صحيفة المثقف

إليف شافاق: اختار الأغنية

2786 إليف شافاقبقلم: إليف شافاق

ترجمة: صالح الرزوق


 مر أسبوع على ليلة رأس السنة، وكانت حبال أضواء الاحتفالات لا تزال تتدلى من الأشجار والنجوم الفضية تزين النوافذ، وحينها اكتشفوا وجود عصافير ميتة. في البداية دستة منها ثم أكثر. بالإجمال أربعة آلاف وستمائة وثمانية وعشرون عصفورا. حساسين ذهبية. حساسين خضر. طيور الدغناش. عندليب مهاجر. درسة الغاب. درسة صفراء. الذيل الفضي. وجشنة الحلق الأحمر - تلك الطيور التي تهاجر لمسافات طويلة بصدرها البرونزي وصوتها العالي. كان المفتش السلوفيني الذي اكتشف ذلك رجلا بعينين بنيتين ناعمتين وكومة من الشعر الأبيض الذي لحقه المشيب. وكان اسمه ماركو. وهو بوظيفته منذ خمس سنوات خلت، ولم تعد له مهمة رسمية، ولكن شكليات، حبر على ورق وبروتوكول. لكن في أوروبا لا تعرف ماذا يخبئ لك المستقبل - كان يقول لنفسه: الخطوط القديمة يمكن إحياؤها. والخطوط الجديدة يمكن أن تتغير دون إنذار. والماضي في هذه القارة ليس ببساطة شيئا مضى وانتهى أمره. هنا التاريخ يشبه أحد الأقارب المزعجين وتتمنى لو تستطيع أن لا تزوره ولكن لا يمكنك أن تتخلى عنه نهائيا.    

وقد تدهور نظره مؤخرا. ولم يذكر ذلك أمام أحد. لا لزملائه ولا زوجته. لم يكن يجد مشكلة في قراءة أرقام لوحات الشاحنات القادمة والذاهبة، وكانت المسافات القريبة هي التي تزعجه. ولذلك حينما رأى الأجساد الميتة والصغيرة، مصفوفة بخطوط الواحد بعد الآخر، اعتقد أنها ديكور جديد. كان قد اكتشف منذ عدة سنوات قمرية شيئا من هذا النوع، حينما كان شابا ويمكنه أن يبدل باتجاه حياته في العالم. داخل صندوق خشبي اكتشف بعض الحلي الأثرية وبيوض فابرجي، وكانت مرتبة بأناقة في جيب سري، وتلمع مثل ذبابة التنين في الظلام. وأصبح من الواضح أنها تعود بملكيتها لزوجة قائد آسيوي شرير من آسيا الوسطى معروف بقمع الأعداء، وإسكات الإعلام وسحق المعارضة، ولكنه اشتهر في الغرب لأنه حليف قوي.

وأغلقت القضية بعد فتح ملفها سريعا. ولم يتلق ماركو جائزة ولم تطبق عليه عقوبة، وربما كان هذا هو الجزء المخزي من المشكلة، أن تفهم أنك سواء أديت واجبك على أتم وجه أو أغفلته، لن يتغير شيء. ثم منذ خمس سنوات، بعد تعرضه لأزمة قلبية أنهكته، تم إرساله لهذه المحطة على الحدود بين سلوفينيا وإيطاليا. وأخبروه أنه سيؤدي مهمة أبسط. عمل لا يجهد قلبه. وأدرك معنى هذا الكلام: إنهم يجهزونه للتقاعد، وبالتدريج. ولربما كره الفكرة، مع أنه لم يبق منه غير نصف رجل بالمقارنة أيامه السابقة، لكن لم يعد أمامه لا الوقت ولا الطاقة اللازمين للغضب. مثل أي شيء آخر في الحياة، الغضب فن.

وليكون بأفضل حالاته، كان عليه أن يتمرن. أضف لذلك لديه طفلة يتوجب رعايتها. وهي ابنته الوحيدة. نور عينيه. كان يخطط هو وزوجته لإنجاب أولاد آخرين ولكن لم تنجح الخطة. ومن حسن حظه أن الناس توقفوا عن طرح الأسئلة عليه. وهذا جانب طيب من جوانب التقدم بالعمر. لم يعد أحد يهتم بحياته الجنسية بعد الآن. وربما يعتقدون أنه بلا حياة جنسية. كانت سوزانا تعيش في لندن. وهي طالبة في الجامعة الإمبراطورية. وكان ماركو يحب أن يردد ذلك بأعلى صوته وكان يستغل كل مناسبة ليقول لأصدقائه وللغرباء على حد سواء: ”ابنتي تدرس في إنكلترا. يا لها من بنت ذكية”.

وكان ينتظر منهم أن يلقوا عليه بعض الأسئلة. وإن فعلوا أو لم يفعلوا، يتابع قائلا باعتزاز:"ابنتي سوزانا تدرس في كلية الطب. نعم يا سادة. ذلك هو مكانها”.  

كانت تخرج الكلمات هامسة وعذبة من لسانه. الإمبراطورية.. الطب... لندن.. كانت سوزانا تبتسم في الصور التي أرسلتها إليه، ومعها حلقة من الصديقات. وكلما ورد المزيد من هذه الصور الثمينة، كان ماركو يتمنى لو أنها تلتقط غيرها مع بيغ بن أو برج وجسر لندن أو قصر الملكة أو على الأقل حافلة حمراء من طابقين. ليعرضها على الآخرين بمثابة رموز قوية وواضحة. ولذلك حينما سافرت حافلة من بوخارست إلى لندن ووصلت لمحطته الحدودية قرابة منتصف الليل، قفز ماركو فورا على قدميه، ليفتش حمولتها، وليتكلم مع السائق، الذي قد تكون لديه فكرة عن الحياة في المملكة المتحدة. وتحت الضوء الضعيف القادم من مصباح الشارع، اقترب ماركو من الحافلة الخضراء، وتأمل وجوه المسافرين. رآها شاحبة ومرهقة ويغلبها النعاس وكل شخص في عالم منفصل.

رجال يعملون في المطاعم، والفنادق، ومغاسل التنظيف الجاف. القليل منهم في مجال البناء. ونساء أيضا. نادلات، ومرافقات، وراقصات في النوادي. نساء تعلمن أن لا تنظرن للأخريات بغاية المقارنة، ونساء لا تقبلن القذارة من الآخرين، ونساء تتركن أولادهن، بعضهم أطفال، برعاية الجيران أو الأقارب الكبار بالسن، مع وعد بإرسال النقود شهريا، ونساء تركن عاطفتهن خلف ظهورهن. ليس كل مسافر في الحافلة سيصل إلى إنكلترا. العديد منهم سيهبط على الطريق. وهكذا تصبح أوروبا واسعة وضيقة. راقصة النادي يمكن أن تربح 900 يورو في كل ليلة في ألمانيا، ولكن بعض الليالي قد تكون قاسية أكثر من سواها. بهذا المبلغ يمكن أن تعيل نصف دستة من أقاربها - الوالدين والأخوة وأبناء العم. كل مسافر يعيل جماعة.

ثم لاحظ ماركو في نهاية الحافلة امرأة شابة ومتحفظة، وكان شعرها الكستنائي مسرحا بأناقة فوق رأسها. ربما كانت بعمر سوزانا. وفكر ماركو لعلها طالبة أيضا. ولكن هذا شيء غير محتمل. لم تفهم سوزانا أنها كانت محظوظة. في الأحد الماضي عندما اتصلت بالبيت، مثل كل أسبوع، كان صوتها مضطربا. وقالت الظروف أصعب مما تخيلت. كانت لندن مرتفعة التكاليف ومتطلبة. “ربما أعود أدراجي. أعلم يا أبي أن النقود محدودة. سمعت أنك بعت عقد الجدة”. وتبع ذلك صمت طويل وكان من الواضح أنهما غير قادرين على الكلام. ثم أضافت همسا:"لا أريد يا أبي أن أزيد من متاعبك”. ولكن هذه المكالمة أقلقت ماركو. ولا يزال يشعر بالاختناق في صدره وهو يفكر بكلامها. كيف يمكنها أن تصبح عبءا يفاقم من متاعبه.

هي نور حياته. نعم، وهو يأسف لبيع العقد. لأنه أصلا من ممتلكات جدة زوجته، وتناقلته الأجيال في ليالي الزفاف. وهو يعلم أنه كسر قلب زوجته حين حمله لحانوت المضارب، ولم تكن قادرة على مسامحته تماما. كان حلية جميلة، عقدا بقلادة لم يشاهد ماركو مثلها. ذبابة تنين بجسم يلمع، عينان ماسيتان وجناحان كريستاليان بمنتهى النعومة والرقة حتى أنك تعتقد أن الحشرة ستطير في الجو وتنزلق أمام عينيك. إنه إرث عائلي مرت عليه المحن، وتنقل كثيرا، وعاصر الحروب العالمية، والنازية، والجوع، والفاقة... ولكنه الآن ليس لهم.

مع ذلك ليس على سوزانا أن تقلق بسببه. ألا تعلم أن الطب هو هدفها في هذه الحياة، وأنها مختلفة عن والديها، ومصيرها شيء أكبر وأفضل من مصير أبناء قريتها أو المسافرين الآخرين على متن هذه الحافلة. وفي أحد الأيام - ولم يكن يوما بعيدا - ستجد سوزانا العلاج للأمراض المعدية أو فشل القلب أو السرطان. وسيسجل اسمها في كتب الجامعة، وستذكره الصحف، وستعقد محاضرات لتكريمها. وحينما يحين أجل ذلك اليوم، سيعلم ماركو أن عناءه لم يكن بلا هدف، وكل هذا التعب، وتعب زوجته أيضا، والسعادة التي لم يشعر بها لفترة طويلة، ستشتعل في روحه مثل الألعاب النارية في السماء المظلمة، مثل ماس براق، وكريستال، ولآلئ.

***

حينما ركب ماركو متن الحافلة لاحظ وجود رائحة في الجو - بيض مسلوق وخنزير مدخن، وعلكة للمضغ وأوراق الملفوف. رائحة يعلم أنها ستتفاقم. استمرت الرحلة من بوخارست إلى لندن 44 ساعة. وهذا ما صرحت به الشركات في مواقعها على الإنترنت. ولكن في الحقيقة قد تستغرق فترة أطول، حسب الطريق والطقس وظروف الحدود. أحيانا يجمع الركاب النقود لتقديمها للموظفين خلسة. ومع أن الرشوة ليست سهلة كما كان الحال سابقا لكنها ليست مستبعدة. طوال هذه السنوات لم يقبل ماركو مبالغ من وراء الظهر، لكنه يعلم أن زملاءه، لا سيما الشباب، يفكرون بطريقة مختلفة.

سأل ماركو السائق:”هل ستنتظر في لندن لفترة طويلة؟. أنت رجل محظوظ. ابنتي سوزانا هناك. وتدرس في الجامعة الإمبراطورية”.

كان السائق أصلع متين البنية وبالخمسينات. أشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا منها. ورد بحركة بطيئة تظهر عدم اهتمامه بالموضوع أو الدخول في محادثة جانبية. وحاول ماركو أن لا يشعر بالإهانة. وحينما فتحوا حقيبة الحافلة كان ماركو يزمع أن ينظر للحقائب المكومة نظرة عابرة، ويتأكد من أوراق السائق بسرعة، لتعود الحافلة إلى مكانها على الطريق، ويعود المسافرون لنومهم على المقاعد، الواحد بعد الآخر. ولكن شيئا لفت انتباهه. شعور غريب استيقظ في صدره. نوع من جرس الإنذار. طرف بعينيه أمام الحقائب. بين حين وآخر يتلقون تحذيرات، وفي هذه المرة لم يبلغ مسامعه شيء. ليس في هذه الرحلة. ولم يكن لديه سبب لينتقي حقيبة بنية من الجلد ويطلب فحصها. ولكنه فعل ذلك. وتسارعت دقات قلبه كما لو أنه يتوقع شيئا لم تشاهده عيناه. تقدم خطوة، يقوده حدس غير مؤكد.

قال:"افتح هذه”. نفخ السائق سحابتين من الدخان من منخريه. وتردد لحظة. ثم ببطء وهدوء نفذ ما طلبه منه. لم يجد شيئا غير عادي، من أول نظرة، داخل الحقيبة. قمصان وبلوزات. مطوية بعناية. ربما بعناية فائقة. سأل السائق بقليل من العصبية:”هل يمكن أن أغلقها الآن؟”.

ولكن ماركو كان قد ارتدى قفازيه. ولم يستغرق طويلا ليجد الجيب السري. هناك حيث كانت العصافير. كانت مثبتة وراء أعواد ليمونية وشبكة ضبابية من الصمغ. كانت قد نفقت بطريقة مؤلمة. محاصرة وليس أمامها خيار سوى أن تنتظر. حمل ماركو عصفور نقشارة الغاب، كان مثبتا بالصمغ بالمقلوب، ولمس منقاره، وكان مفتوحا عند منتصف أغنية يغنيها. هذا ما كانوا يسمونه “طعام الذواقة”. يقدم في المطاعم الفخمة ذات المطابخ الآثمة بنفس الوقت. كان هناك كثير من الناس الذين يرغبون بدفع مبلغ إضافي لقاء مقبلات نادرا ما تظهر في القائمة وتكون فقط لخاصة الزبائن. ملايين من العصافير المغردة كانت تقتل بهذه الطريقة كل عام. وتوفرها السوق السوداء، التي تتوسع باستمرار. وقد ربحت منها عصابات المافيا أرقاما ضخمة، لفترات طويلة، طالما هناك زبائن لا يسألهم أحد عن مصادر الطعام الذي تراه في أطباقهم. قتل العصافير سياحة أيضا مع أنها ليست قانونية. ويلتقي الصيادون ويتناقشون على صفحات الفيس بوك. ويتواصلون بالواتس أب، ويطيرون بأسراب جماعية إلى قبرص ومالطا ورومانيا، وهي بلدان عند تقاطع طرق هجرة الطيور. يسافرون بحقائب فارغة سوف تمتلئ سريعا بأجسام صغيرة ميتة. ويحصلون على بنادق وبواريد أوتوماتيكية لدى وصولهم، وتكون جزءا من برنامج العطلة. توجد ثغرات في القوانين وفروقات في المعايير بين بلد وآخر. ولا يهتم بها أحد. وبصراحة في هذه الأيام العالم مشغول بأشياء كثيرة قاتمة وكئيبة - من لديه الوقت أو حرية التفكير لينفقه على عدد من أموات الجو؟.

انحنى السائق واقترب منه قليلا وقال: “آه. حضرة المفتش. هل يمكن أن نتبادل الكلام؟”. كانت ابتسامته مصطنعة. وأخرج علبة سجائر بجزدان من الفضة وقدم لماركو سيجارة.

هز ماركو رأسه وقال:”كلا. شكرا. لا كلام بيننا. أريد أن تفتح كل هذه الحقائب”.

“ولكن هذا سيؤخرنا. كثيرا. من فضلك لا تفعل ذلك. اسمع. هؤلاء الشباب لديهم مقابلات للعمل. ارحمهم. أشفق عليهم. سيفقدون فرص عملهم إن لم يصلوا بالوقت المناسب”.

“قلت لك افتح”.

بدقائق معدودات ارتفعت كومة من الحقائب فوق الرصيف. وكانت متراصة دون انتظام. واجتمع المسافرون مثل قطيع من الأغنام في عاصفة، ووقفوا بالدور على الرصيف، وراقبوا المشهد بعيون قلقة. وفي كل مرة تنتقى فيها حقيبة كان صاحبها يقترب ثم يتراجع بخطوات مترنحة عجيبة. بعض الحقائب كانت ملفوفة مثل مومياء بأحزمة من البلاستيك التي توجب قطعها بالمقص. لم يكن أصحابها سعداء على الإطلاق، وكانوا يغمغمون بأصوات خافتة، ويشتمون.

وكانت المتعلقات الشخصية تظهر للعيان - صور الأحبة، لحظات عائلية، أغذية مغلفة، قلائد وتعاويذ، ثياب داخلية ومجلات بصور جنسية عارية.. ثم حان دور الطيور المغردة. مئات تلو المئات. بعد سنوات عديدة من العمل، فهم ماركو أن الناس تعبر الحدود لأنهم يشعرون برغبة قوية ومكتومة أن يكونوا مثل العصافير - أحرارا ولا يقف أمامهم مانع. ولو صح ذلك ماذا عن هؤلاء السفاحين الذين يطاردون هذه العصافير لقتلها؟. ما هو أملهم؟.

قال ماركو:”حسنا. لدينا هنا مشكلة. من صاحب هذه الحقائب؟”.

حول السائق نظراته وقال:”لا أعرف يا سيدي. انظر. أنا لدي اهتمامات كثيرة. الناس يلقون متاعهم في صندوق الحافلة بأنفسهم. وإن لم يكونوا هنا، هذا يعني أنهم غير موجودين. كيف يمكنني ملاحظة تصرفات كل شخص؟”. 

وقف ماركو بلا حراك. وهو يقضم شفته السفلى.

هو متأكد أن الرجل لن يكشف ارتباطاته. ولكنه مؤمن أن العميل موجود بالحافلة، وهو أحد المسافرين، ربما تلك المرأة اليافعة ذات الابتسامة البريئة. يمكنه أن يكون أي شخص. وواجبه أو واجبها التأكد من وصول الحقائب إلى محطتها الأخيرة بأمان. 

كل شيء مرتب له بعناية فائقة. لا يمكن أن يكون الشخص الذي وضع هذه الطيور في هذا الصندوق إنسانا يعمل بمفرده. ولا بد أنه ينتمي لشبكة واسعة. كان بوسع ماركو أن يهدد المسافرين بالاحتجاز لفترة من الوقت بمحاولة لإجبارهم على الاعتراف، لكنه لم يتوقع نتائج باهرة من هذه الطريقة. لا أحد يريد أن يعبث مع عصابات المافيا التي تقتل الطيور المغردة داخل بلدان الاتحاد الأوروبي.

قال السائق وطبقة رقيقة من العرق تغطي جبينه:”يا سيدي. أعتذر عن هذه الفوضى. وسأحاول أن أتأكد أن لا تتكرر. من فضلك، لا تحمل نفسك أكثر مما تحتمل”. وعرض عليه بتهذيب مظروفا وضعه بيد ماركو قسرا. أمسك ماركو أنفاسه، وشعر بثقل النقود بين راحتيه. وفكر بسوزانا. إمبراطوري.. طب.. لندن.. وابتسامتها التي ترصع بها صورها، وكيف تبدو أكبر من عمرها الطبيعي. وعبارتها: لا أريد أن أكون عبءا ثقيلا عليك. وفكر بزوجته. كان كلاهما يافعا حينما تزوجا. واستغرق منهم تسوية الخلافات وسوء التفاهم فترة طويلة. لقد تأخر الوقت على الحب الآن، ولكن الحياة المريحة تنبسط أمامهما حاليا. وفجأة شعر بالتعاسة من نفسه. لماذا يجب أن يأخذ موقفا رومنسيا من الطيور مع أن الكثير من البؤس والألم والظلم موجود حوله في كل الأرجاء. ولماذا عليه هو المفتش في محطة حدودية منسية، أن يزعج نفسه؟. طبعا هو يشعر بالأسف على هذه الطيور المغردة، ولكن ماذا ينفعهم أسفه؟. لقد ماتت بالفعل. وهي تغرد الآن في جنة الطيور والعصافير.

هي ليست غلطته. إذا قبل النقود، سيستخدمها لهدف طيب. لا يوجد أنانية بالموضوع. فقط لمصلحة غيره - لابنته وزوجته. وربما أمكنه مد يد العون لأصدقائه القدامى. ومع أنه توقف عن التدخين من سنوات، ندم على التفريط بتلك السيجارة. كان السائق يراقب كل حركة من حركاته، بمحاولة لقراءة تعابير وجهه. صالب ماركو ذراعيه على صد ره، واختفى المظروف وراء قبضته اليسرى. وتقريبا ظهرت ابتسامة رفيعة وخفيفة على وجه السائق، ابتسامة تقول: لا يوجد أحد في هذا العالم ليس له ثمن.

تجمد ماركو. وتطلب منه الكثير من الصبر كي لا يصفع الرجل. ثم فك ذراعيه المعقودين وأعاد له الظرف قائلا:”لقد سقط منك هذا”. واضطرب وجه السائق. عبس والتقى حاجباه.

سأله:“هل تري المزيد؟”.

قال ماركو كأنه لم يسمع:”سأخبرك علام عزمت؟. سنكتب تقريرنا. لا يمكن لهذا الحادث أن يمر بلا تقرير. وهذا يعني أنني سأحجزك لبعض الوقت. سنستجوبك - ومعك الركاب”.

وبتشنج وقف السائق كالعصا المستقيمة، وفي عينيه لهيب يلتمع. ثم التفت برأسه نصف التفاتة وبصق على الأرض. وحافظ على صمته. لم يهتم ماركو. وشعر بلمسة في قلبه ذكرته بليلة مظلمة لم يشرق فيها القمر مثل هذه الليلة. حينما وجد ممنوعات تخص زوجة حاكم في آسيا الوسطى.

ولأول مرة منذ سنوات بعيدة شعر بالعطف على نفسه الشابة. أشار لزملائه. فاقتربوا من الحافلة، وجلس هو على طرف الممشى. ربما لا توجد قرارات هامة في الحياة. ولا نظريات ذات وزن. ولا هويات ملوكية. لا شيء من ذلك حقا. هناك فقط لحظات طافية يمكن خلالها للإنسان أن يذهب بهذا الاتجاه أو ذاك، أن يسير لليسار أو اليمين أو أن يختار الممر الذي يعبر من بين الجهتين. في تلك اللحظات الوجيزة تتشكل هوياتنا وأقدارنا. هكذا خلقنا وأصبحنا على ما نحن عليه، وهكذا خلق العالم وأخذ صورته النهائية. وهذا كل ما يهم في النهاية. القرارات صغيرة وبسيطة وفاترة ولكنها في خاتمة المطاف اضطرارية ومؤثرة مثل الطيور المغردة.

***

.......................

الترجمة عن السبيكتاتور. عدد 25 نيسان 2020.

 

إليف شافاق  Elif Shafak  كاتبة تركية مولودة في ستراسبورغ.

 

      

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم