صحيفة المثقف

منى زيتون: الخصوصية والحقوق المنتهكة في عالمنا

منى زيتونفي مقال سابق عن السرقة لدى الأطفال تحدثت عن مفاهيم الملكية الخاصة والملكية العامة والتشاركية لدى الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة، والتي قد يؤدي عدم تكونها بشكل صحيح لديه إلى سلوك يشبه ظاهريًا سلوك السرقة لدى البالغين؛ ذلك أن أفكارنا ومعتقداتنا هي المحرك الرئيسي لسلوكياتنا.

واليوم رأيت أن أتوسع في الحديث عن أثر عدم تكون المفاهيم المتعلقة بالملكية والحقوق بشكل سليم لدى الفرد؛ ذلك أن هذا الوضع يكون أبعد أثرًا مما يمكن أن يتصوره الآباء.

الترتيب الصحيح لتكوين مفاهيم الملكية

يولد الإنسان متمركزًا حول ذاته وحاجاته، ثم تحوله التربية إلى كائن اجتماعي، وتُكون المفاهيم التي تتجسد من خلالها علاقة هذا الفرد بأفراد مجتمعه.

والواجب أن يبدأ الوالدان والمعلمون بإكساب الطفل مفهوم الملكية الخاصة، ثم بعد أن يعي الطفل جيدًا مفهوم ما له ‏وما للغير يحدث التدرج إلى مفهوم المشاركة، فيفهم الطفل أنه يمكن أن يشارك الآخرين اللعب بألعابهم بإذنهم، ويمكنهم هم أيضًا أن يلعبوا بألعابه إن أذن لهم، كما يتم التوضيح له أن هناك أشياء تكون ملكًا للجميع كالبحر والنهر والشارع أو ‏ملكًا لمجموعة من البشر كالمنزل الذي تمتلكه العائلة، وتوجد به ثلاجة واحدة ولكنها للجميع، ومن حقهم جميعًا استخدامها دون استئذان الباقين.‏

ولكن للأسف يشيع في مجتمعاتنا العربية خطأ في ترتيب بناء هذه المفاهيم منذ الصغر؛ فيسعى الآباء إلى تكوين مفهوم الملكية العامة أولًا تحبيبًا للأطفال في التعاون والتشارك، أو يتسرعون في الانتقال إلى بناء مفهوم الملكية العامة قبل ترسخ مفهوم الملكية الخاصة لدى الطفل، وهو ما يترتب عليه إمكانية تعدي بعضهم على ملكيات غيرهم بوعي أو دون وعي، ويكون هذا في الصغر أو حتى إن بلغوا مبلغ الراشدين.

كما أن هناك إشكالية لدى كثيرين في اكتساب مفهوم تغير الملكية وتدوير الموارد، ومنشأه  ومبدأه يكون أيضًا منذ مرحلة الطفولة المبكرة.

ويتصل مفهوم الملكية بشكل مباشر بمفهوم الحق والواجب؛ فالحقوق والواجبات إن لم تترتب على مفهوم الملكية ماديًا ترتبت عليه معنويًا.

ويمكن استخدام الألعاب لتعليم الأطفال مفاهيم الملكية، كما أن لعبة الورق المعروفة في مصر بـ "الشايب" يمكن أن تسهم في تعليمهم مفهوم تغير الملكية، وأن ما هو ملكي الآن يمكن ألا يكون لي بعد لحظات، وهو ما يلزمني تقبله.

الآثار النفسية والاجتماعية السيئة لعدم تكون مفاهيم الملكية والحقوق بشكل صحيح

أزعم أن مسببًا رئيسيًا لأغلب المشاكل التي يعانيها البشر هو أن هناك فئة كبيرة منهم لم تتعلم كيف تضع حدودًا واضحة بينها وبين الآخرين، وأن تعي ما لها وما للآخرين؛ ومن ثم فإن سلوكياتهم تأتي معيبة تنتهك حقوق الآخرين، وهذا الانتهاك قد يقع بالقول أو الفعل أو حتى بالتمني.

وجميع أمراض القلوب من حسد وحقد وعين هي ثمار فاسدة لتكون مفاهيم الملكية بشكل غير سليم، فصاحبها لم يعتد منذ صغره على أن هذه لي وهذه لفلان وهذه لعلان، فيستشعر نعم الله عليه ولا يصوب سهام عينيه إلى ما لغيره. لم تتم تربيتهم على أن ما ليس لي من نعمة وقد أنعم الله بها على غيري يلزمني غض النظر عنها، وأن أفرح لصاحبها، لا أن أنظر له فيها متمنيًا أن تكون لي لا له.

وكثير من المشاكل الزوجية يكون سببها نقص وعي كلا الزوجين أو أحدهما بحقوقه وواجباته أو تطلع أحدهما –خاصة الزوجة- لما في يد غيرها من نساء وكثرة مطالبتها للزوج بما يفوق قدراته المادية.

كما أن الاتكالية والاعتمادية على الآخرين هما التطبيق السلوكي لمفهوم الحقوق والواجبات المشوه في أذهان الاعتماديين.

كذلك فإن بعض الجرائم كالاغتصاب والتحرش والسرقة هي نتاج مفاهيم الملكية والحقوق المشوهة، وحتى بعض الجرائم المستحدثة كالتجسس الالكتروني وسرقة حسابات الأفراد على المواقع الالكترونية هي ثمرة لعدم احترام الخصوصية والملكية.

حتى بلغنا مبلغًا أن نظام الدولة ذاته يتعدى على الملكيات الخاصة للمواطنين في شكل قوانين وإجراءات إدارية من نوعية إجبار المالك على استمرارية عقد الإيجار القديم وتوريثه، وتقسيم موظفي الشهر العقاري حصص وحدات البناء في الأرض للمشتريين بخلاف ما باع لهم المالك! والتأميم ومصادرة الدولة لأموال فئات من الشعب للاختلاف الفكري ودون جناية حقيقية، أو حتى لغيرها من الأسباب بغرض جمع المال منهم، وغيرها من القرارات الحكومية التي يكثر صدورها عن المسئولين في الأنظمة الظالمة عبر التاريخ، والتي كثرت في السنوات الأخيرة في مصر في عهد السيسي.

وجميع هذه القرارات النظامية التي تُنفذ فتتحول إلى سلوكيات تعبر –غالبًا- عن رغبة ذلك المسئول في الاستحواذ على أي شيء يرغبه وبأي وسيلة، توجد عادة لدى من لم يتكون لديه مفهوم الملكية بشكل صحيح منذ الطفولة المبكرة. وأنا هنا لا أعني السيسي شخصيًا بحديثي، فتحليلي لشخصيته أن دافعه لما يفعل من مصادرات وهدم وغيره هو سوء إدارة وعدم ترتيب الأولويات، فهو إنسان فاشل إداريًا كثير الاستخدام للتبرير كحيلة دفاعية.

والأهم -من وجهة نظري- أن أمثال هذه السلوكيات التي تقوم بها الدولة تعديًا على الملكيات الخاصة تجد تعاطفًا من فئة غير قليلة من الشعب –من غير المتضررين منها- ما يدل على أن هؤلاء لم تتكون لديهم مفاهيم الملكية في الصغر بشكل صحيح.

وبإمكاني أيضًا أن أزعم إنه حتى المشاكل بين الدول سببها الرئيسي هو انتهاك الخصوصية وعدم احترام ملكيات الآخرين وافتقاد الإدراك السليم للحقوق والواجبات، والتي تتجسد في سلوكيات طامعة فيما لدى الغير من أراضٍ أو أنهار أو حقول بترول أو غاز وغيرها من الموارد والثروات الطبيعية، أو تدخل في قرارات الدول الأخرى ومحاولة فرض نظم عميلة في تلك الدول.

إحراج صاحب الحق عن المطالبة بحقه

من أحقر أنواع البشر؛ الأغنياء الذين يماطلون غيرهم من الأغنياء في سداد حقوقهم، بدعوى إنهم ليسوا بحاجتها، وربما ودوا أن تعاملهم كغارمين!

وأغلب من ينتمون إلى هذه النوعية نراهم مانعين للزكاة؛ بما يعني أنهم يحرمون الفقراء من نصيبهم في مال الله الذي آتاهم، كما يريدون أن يأخذوا حصة من مال زكاة وصدقات غيرهم!

وعن نفسي أشجع أي شخص له مال يستحق الأداء عند هذه النوعية من البشر أن يطلبها ولا يستحي، لأنهم يستغلون حياء الأتقياء.

ومن أكثر ما يسوء وجود خطأ تفكير من نوعية جديدة مبتكرة بتدخل قليلي العقل في النقاش بعبارات يوجهونها إلى صاحب الحق من أمثال "وهل أنت بحاجته؟" أو "لو تريد أعطك من جيبي!" وكأن صاحب الحق يشحذ! وهل الحق يُطلب لأنك بحاجته أم لأنه حقك؟! وهذا الخلل المفاهيمي الواضح يسمح للمحتالين أن يزيدوا أعداد ضحاياهم. وقد انتشر هذا الوباء في السنوات الأخيرة في قُرى محافظة الشرقية من مصر، وقد سمعت به مرة في جلسة توزيع ميراث لبعض أنسابنا انفضت بلا توزيع، ومرة أخرى في حوار حول قضية مرفوعة أمام المحكمة لاسترداد بعض الحقوق.

وتتعدد الحيل التي يستخدمها العرب لعدم أداء الحقوق وتلك التي تُستخدم لإحراج أصحابها عن المطالبة بها. أحد أصدقاء الفيسبوك في بلد عربي روى لي عن ضمانه لأحد أقربائه في تسلف مال كثير، ولم يكن المضمون أهلًا للثقة، فلم يعد المال إلى صاحبه، ما جعل الصديق الضامن يؤدي عنه المال، ثم رأى الضامن المحتال يحمل سجادًا إلى المسجد في رمضان، وكأن صاحب الحق إن طلب حقه سيمنع المنحة عن المسجد!

وكم سمعنا عن صاحب عمل في دولة خليجية لا يعطي العامل عنده أجره رغم علمه بشدة احتياجه إليه هو وأهله في مصر، ونسمع فوق ذلك عمن يسانده ولا يجعله يرعوي.

الفضول القاتل!

وهنا أجدني راغبة في الحديث عن شأن شخصي يتعلق بمسألة الخصوصية؛ فبعض من لا يعرفني قد يظن من خلال الحالات التي أعرضها في مقالاتي الاجتماعية أنني شخصية فضولية ولا شك، وإلا من أين أعرف كل هذه الحالات! بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا فأنا لا أسأل حتى أقرب المقربين عن أي شيء خاص بهم، فإن أرادوا هم أن يحكوا لأخذ المشورة أو حتى بغرض الفضفضة فأنا موجودة. وأحمد الله على هذه النعمة لأن هناك صنفًا من البشر من ذوي الأنوف الطويلة، وسأسمح لنفسي أن أروي حكاية عن واحدة منهم.

في السنة النهائية من دراستي الجامعية كان هناك معيد حديث التخرج يحاول التقرب من إحدى صديقاتي، حتى أنه تعرف إلى والدها عمدًا؛ حيث كان والدها يحضر بسيارته إلى الجامعة عصر كل يوم مع موعد إغلاق مكتبة الكلية لاصطحابها إلى المنزل، فتعرف إليه ذات مرة ثم كان كثيرًا ما يأتي ليسلم عليه.

 وذات يوم وجدت صديقتي هذه عابسة ووجهها يوحي بأنها في أشد درجات الضيق، وفاجأتني بأن طالبة لا تكاد تعرفها في قسم آخر سألتها إن كان هذا المعيد –الذي أصبح زوجها فيما بعد- طلبها للزواج من والدها! وربما كنت أنا قد فوجئت أكثر من صديقتي بهذا السؤال الوقح، فقلت لها: من هذه لتسألك إن كنت أنا نفسي لم أسألك؟! هنا وجدت ردًا صادمًا من صديقتي عندما قالت لي: لا، أنتِ كان المفروض أن تسألي. فرددت عليها قائلة: لو كان لديكِ ما تريدين أن تقصيه لقلتيه من تلقاء نفسك دون تطفل مني.

هل الوقت متأخر للتصحيح في الكبر؟

في عصر لم يعد يعبأ فيه كثير من الناس بأن تكون لهم خصوصية، فنجد بعضهم يشتركون فيما يسمى برامج تليفزيون الحياة، وكثيرون يفتتحون قنوات على موقع اليوتيوب يسجلون فيها يومياتهم التي تدور في بيوتهم وبين أهليهم متيحين للغرباء أن يطلعوا عليها، أصبح حديث أمثالي عن الخصوصية والحدود اللائقة بين البشر حديثًا غريبًا لدى أمثال هؤلاء، لكن نحمد الله أن هذا ليس وصف الحال بالنسبة للأغلب الأعم من البشر.

وكما أخبرنا رسولنا عليه الصلاة والسلام أنه "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فقد أبلغنا أن "الدين النصيحة"، ولكن الإشكالية هي التمييز بين النصيحة والحشرية.

وقد يكون السبب الرئيسي لنقص التمييز هذا أن هناك من ينحشر في شئون خاصة تتعلق بغيره ظانًا منه أنه يسدي نصيحة لأنه يظن رأيه حقيقة، ويريد حمل صاحبه عليه نصحًا له!

وإن كنا نقول إن التربية تبدأ من الصغر، وأن تكون مفاهيم الملكية والتمييز بين العام والخاص بشكل سليم لدى فرد يعني أنه تلقى تربية جيدة وأننا أمام إنسان صالح، فإنه من الضروري أيضًا أن نقرر أن الوقت ليس متأخرًا أبدًا لتصحيح المفاهيم لدى أي إنسان لم ينل حظه من تلك التربية الجيدة في الصغر، وكما قال نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام: "إنما العلم بالتعلم"، واكتساب المفاهيم علم، واكتساب السلوك عادة، والمجتهد من يستمر في تنمية ذاته طالما فيه قلب ينبض.

 

د. منى زيتون

الاثنين 6 سبتمبر 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم