صحيفة المثقف

عصمت نصّار: الفلسفة في مصر بين خطاب الأفغاني ومشروع محمد عبده (2)

عصمت نصارتجمع معظم الكتابات المعاصرة عن تاريخ الحضارة العربية على أن الطبقة الوسطى المصرية، قد نجحت في دفع الفكر العربي بعامة والفكر الإسلامي بخاصّة إلى ما نطلق عليه اليوم بطور الحداثة، وعلى الرغم من تباين وتنوِّع منابرها الثقافية واتجاهاتها السياسية واختلافاتها في آليات معالجة ما تواجهه من قضايا ومشكلات إلا أننا نجد اتفاقهم على أسس وثوابت لم يجنح عنها إلا القليلون لأغراض شتى يمكن التعبير عنها بالإجتراء والاغتراب. أمّا المحافظين والعلمانيين فقد نجحت مدرسة محمد عبده في استيعابهم، وذلك عن طريق التثاقف والتساجل والتناظر الذي لم ينقطع بعد باعتباره السبيل الأوحد للارتقاء بالعقول وتربيتها. على أن آراء الأغيار وأصوات المخالفين آليات صالحة للنقد وانتخاب الأصلح.

وقد وقفنا فيما سَبَق على بعض السِّمات المميزة لمشروع الاتجاه المحافظ المستنير، وها نحن نكمل ما بدأناه من البرنامج الذي أشارنا منه إلى أربع قواعد أولها: الانتصار للعقل.  وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي. وثالثها: العودة بالدين إلى سذاجته الأولى. ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية.

وننتقل الأن إلى القاعدة التالية: (خامسها): الاحتكام إلى أساس مركزي ثابت يستطيع استيعاب سائر المتغيرات تبعاً للواقع المعيش ويتمثل ذلك الأساس في الفصل التام بين الثابت والمتحول على أن يكون ذلك الثابت مرناً على نحو لا يؤثر في قوة صلابته واستمراره، وذلك لأنه يحوي المشخصات الحاكمة للمجتمع والمقاصد العقدية والولاء والانتماء والعمل الجاد للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي. أمّا المتحول؛ فيتسم بالوعي والوجهة النقدية العملية دون أدنى محاولة منه للخروج عن نطاق الثابت الذي يحويه ويختص به لاستيعاب الوافد من المعارف ونقد المستحدث من النظريات والقوانين والنظم وانتخاب النافع من الوسائل والآليات التي توافق الواقع المعيش والحفاظ دوما على حرية البوح والخلاف. 

ويحتاج تطبيق المشروع الحضاري إلى قوة دافعه لتطبيقه، وتتمثل في الرأي العام الذي يجب العناية بتربيته وتأهيله وتجييشه لحمل راية الاستنارة والدفاع عن بنية المشروع. وينقسم الرأي العام إلى قسمين: أولهما: الرأي العام القائد الذي يتمثل في السلطة الحاكمة والقوة المهيمنة، ومن ثمَّ لا ينبغي الصدام معه في حالة رفضه أو عدم تحمسه للمشروع أو إيجاد الضوابط التي تقيد نفوذه. 

وثانيهما: الرأي العام التابع، ويتمثّل في الجمهور الذي يجب إقناعه بأهمية المشروع ونفعه، وذلك عن طريق الخطابات المختلفة في أساليبها، والمؤكدة على وحدة موضوعها.  ولمَّا كانت الأمة هي المحرك والدافع الذي لا غنى عنه، فينبغي على المجددين احترام إرادتها وتجنّب أدنى مسببات إثارتها أو استعدائها.

كما حرص الأستاذ الإمام وتلاميذه من بعده على فتح باب الحوار والتناظر والتثاقف بين أرباب المشروع ونقاده ومعارضيه شريطة أن يكون هذا التناظر بين الأنداد، وبعيداً كل البعد عن التطرف والتعصب والعنف والجحود. وقد ظل هذا المبدأ قويّاً وأصيلاً وفاعلاً في كتابات وأفعال معظم المنتمين للاتجاه المحافظ المستنير في الثقافة العربية الإسلامية، لكنه خبى عقب اضمحلال المدارس المنتجة للمجددّين، ويأس الشبيبة من متابعة السير، وانصراف العقل الجمعي عن المشروع برمته.

وسادسها: رفض السلطة الثيوقراطية وحكم الكهنة، ويرجع ذلك إلى وعي مدرسة العطار، ومن بعده محمد عبده وتلاميذه بمفهوم السياسة الشرعية الذي يختلف تماماً عن مصطلحات الحكم الإلهي والحكمة الشرعية والحاكمية الربانيّة وغير ذلك من المصطلحات التي زَجّ بها المتطرفون في ميدان السياسة وأمور الحكم والتأكيد على أن الأمة مصدر السلطات، وأن الإسلام لم يخصّ جماعة أو هيئة أو فئة للحد من حرية العباد.

أمّا الحدود الشرعية والأوامر والنواهي التي تنظم سلوك المسلمين، ما هي إلا معيار لصدق الإسلام والإيمان وهي تختلف بطبيعة الحال عن دستور الدولة، فمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الحدود الشرعية، يختلف عن الأحكام التي تحويها القوانين الوضعية، ويرجع ذلك إلى تعريفهم بمبدأ المواطنة الذي لا يشترط وحدة الدين. وبما أن القواعد المنظمة لاختيار الحاكم وعماله وطبيعة وظائفهم، لم يتعرض إليها الشرع، ولكن هناك مبادئ عامة تحكم المجتمعات الإسلامية، وتطبق في البلدان التي تحكمها الأغلبية المسلمة وتذكر في دساتيرها.

وقد اجتهد تلاميذ "محمد عبده" على أثر هذا المبدأ في توضيح العديد من المسائل المُلتبسة على الجمهور أنذاك، منها: أن السياسة في الإسلام سياسة مدنية تحتكم إلى ثوابت أخلاقية وضوابط اجتماعية شرعية ودون ذلك؛ فالمصلحة العامة وحكم الأمة ودرء المفاسد والمخاطر، والاحتكام للشورى في الرأي والمساواة بين المسلم والأغيار في حقوق المواطنة، هي الثوابت التي يجب الالتزام بها في ميدان السياسة الإسلامية، ذلك فضلاً عن تأكيدهم على حرية البوح والنقد والاعتراض على السلطة الحاكمة، أضف إلى ذلك كله تبرأة الإسلام من تهمة الاستبداد والتعصب الملّي، والاستيلاء على ثروات الأغيار، وانتهاك الأعراض، واحتلال البلدان باسم الغزو ونشر الدعوة، والاعتداء على حرية الاعتقاد، وتكفير غير المسلمين واضطهادهم. وتوضيح أن المعارك التي وقعت بين الفرق الإسلامية ما هي إلا وليدة الخلافات السياسية على الحكم والرغبة فيه (بما في ذلك حروب الرّدة) أو الاستقلال عن الحكومة القائمة، أو إستتباب الأمن، وإفشاء السلم بين القبائل المتحاربة، أو تهذيب الخارجين على طاعة تعاليم الدولة؛ أي أنها تختلف عن الحروب الدينية التي وقعت بين الفرق المسيحية عام 1648م بين الكاثوليك والبروتستانت، أو الحروب الصليبيّة التي شنها الغرب للاستيلاء على ثروات الشرق باسم الصليب.

كما بيّنوا أن الحياة الحزبية التي مارسها المصريين عام 1907م، لم تكن أحزاب دينية أو طائفية، وليس أدل على ذلك ممّا جاء في برنامج الحزب الوطني (الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني؛ لأنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، ولأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية. وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمديّة الحقة تنهى عن البغضاء، وتنزع إلى الكمال، وتعتبر الناس في المعاملة سواء).

قد ذهب إلى مثل ذلك حزب الأمة والإصلاح، ثم باقي الأحزاب في التجربة الحزبية الثانية.

أمّا فكرة الوحدة الإسلامية الشاملة (القائمة على التحزب الملّي)؛ فلا نكاد نجد لها أثراً في مشروع محمد عبده وتلاميذه، فقد رفضوا مبدأ الخلافة العثمانية والوحدة العربية الإسلامية التي كان ينادي بها الوهابيون، ولعلَّ أحمد لطفي السيد قد لخص رأي مدرسة محمد عبده في قوله بأن الوحدات السياسية تقوم على مبدأ المنافع والمصالح، وليس على العصبية ولا على الدين ولا على العواطف؛ فالتعاون بين الدول لن يستمر إذا كان مبنيُّاً على رأي الحكام أو رغبة الصفوة؛ بل سوف يتحقق بناءً على رغبة الشعوب.

وسابعها: نقد التعارض بين الدين والعلم والفلسفة والشرع؛ فقد ذهب الأستاذ الإمام وتلاميذه إلى أن الإسلام قد حرص على الإعلاء من شأن العلم وأهله، وبيّنوا ذلك في التفاسير المتواترة للقرآن، وأحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه،  وسيرة صحابته، وسلوك الخلفاء الذين حكموا ديار الإسلام، ويشهد بذلك تاريخ العلم في العصر الوسيط. وقد أهتم رواد مدرسة الإمام بعديد من الأمور ذات الصلة. أولها: التأكيد على أخلاقيات العلم وضوابط سلوك المشتغلين به، والحرص على انتقاء النافع والمفيد من المعارف بغض النظر عن جنسية أو دين أو توجّه منتجيها، وعدم الخلط بين الأحكام الظنيّة والرؤى الاستنباطية، والشائع من الأخبار والأمور المتعلقة بالدين في ميدان البحث العلمي. ومن ثمَّ لا يحق لغير المتخصصين في الأمور العلمية الإدلاء بالفتاوى المُحرضة أو الناهية أو المعطلة لمّا ثبت نفعه بالبرهان العلمي، أو وضع المصنفات التي تربط بين الآيات والأحاديث والنظريات العلمية التي لم يثبت بعدُ القطع بصحتها؛ بل على المفسرين والمألولين تفسيرُ مقاصد الآيات في ضوء الثقافة المطروحة على نحو لا يتعارض مع العقل من جهة، ولا يناقد التجربة والتطبيق من جهة ثانية، ولا ينكر الواقعات المسلم بحدوثها في القرآن وصحيح السنة مع عدم ارتياح العقل لها.

فقد أوّل محمد عبده (الطير الأبابيل) بالميكروبات، ولم يمانع من وجود البُراق الطائر في ظل وسائل النقل الحديث (الطيارات) وأفتى بعدم حرمانيّة البنوك وشركات التأمين، واعتمد تلاميذه من بعده على علم المقاصد في الكثير من الأمور التي حرّمها القدّماء. وتحفظ على القول بالإعجاز العلمي والرقمي لآيات القرآن بحجة أن الثابت لا يحتكم إلى المتغير، وقد توسّع رواد الاتجاه المحافظ المستنير في الإعلاء من شأن الأحاديث المطابقة للمقاصد الشرعية حتى إذا كان الحديث ضعيفاً، وعلى الجانب الآخر عطلوا العمل بالحديث المخالف لصريح المعقول ومقتضيات الواقع وما قطع به العلم حتى إذا كان ذلك الحديث متفق عليه. والانتصار لرأي العلم والنظم التربوية والنظريات البيئية والبرامج السلوكية في شتى ضروب الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي والتعليم والصحة والآداب والفنون وغير ذلك من احتياجات الواقع، وذلك كله في ضوء الاحتكام لعلم المقاصد الشرعية؛  ذلك فضلاً عن تقويم العوائد الفاسدة في المجتمع الأسري بدايةً من حقوق المرأة والعلاقة بين الزوجين وأفراد الأسرة والتعصب القبلي والتمييز العنصري؛ فقد توسع أنصار هذا الاتجاه في مناقشة العديد من المسائل الاجتماعية مثل عفاف المرأة وحياؤها وأخلاقها، ومردود ذلك على المجتمع، وضرورة الحرص على حسن تربيتها وتعليمها، وحماية حقوقها والحفاظ على مشاعرها، وكذا كيان الأسرة والمساواة بين الجنسين والضوابط الزواج والطلاق والتعدّد، وشرحوا الفارق بين الحرية والمجون والسفور والتبرج والاختلاط  والفجور والكثير من المسائل التي نعاني منها الآن، وتهدد كيان الأسرة وتعود بالمرأة إلى مستنقع الرذائل.

وراحوا يكتبون في الصحف ويقيمون الندوات عن عظمة الإسلام ودعوته للحرية ومكافحته كل أشكال الاستبداد والعنف والطائفية والتحزب والجمود والرجعية، مؤكدين على أن الدين لم يكن قط حجر عثرة أمام تقدّم الإنسان أو قيد يحول بينه وبين الوصول إلى مراميه أو تعاليم جامدة وشرائع جائرة أو أوامر وحشية تسوق الإنسان إلى ما يكره، وترغمه على فعل ما لا يطيق. وبالجملة قد نجح كتُاب هذا الاتجاه في تبيان حقيقة الإسلام لعيون المتشككين في صلاحه، والجاهلين بمنافعه وقدرة دستوره على تحقيق السعادة للإنسان في الدارين الدنيا والآخرة.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم