صحيفة المثقف

ناجي ظاهر: صورة الفنان الحقيقي

ناجي ظاهريحرص الفنان الحقيقي الجدير بلقبه، على ان يقدم افضل ما لديه من ابداع، وان يُجوّد في عطائه اقصى ما يمكن له ان يفعل، مستغرقًا في عالمه الابداعي المتفرد الموشّى عادة بشيء من الغموض، كونه عالمًا خاصًا، وربما لهذا لم يُعرف الكثير من المبدعين في مجالاتهم المختلفة في حياتهم وعرفوا بعد "عمر طويل".

في هذا الاطار يقدم الفنان الروسي البارز فاسيلي كاندنسكي، في كتابه "الروحانية في الفن"، صورة للفنان المبدع، يتخيّله فيها كمن يقف في اعلى مثلث، مقسّم إلى شرائح افقية، تضيق عند القمة وتتسع عند القاعدة، وفي ذروة هذا المثلث يقف انسان واحد متفرّد، قد يطالعنا برؤية ظاهرها البهجة والتفاؤل وباطنها الحزن والاسى. هذا الانسان لا يفهمه حتى اكثر الناس تعاطفّا معه وربما وصموه بالجنون او الدجل-" بيتهوفن" مثلًا وقف في القمة وكان مغتربًا ووحيدًا طوال حياته.

ينقل كاندنسكي عن زينكيفتشي، مقارنته في إحدى رواياته بين الحياة الروحية والسباحة، معقّبًا بقوله إن الانسان الذي لا يسعى جاهدًا بلا وهن، ولا يقاوم الحواجز بلا توقف، لا مفر أمامه من الغرق في عتمة الياس. عندئذ تمسي موهبة الفنان نقمة عليه في الوقت ذاته، ويتحول هو إلى دور الحاوي الذي يعرض فعلًا ظاهره الفن وباطنه الشر، ولا يكتفي بأن يخون الناس بل يعينهم على خيانة انفسهم ويقنعهم باحتياجات زائفة. مثل هذا الفنان لا يساعد على الحركة إلى الامام بل يعوقها ويدفع الساعين إلى التقدم  للارتداد للخلف. ويوضح كاندنسكي ما يقوله مضيفًا: إن خيانة الفن تخلق مناخًا يُسيّدُ القحط الروحي ويهبط إلى الحدود الدنيا من المثلث الرمزي، الذي ذكر آنفًا، عندئذ يبدو كل شيء بلا حراك، عاجزًا عن الحركة واذا تحرّك فإلى اسفل.. وتظل "الاشياء" (موضوعات الفن)، هي هي، لأن غاية الفن في هذه الحال هي: التكرار والتوالد، ومن ثم يختفي السؤال: ماذا؟ من عالم الفن ويبقى ،فقط، السؤال: كيف؟ بأي السبل والاساليب ينبغي أن تكرر الاشياء.

ويستطرد كاندنسكي شارحًا رؤيته المتعمّقة هذه للفن، يقول: إن الفنان يمضي بحثًا عن اسلوب او منهج إلى ما هو أبعد.. اذ يُصبح الفن متخصصًا إلى الدرجة التي لا يفهمه إلا الفنانون انفسهم، وهم يشكون بعد ذلك، مرّ الشكوى من أن "الجمهور" لا يعبأ بأعمالهم، ولا يبالي بهم، وقد ينصرف الفنان في مثل هكذا ملابسات عن محاولات التنوير، مكتفيًا بالقليل من السدنة واولياء نعمته وبمن يصادفهم من الهواة. من الطبيعي والحالة هذه، أن تطفو على السطح نوعية من الرسامين المهرة، الذين يقدمون لـ" للمستهلك العادي"، المستوى الذي يفهمه، ويبدو لهذه النوعية من الرسامين أن غزو صومعة الفن امرٌ ميسور.. وهنا يتكاثر الغزاة، ففي كل مجال يوجد الآلاف من مثل هؤلاء الفنانين.. ويسعى اكثرهم، فقط، إلى امتلاك مسلك فني جديد، وينتجون آلاف الاعمال الفنية بغير حماس، بقلوب باردة وارواح نائمة ويظهر التنافس وتصبح المعركة الشرسة من النجاح معركة مادية تزداد كل يوم. ان الجماعات القلية التي انتزعت طريقها إلى قمة " دنيا الفوضى"، وصناعة الصور- والكلام لكاندنسكي- ، تثبت اقدامها في الارض التي احتلتها، اما الجمهور وقد فاته الركب وجلس بعيدًا فانه ينظر في حيرة وتشويش ذهني، ويفقد الاهتمام وينصرف، لكن على الرغم من هذا الالتباس والتشويش، وكل هذه الفوضى، وكل هذا السعي الضاري من أجل السمعة، يظل "المثلث الروحي"، يتحرّك بخطى بطيئة لكنها واثقة من موطئ القدم وبقوة لا تقاوم- للأمام  والاعلى.

ومع هذا كله يبقى في الاعماق، كما يرى كاندنسكي، السؤال" كيف؟"، وهنا تكمن بذرةُ الاحياء، واذا كانت طاقة الفنان العاطفية وقدراته المهارية قادرة على الفوز بـ " كيف؟"، فان الفن – حينئذ- يكون في صدر الطريق المؤدية إلى الفوز بالسؤال :" ماذا؟"، ان ماذا تجدد ما تحتاجه الروح في صحوتها، من زاد، ان هذه الـ"ماذا؟"، ليست مادية.. انها الحقيقةُ الباطنة للفن والروح التي- بدونها- لا يصح الجسد. هذه الـ "ماذا؟"، هي الحقيقة الباطنة التي لا يتكهن بها إلا الفن وهي تلك التي لا يستطيع التعبير عنها إلا الفن وحده بوسائله واساليبه الخاصة.

تعقيب: نستخلص من هذا ان الفنان الحقيقي كما يراه كاندنسكي، يعيش حالته المتفردة الخاصة، ولا يهمه سوى ابداعه المتجدّد، وإلا تحوّل إلى مقتحم غازٍ يبحثُ عن مغانم وانفال عابرة.. وفي احسن الاحوال يتحول إلى حاوٍ يُطلق الحمائمَ من قبعته باتجاه الفراغ اللامتناهي.

 

استعراض: ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم