصلاح. أيضاً من المعوقات أن بعض دعاة الأفكار كانوا خياليين حالمين، ولكنهم لم يكونوا دارسين دراسة تامة واقع حياتهم المحيطة بهم وطريقة تناولهم لفكرتهم بالصورة التي يمكن أن تجد قبولاً لدى مستمعيها، وأن يتطوروا شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى النتيجة المرجوة.

وإذا فكرنا سوياً بمنطق المشاركة لا المغالبة في الرقي والنهوض بأمتنا الإسلامية فمن الأحرى علينا جميعاً أن نحدد الحلول المتينة لنهضة الأمة واستباق الرقي والتقدم منها وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الجزاء الذاتي أي محاسبة المرء لنفسه قبل محاسبة الآخرين،والجزاء الذاتي هو أن تفعل ما تعتقد أنه الخير بدافع داخلي محض أشبه بالاستجابة الطبيعية التلقائية منه بالعمل المحدد المرسوم، أن تفعل الخير جهد ما تستطيع لأنه خير، لا لأنك تثاب عليه أو لأنك ستتلقى الشكر من أحد .

فلنتدبر جيداً ولنفتح عيوننا وبصائرنا لنعلم أن كل ما نعانيه من خلط واضطراب وتخبط في أمورنا وفي معاناتنا للحياة الكريهة التي نعيشها إنما هو لسبب واحد: هو أننا غفلنا في تاريخنا كله عن هذا القانون العظيم الذي يتلخص في كلمتين اثنتين: الجزاء الذاتي. إن خطيئتنا الكبرى على مدى التاريخ أننا ألقينا بالجزاء من الداخل إلى الخارج، فتعلق الإنسان به سواء أكان جزاء دنيوياً أم أخروياً، غافلين عن الجزاء الحقيقي الأسمى الذي ينبع من النفس ذاتها، والذي يعلو على كل جزاء، إننا في حاجة أن نوليه الجزء الأكبر من عنايتنا والنصيب الأوفر في ثقافتنا وتربيتنا حتى ينال منا ما هو جدير به من الاهتمام الكامل، والتقدير الصحيح وبعدها سوف نفخر أننا نعيش في مجتمع بشري متحضر لا كهذه الذرات المتناثرة التي تتخبط في عماء.

فهذا التخبط في كل شئ من شئوننا، وهذه الفوضى الضاربة أطنابها في كل ناحية، والانحلال الذريع في كل مكان، هذا كله لا علاج له إلا شئ واحد الإسراع في تطبيق هذا المبدأ الجليل، ولا يفهم من هذا أن هذا المبدأ غير معمول به حتى الآن، فما أعمال الأنبياء والمصلحين والمخلصين من أبناء البشر منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا إلا ترجمة دقيقة له، حتى إنه روي عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد أنه قال: " لو لم أؤجر على ترك الكذب لتركته أنفة" .

وما أجمل الجزاء الذاتي وما أسماه وما أرقه خاصة حينما تسود بيننا قيمة عليا وحينما يحاول كل فرد أن يطبقها في حياته جهد ما يستطيع، إنه الأساس المتين لكل ما يبنى عليه من القيم العليا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بإذن الله.

ومن ركائز نهضة الأمة الإسلامية أيضاً إظهار الحق عن طريق الإقناع، ويعني أن المناخ الصالح للفكرة هو التسامح المطلق مع كل رأي آخر ودرسه بحرية مطلقة وإفساح الطريق لكل فكرة جديدة مهما تكن مناهضة لآرائنا وكل حجر على حرية الرأي لأي عذر وأي تبرير يجب أن نجعله دبر آذاننا وليكن الحكم الفيصل بين ما لكل فكرة وما عليا هو موقف الرأي العام منها بعد دراستها وتمحيصها وإعطائها فرصة الحياة والظهور.

فالنقاش الحر البناء هو الذي يكشف زيف الفكرة أو صدقها ويوضح صحيحها وباطلها، وقد تكون الفكرة ناقصة فيكملها غير صاحبها، وقد تتجلى لنا أثناء النقاش أفكار أخرى لا تخطر على بال صاحب الفكرة أو من يعارضه، ويكفي أن يشعر كل صاحب رأي أنه محل احترام مواطنيه وأهلاً لثقتهم ليضرم في قلبه نار الإخلاص والكدح في تقديم كل ما يمتع وما يفيد.

ومن أسباب النجاح للأمة الإسلامية توافر الثقة بيننا،  لا سيما وجود حالة من الثقة الغائبة بيننا هذه الأيام والقلق والتخوف والحذر الذي يولد الاضطراب ومن ثم الإضراب فتتعطل الحياة ويشيع العجز والركود وحقاً إن ما تعاني منه مصر الآن هو أزمة الثقة في كل شئ وفي كل إنسان ومع الجميع ؛ أزمة ثقة بين الوالد وولده، والزوج وزوجه، والمدرس وتلميذه، والمرء ومرؤوسيه، والجار وجاره، والبائع والمشتري، وقس على ذلك كل ما بين الناس من صلات ومعاملات وروابط في كل ناحية من نواحي الحياة . وكيف تسقط هذه القيمة العليا من سماء المجتمع وهي شمسه المضيئة، وكيف تعزل عن كيانه وهي روحه الحي، ثم يرجى لهذا المجتمع البقاء، فضلاً عن النهوض والتقدم والارتقاء.

شَبَكَاتُ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِي .. الرُّؤْيةُ والحِمَايَةُ:

ظل التربويون والمربون سنوات طويلة يبحثون عن إجابة شافية وكافية لسؤال مستدام وهو كيف نحمي شبابنا المسلم من التيارات والمستجدات المعاصرة التي لا تتفق وقيمنا الإسلامية ومعاييرنا الراسخة والمستمدة من مصدري الإسلام الرئيسين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

وأخذ كل عالم يفتش في مصادره الثقافية عن وسائل مواجهة هذه المتغيرات التي قد تعصف بالبناء الفكري والقيمي والديني للنشئ المسلم، فتارة يؤكدون على أهمية دور المسجد كمؤسسة دينية أولى منوطة بإقامة الشعائر الدينية وتربية الطفل المسلم تربية سليمة في مناخ مؤهل لذلك .

بينما ذهب آخرون إلى بيان دور المؤسسة التعليمية في الحفاظ على الهوية الإسلامية من خلال مناهج تعليمية توضح حقيقة الإسلام وعباداته والقيم التي تنطوي تحته . وعاد البعض الآخر إلى النواة الأولى في إعداد الفرد ألا وهي الأسرة المتمثلة في الأبوين، واستنهاض الدور الغائب لهما في تربية وإعداد الفرد لمواجهة ما يطرأ على حياة المجتمع اليومية من مستجدات ومتغيرات ثقافية وأيديولوجية .

ولكن وسط هذا البحث المحمود من جانب التربويين والمربين لسؤالنا السابق، تفجؤنا متغيرات محمومة بالتسارع والاستباق، وهي ما تعرف بشبكات التواصل والتعارف الاجتماعي . وهي تلك الوصلات الإليكترونية التي تمتد عبر أنحاء العالم وتتيح للفرد فرصة مشاركة الآخرين خبراتهم وأطروحاتهم الفكرية والاجتماعية التي قد تتفق مع هويتنا الإسلامية والعربية بعض الأحايين، وتختلف وتتعارض مع الأيديولوجية الإسلامية أحياناً كثيرة .

ولا وبد وأن نقر حقيقة معاصرة، وهي أن العالم أصبح يعيش الآن ومنذ فترة ليست بالقصيرة ثورة مستدامة في الاتصال الاجتماعي والتواصل عبر مواقع خصصت لهذا الغرض ولا شك وأن بعضها قد يؤثر تأثيراً سلبياً على تنشئة الفرد المسلم لاسيما الشباب الذين هم عماد هذه الأمة الإسلامية وقوام نهضتها المستقبلية .

وفي محاولة لرصد ما يمليه الشباب ـ وهم الفئة الأكثر مشاركة في شبكات التواصل الاجتماعي ـ من مشاركات وإضافات يستطيع أي مستقرئ لتلك المشاركات  إدراك ظاهرة العزلة والانطواء وقصور المشاركة الفعلية في أنساق المجتمع  التي يعيشها هؤلاء، وأنهم يتأرجحون بين وسط اجتماعي افتراضي من نوع خاص يريدون إيجاده،  ليكونون فيه المحور والمرتكز، وبين إسقاطات لبعض المشكلات والأزمات الحياتية والاجتماعية التي يمرون بها وهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار حاسم بشأنها .

وهؤلاء الشباب وهم يعيشون في عالم افتراضي يسبحون فيه عبر صداقات لا تحمل مفهوم الصداقة بقدر ما تحمل رغبة محمومة في تغيير الوجوه التي يألفونها، وتجديد الآراء التي يسمعونها كل حين . لذا من السهل على الراصد أن يدرك مدى تعدد مذاهب ومشارب مجموعة الأصدقاء التي يقيمها الفرد صاحب الصفحة الإليكترونية على هذه الشبكات التواصلية .

وكما تتعدد المذاهب والمشارب تتعدد صنوف المشاركات لهؤلاء الشباب؛ بحثاً عن مناخ مناسب وملائم لاحتياجاتهم العمرية ومظانهم النفسية والعقلية، وتعد شبكات الاتصال الاجتماعي تلك متنفساً خصباً لهم، لاسيما وأن طبيعة شبكات التواصل تفرض عليهم عدم البوح بشخصياتهم الحقيقية وهو ما يتوافق مع حاجاتهم ودوافعهم في تقمص أدوار وشخصيات يريدون تقليدها أو محاكاتها .

ولعل أبرز المشاركات التي يقوم بها هؤلاء الشباب تتركز في الجانب الديني، حيث إن الشاب في هذه المرحلة يسعى جاهداً بقصد أو بغير قصد إلى تكوين توجه ديني صريح، قد يتسم بالمغالاة أحياناً، وقد يتسم بالتوجه الظاهري، أم الاعتدال أحيانا أخرى .

ويمكن اعتبار طرح الأسئلة المتعلقة بالدين من أهم مظاهر اليقظة العقلية لهؤلاء الشباب الذين يفضون بأسرارهم وما تحمله نفوسهم من مظان وحقائق تسير في طريقها لليقين المعرفي ، ويأتي ذلك في أعقاب النضج العقلي، وتتفتح ملكة النقد، ويكون الشباب  أكثر قابلية لطرح تساؤلاته في الأمور الدينية، ولاسيما المتعلقة بالتوحيد، ووجود الله، والثواب والعقاب، و وهذا الطرح لدى المراهق أو الشاب يختلف باختلاف مزاجه  وذكائه ومعارفه وظروفه الخاصة، فيتراوح بين الاهتمام النقدي العابر، والارتياب في بعض العقائد المغايرة لعقيدته .

وفي ظل اجتياح ثورة الفيس البوك والتويتر والنت لوج وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي، يميل الشاب في هذه المرحلة في أن يستقل برأيه، فنتيجة لنضجه العقلي أو الجسمي يشعر المراهق بأنه وصل إلى مرحلة يستطيع أن يتخذ فيها قراراته بنفسه، ويصبح أقل اعتماداً على آراء الكبار من حوله، وبقدر نفوره ومحاولته التخلص من آراء الكبار من حوله بقدر ما يرغب في أن يكون عضواً في جماعة من عمره الزمني، وتختلف نظرته برأي الجماعة عن نظرته لآراء الكبار، حيث نراه يلتزم ويخضع لرأي الجماعة لأجل الحصول على قبول ورضى تلك الجماعة وبالتالي يكتسب سلوك الجماعة سواء في اللبس أو الحديث، أو الأفكار.

وتسهم الصداقة الافتراضية من خلال شبكات التواصل المختلفة  في نمو الإحساس بالهوية أو الكينونة، خاصة الصداقة ذات العلاقات غير المباشرة، أو ما يعرف بالأصدقاء المختبئين، وعندما يصل هذا الشاب إلى إحساسه بالهوية لمستوى معين من القوة والتماسك، فإنه يشعر بنوع من الدفء والألفة مع هؤلاء الأصدقاء، وتساعد هذه الألفة إلى تكوين هوية منفصلة عن الأسرة.

وتظهر الاتجاهات الدينية لدى الشاب بصورة واضحة في هذه المرحلة وتكون محوراً أساسياً في مساجلاته التواصلية مع الآخرين عبر شبكات التعارف والتواصل، لأن الاتجاهات ذات طابع اجتماعي، فهو يميل إلى مسايرة الجماعة التي ينتمي إليها ويفضل المناقشة معها في أمور تتصل بحياته وأفكاره وأحلامه، كما تتضح اتجاهاته إلى النقد والرغبة في الإصلاح، وميله إلى الزعامة.

وتتميز فترة المراهقة ـ التي ينتمي القسط الأكبر منها إلى ثورة شبكات الاتصال الاجتماعي  ـ  بأنها فترة يقظة دينية توضع فيها المعتقدات الدينية التي قد كونها المراهق في طفولته موضع الفحص والمناقشة، وتتعرض للتعديل حتى تتفق مع حاجاته الجديدة الأكثر نضجاً، ولذلك فإن مرحلة المراهقة يصبغها الاتجاه الديني والاهتمام الديني.

ويزيد من اهتمام الشاب بالمسائل الدينية أنه مطالب بممارسة العبادات بشكل أكثر جدية مما كان عليه الحال في الطفولة،بالإضافة إلى أن مناقشاته مع أصدقائه يغلب على موضوعاتها الأمور والمشكلات الدينية، وكما أن بعض الحوادث التي تقع له كموت صديق أو قريب، أو الصعوبات التي يواجهها تجعله يزداد تركيزاً على الدين وأموره. وتتميز هذه الفترة بظهور الاتجاهات المختلفة لدى المراهق، أبرزها الاتجاه الديني وهو يتكون عنده عن طريق المرور بخبرة معينة، ولا يتكون من موقف واحد بعينة، ولكنه ناتج عن مجموعة مواقف يتعرض لها المراهق، وتساعد هذه الاتجاهات الدينية في إشباع حاجاته ودوافعه، وتحقيق أهدافه التي رسمها لنفسه.

وإذا قمنا باستقراء اتجاهات الشباب الدينية من خلال رصد ما يقومون به من مشاركات من خلال شبكات الاتصال الاجتماعي  يمكن تصنيفها  في أربع فئات ؛ فئة تلتزم بقواعد الدين كما انتقل إليهم من البيئة التي نشأتهم دون ميل ظاهر إلى مناقشتها أو معارضتها أو حتى أخذها مأخذها تظهر فيه شخصيتهم، وفئة تأخذ الدين مأخذ الدين مأخذاً أكثر جدية، تتبدى فيها محاولة المراهق محاولة شخصية دعم الدين وتبريره وتسويده على اتجاه مضاد. وفئة ثالثة  لا تقف مع الدين موقف الاستسلام السلبي، وتتفق مع الثانية في إبراز شخصيتها إزاء الدين ولكن في اتجاه نقدي، وهذه الفئة تنتمي إلى المتشككين.

أما الفئة الرابعة والأخيرة: فهي فئة المنكرين لله إنكاراً واضحاً، وموقف هؤلاء يختلف عن موقف الفئة الأولى في تحررهم من الاستسلام والسلبية، وتتفق مع الثانية في الحسم، ولكنه حسم مضاد. والتوجه الديني عند المراهق يأخذ إحدى صورتين؛ الأولى هي توجه ديني ظاهري، وصاحبه غير ناضج انفعالياً، وغير متزن انفعالياً، حيث إن دوافعه الأولية  تتحكم في سلوكه، كما أنه غير ملتزم بتعاليم دينيه ومعتقداته.

وفي هذا يعتبر عدم صدق النية، وعدم إخلاص الفرد في عمله وقوله لله عز وجل، تديناً ظاهرياً، ومثل ذلك الشخص الذي ينفق ماله في وجوه الخير ويتصدق بها على الفقراء دون أن يقصد به وجه الله وبداخله حب الثناء والتقدير من الآخرين. والصورة الثانية، هي التوجه الديني الجوهري، وصاحبه هو الذي يعيش دينه ويعده الغاية،ويعمل طبقاً لتعاليم دينه ويطبق ما أمر الله به، والإيمان بالعقيدة هو الدافع للحياة،أما الحاجات الأخرى فهي ذات أهمية ثانوية، ويمكن تكييف هذه الحاجات وتطويرها لكي تخدم الدين وتعاليمه.

والكثير من الشباب يرى في شبكات التواصل الاجتماعي مخرجاً لهم يبوحون من خلاله بانتماءاتهم الدينية التي ربما تحمل بعض مشاعر الاحتقان والتهميش للآخر، وربما يجدون فيه بوابة سحرية للتعبير بل والجهر بآرائهم التي ربما لا تحمل قدراً كبيراً من الصواب والاتزان الديني، ناهيك عن كم وكيف الفتاوى التي يصدرونها دون وعي أو روية أو دراية، والأدهش أنهم يحملون على عاتقهم مسئولية حوار الأديان.

ولكن الأجمل لو أننا استثمرنا هذه الطاقة الإليكترونية في إدارة المعرفة المفيدة والنافعة ومن ثم تروجيها والنفع بها، وتعد إدارة المعرفة من أبرز ملامح القرن الحادي والعشرين، وتكاد تشكل مركزاً محورياً في أجندات الدول المتقدمة وهي تسعى لبناء نهضتها، حيث إن الاستثمار البشري والتنمية القائمة على المعرفة حلت محل الاستثمار المادي والتنمية القائمة على الاقتصاد . هذا المعنى نفسه ما أشار إليه فرانشيسكو خافيير كاريللو في كتابه " مدن المعرفة "  Knowledge Cities، من جهة أن العالم المتقدم الآن يتسارع بصورة محمودة في استثمار الطاقات المعرفية للمواطن .

وأن فكرة حث المواطن على الابتكار والاكتشاف لم تعد من أفكار الترف والرفاهية، بل هي ضرورة حتمية لمواجهة تحديات وتطورات هذا العصر . وأنه ثمة مصطلحات أصبحت أساسية في قاموس تقدم الأمم وتميزها الحضاري مثل مرافئ المعرفة، والطبقة المبدعة، وشركات المعرفة، ومحركات الابتكار، ومواطن المعرفة، واكتساب المهارة .

وفكرة التنمية القائمة على المعرفة تخطت الحيز التصميمي والتنظيمي والتخطيطي لتكون واقعاً مرئياً ملموساً، بدليل تشييد مدن تم إنشاؤها لتضم المئات من الخبراء والمتخصصين في العلوم التكنولوجية هدفها جعل الإنسان هو رأس المال المستقبلي، وتصب مجمل اهتمامها في جعل القرن الحادي والعشرين هو قرن المعرفة، في الوقت الذي تبذل فيه دول أخرى لاسيما في أفريقيا جهوداً مضنية للحد من تفشي ظاهرة أمية القراءة والكتابة، بالإضافة إلى محاربة مظاهر التلوث البيئي والانتشار المحموم للأوبئة والأمراض.

نِهَايَةُ التَّرْبِيَةِ:

من أجل تطوير التربية العربية الراهنة، فنحن بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب التربوي نفسه، وإيجاد إطار مرجعي يحكم الظاهرة التربوية التي تمارس في مؤسساتنا التعليمية الضاربة بالوطن العربي شرقا وغربا، وإذا كانت الحياة اليوم تتسارع بصورة رهيبة، فبات أولى الاكتراث بضرورة تنويع خطابنا التربوي العام مستهدفين خلق جيل جديد من الطلاب يستطيعون مواجهة تحديات المستقبل . وإذا كانت التربية الفوقية التي تصدر عن صانعي القرار التعليمي لا تعكس واقعنا المدرسي الحقيقي فغن هذا يزيد من تفاقم أزمة التربية التي تشارف نهاياتها إذا لم ندرك المفارقة القيمية بين قرار تربوي يصدر، ومشهد تعليمي مغاير .

فحتى الذين لا يدركون كنه التربية، يفطنون حد اليقين أننا على مشارف نهايتها التي تبدو منطقية بعض الشئ، وهذا الوعي الذي امتثل ليقين الفعل جاء من سؤال مفاده هل تمتلك المؤسسة التعليمية العربية مقومات التربية؟ . والسؤال بهل يقتضي دوما إجابة بالإيجاب أم بالنفي، وفي المشهد التعليمي الراهن وفي ظل أزمات التربية المتلاحقة تغدو الإجابة الحتمية بالنفي غالبا .

ومشارف النهاية تجئ على عجل كوننا على كفاءة ومهارة في توصيف واقعنا التربوي، وتوافر إمكاناتنا الهائلة في رصد الخلل ومواضعه، والتردي ودوافعه، وهذه سنتنا التي لا تنقضي أننا نجيد توصيف العَرَض وسرده، ثم ندخل في حالات من الجدل الواسع في علاج المرض، الأمر الذي يؤدي بنا دائما إلى تبني سياسات تربوية لا تتوافق مع واقعنا الراهن ومستقبلنا الذي يبدو غامضا معرفيا وتعليميا . وهذا الجدل يعكس قصورا شديدا في العلاج.

ونقطة الصفر الغالبة على سياساتنا التربوية تجعلنا نؤكد على ملمح رئيس للتربية العربية التي تشارف على النهاية ؛ أحادية الرؤية التربوية، فمشكلة التخطيط لا تزال تقف عند عائق الأحادية وجنوحها بغير اكتراث أو اقتناع للأخذ بفكرة المشروع الجماعي للتخطيط، حتى ورش العمل والندوات الجمعية التي تعقد ليل نهار بمؤسساتنا التربوية العربية نجدها تدور حول فكرة محددة سابقا وهو أمر محمود، لكن غير المحمود أن هناك ثمة محاور ثابتة لا يمكن الخروج عنها رغم كوننا نردد صباح مساء بضرورة إمطار الأدمغة وتكريس ثقافة العصف الذهني للرؤى والطروحات النقدية البناءة .

وإذا كنا نتحدث عن نهاية وشيكة للتربية فإن هذا يدفعنا إلى تحديد أبرز عوامل النهاية، وهو التغيرات التربوية المفاجئة والمتسارعة، فإذا كنا نعتقد بأننا على اتصال مستدام بالفكر التربوي الغربي فإن هذا الاتصال حقيقي فعلا لكنه بات اتصالا متأخرا زمنيا، فالترجمة التربوية عادة تقتصر على أطروحات أكاديمية مقرها ومقامها الرسائل العلمية التي لا توظف في ميدانها الحقيقي، وحركة الترجمة تتجه غالبا في هذه الأحايين إلى مجالات الطب والهندسة والفيزياء وكثيرا ما يكون الاتجاه صوب ترجمة إنسانيات النظريات النقدية أو تحليل النفس الإنسانية إلى مكوناتها التي لو فكر المترجمون قليلا لوجدوا علاج النفس وأصول تفسيره في القرآن الكريم .

فالترجمة بالفعل قائمة لكنها باهتة وتتناول ما أنتجه العقل الغربي منذ سنوات بعيدة، رغم علم القائمين على القرار التربوي بأن التربية اليوم متسارعة وتصعب متابعة كل جديد بها .

ووجود حركة بطيئة للترجمة، مع تزامن عقدة التخطيط الصفري التي أشرنا إليها منذ قليل، يجلعنا نقف أمام ظاهرة تربوية عربية وهي تقليدية الإدارة، فإذا كان القرار التربوي الفوقي في بعض الأنظمة التعليمية العربية لا يهتم بفكرة التخطيط للمستقبل أو جماعية اتخاذ القرار، فإن الإدارة التنفيذية التي تدير المشهد التعليمي على مستوى المدرسة تتسم بالتقليدية وغياب الحضور عن الاستخدام الإلكتروني، والاستخدام الإلكتروني لا يعني أن المدرسة بها معمل يشتمل على كثير من أجهزة الحاسوب المتطورة فالأمر لا يتعد حد الاستخدام والاستهلاك لا الإنتاج أو تطوير التقنية ذاتها . لكن الإدارات التربوية المعاصرة تطبق اليوم فكر الإدارة إليكترونيا وتسعى لربط المؤسسة التعليمية بالطلاب والمجتمع والمؤسسات ذات العلاقة بالتربوية عن طريق شبكة معلوماتية متخصصة تسهم في رفع الوعي المعلوماتي والمهاري لدى العاملين بالمدرسة وبالتلاميذ وتجعل شركاء المجتمع على علاقة وطيدة بإحدى المؤسسات الوطنية ألا وهي المدرسة .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م )

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم