صحيفة المثقف

خيري حمدان: غسان كنفاني والأدب العالمي.. عينٌ واحدة لا تكفي

خيري حمدانعلى الرغم من السنوات الستّة والثلاثين التي أمضاها الأديب والمفكّر والسياسي غسان كنفاني على وجه هذه المعمورة، قبل أن تختطف حياته عبوة ناسفة هو وابنة أخته لميس في الثامن من شهر يوليو عام 1972 في بيروت، إلا أنّه تمكّن من إنتاج العديد من القصص والروايات والمسرحيات والدراسات التي شغلت الكثير من النقاد منذ رحيله وحتى يومنا هذا.

سنتناول في هذا المقال أبعاد القصّة القصيرة التي تحمل عنوان "نصف العالم"، وتتميز ببعض سمات المدرسة العبثية في مفهوم الأدب المعاصر1 . كنفاني اهتمّ بالمدارس الأدبية وأساليب السرد والتطبيق الحديثة، لارتباطها بهمّ الوجودية واستمرارية تطور الفكر والإرادة البشرية.

هل يحتاج الإنسان لعينين اثنتين؟ كأنّ الأديب بهذا يضع الحكمة الإلهية على المحكّ.

عبد الرحمن وهو البطل الرئيس لهذه القصة يتّخذ قرارًا جريئًا وغير تقليدي بل وأحمق حسب تقدير بعض الأصدقاء والمقرّبين منه. يقرّر فقأ إحدى عينيه ويفعل ذلك من دون تردّد. هذا القرار يهدف لإثبات نظريته المتعلقة بعبثية امتلاك الإنسان لعينين اثنتين، وغالبًا ما كان يلجأ لإقناع من حوله بقدرة المرء على ممارسة حياة طبيعية بالكامل بعين واحدة، ولن يؤثر الاستئثار بذلك على الوظائف الحيوية البشرية. متى أقدم على ذلك وكيف؟ هذه تفاصيل ليست ذات أهمية على أيّة حال، لكن من المؤكّد أن عبد الرحمن قد قرر الوقوف ضدّ المعايير والنظم المعتمدة في المجتمع منذ القدم.

"لقد أعطانا عينين لنرى بهما.. ولما كان العالم قد فلت من بين أصابع الله فإن عينا واحدة تكفي تماما" لقد واصل السيد عبد الرحمن شرح فكرته ولكن بكلام غير مفهوم وكان خطه يدل على مبلغ اضطرابه، ثم طوى الرسالة وتوجه إلى المغسلة حيث استطاع بجرأة نادرة أن يفقأ إحدى عينيه بذات القلم الذي كتب به الرسالة. هكذا تروى الحادثة على ألسنة أصدقائه...

أما أهل بيته فيروونها بشكل مغاير، تقول أمه أنه كان في الحديقة وكان يعنى بشجرة تفاح زرعها صغيرا.. ولقد شاهد ذلك الصباح فرعًا جافًا ميتًا فحاول انتزاعه إلا أنّ الغصن الصغير كان مشدودًا بقوة إلى الشجرة الفتية، ولما كان السيد عبد الرحمن عنيدًا فإنّه استمر يشد الفرع بضراوة، وفجأة انسلخ الفرع بعنف ودخلت مقدمته بعينه فاقتلعتها.. (كنفاني، 1965، ص. 99).

هذا البطل غير التقليدي لا يعتبر استثناءً بصورة عملية عن الشخصيات الأخرى في أعمال كنفاني الأدبية. عبد الرحمن هو شخصية فريدة ومائزة للغاية فهو يعتبر النوم والغذاء أهم الاحتياجات البيولوجية. وعندما تسأله والدته عن دور المرأة وأهميتها في حياته يجيب بعد أن يتفكّر قليلا: كلا.. التدخين يأتي ثالثًا.. ثمّ المرأة.. (كنفاني، 1965، ص.97).

أيبدو بطل هذه القصة مجنونًا؟ أم أنّه نصف عاقل؟ يتداول أصدقاؤه ومعارفه هذه الأسئلة. الحقيقة أنّ عبد الرحمن غير معني بآراء الآخرين، فالأمور الحياتية تسير حسب رؤيته الخاصّة ولا توجد لديه أيّة نوايا لتغيير نمط حياته والانقلاب على مبادئه وعاداته على الرغم من تعرّضه للسخرية والعبث. كما إنّ الكاتب يضع بالحسبان استمرار حياة هذه الشخصية بنفس الوتيرة من دون تغيير جذري يذكر.

الغرابة في التعامل الفلسفي لعبد الرحمن مع البيئة المحيطة تجذب القارئ، لكنّ حادثًا واحدًا منفصلا قلب المعادلة رأسًا على عقب. لم يحدّد الكاتب كيف ومتى وأين تمّ ذلك، الأمر الوحيد المؤكّد هو أنّ عائلة عبد الرحمن أفادت بأنّ الحدث محض صدفة مع أنّ أصدقاءه يؤكّدون على أنّ الحادث برمّته ليس بريئًا ورتّبت تفاصيله مع سبق الإصرار والتصميم.

لكن دعونا نعود لجوهر الحدث الذي لا يعتبر بحدّ ذاته هامًا. بعد أن فقأ الرجل عينه بأداة حادّة خضع لعملية جراحية وتمكّن الجرّاح المختصّ من وقف النزيف الدموي من دون أن يتمكّن من إنقاذ العين المصابة، في تلك اللحظة بالذات انتقل عبد الرحمن لمرحلة جديدة من حياته وبات يرى نصف الأمور أو نصف اللوحة الحياتية أمام ناظره.

صار يشاهد نصف الأشياء فقط. فهو حينما ينظر إلى رجل جالس على الكرسي فهو لا يستطيع أن يشاهد إلا الرجل وإذا تطلع إلى الكرسي فهو لا يستطيع أن يرى الرجل الجالس فوقها.. وكانت الظاهرة حتى بالنسبة لأهله طريفة جدا بادئ الأمر فحينما كانت تدخل أمه الغرفة مع أخته كان لا يستطيع أن يشاهد في الوقت الواحد إلا واحدة منهما وكان يسألها عن الأخرى. وقد شرحت أمه الحادثة لإحدى الجارات قائلة إنها تعتقد أن ولدها ما زال واقعا تحت تأثير المخدر الذي استعمله طبيب جاهل أثناء إجراء العملية الجراحية، والذي كان يوشك يومها أن يودي بحياته. وكما يحدث في كل زمان ومكان نقلت الجارة الكلام إلى جارة أخرى، حيث تولت الأخيرة نشره في أرجاء الحي كله صعودا ونزولا..

ومضت أيام كثيرة إلا أنّ السيد عبد الرحمن على عكس ما توقعت أمه لم يتحسن بل زاد تطرفا في الأمر، وبعد عام واحد تقريبا لم يعد أي إنسان قادرا على إقناع السيد عبد الرحمن بأن الكرسي ما زال مكانا لجلوس رجل كما كان قبل الحادث وأن الذي دخل الغرفة اثنان.. (كنفاني، 1965، ص. 100).

لم يعد عبد الرحمن كسابق عهده فقد تسبّبت الإعاقة التي تعرّض لها بتشويه رؤيته وتعامله مع الحياة. أخذ الرجل يؤكد بما لا يقبل الشكّ بأنّه وحده القادر على رؤية الحقيقة واللوحة الحياتية النابضة وأنّ الآخرين عاجزين عن تركيب مكوّنات جوهر الأمور، ما أوجد حالة من الذهول بين أصدقائه والمقرّبين منه. أمّا الأطباء فقد استسلموا للأمر الواقع وأعلنوا استحالة إيجاد حلّ للحالة التي يعاني منها عبد الرحمن، ولا يمكنهم سوى صرف الأدوية والعلاج والمسكّنات مع أنّه لا يعاني من آلام.

وإذا ما تابعنا الحوار التالي مع الطبيب المختص سنتمكن من فهم أصول فلسفة ورؤية عبد الرحمن للعالم المحيط:

- أنت تعطي الدواء للمريض أو للمعافى؟

- "للمريض طبعا"..

- "إذا لماذا تعطيه لي"؟

- لأنك مريض..

- "إذا كنت مريضا فكيف تثق أنني سأتبع نصائحك؟ أنت تخاطب معافى! ولذلك أنت تخاطبه بكل هذه الثقة" (كنفاني، 1965، ص. 101).

لا يمكن لبطل غسان كنفاني أن يتقبّل أمرين أو صورتين في وقت واحد. على سبيل المثال السكون والتوتر، وإذا ما تحدّث شخص في مقهى الحيّ تجده لا يرى الطاولة التي يجلس إليها رفيقه، وإذا نظر إلى الطاولة فهو لن يرى الرجل الجالس إليها أو المتواجد بقربها، هو لا يؤمن باجتماع أمرين متناقضين كالفرح والحزن والموت والحياة في آنٍ واحد.

يحاول أصدقاء عبد الرحمن في هذه القصة إقناعه بأن يتعقّل وأن يتقبّل هذا العالم على حقيقته، لكن كلّ محاولاتهم باءت بالفشل وباتوا على قناعة من عدم قدرة هذا الرجل على رؤية أمرين متناقضين ذات الوقت، فهذه مهمة مستحيلة وتفوق قدراته الذهنية. الفكرة لدى عبد الرحمن تلغي نقيضتها على الفور بل تلغي كلّ شيء في محيط تواجدها.

انتباهه منحصر في صورة واحدة، شأن واحد، فكرة محددة وإذا ما ظهرت يختفي كلّ شيء باستثنائها. مع مرور الوقت تمكّن بطل القصة من فرض نظريته الأحادية على الرغم من المناوئين له، ونجح بجمع الكثير من المريدين والمناصرين لفلسفته الفريدة بل وأخذ هؤلاء بالدفاع عن نظريته واعتبارها حقيقة لا تقبل الطعن.

بات اسمه موضع جدل ونقاش متضارب الأوجه وفي المقهى نفسه الذي شهد نضوج نظريته استلم عبد الرحمن رسالة موجّهة منه وإليه فقط. لم يتفاجأ رواد المقهى من أنّه يكتب لنفسه ولأنّه غاب طويلا عن المقهى قرروا أن يفتحوا الرسالة لقراءة محتواها، جاء فيها إنّ الحياة معقّدة للغاية إذا أتيحت للجميع.

ما يزال عبد الرحمن إلى يومنا هذا على قيد الحياة يتمتع بصحة جيدة، يقطع الشوارع ويجوب المدينة بهدوء من دون أن يعير العربات المسرعة أدنى انتباه فهي بالنسبة له غير متواجدة ما دام ينظر للطريق والقضية محصورة فإما هو أو العربات؟

قصّة "فايشا العمياء" للأديب البلغاري غيورغي غوسبودينوف2 والتي ذاع صيتها خلال السنوات الأخيرة وتحوّلت لفيلم بتقنية الصور المتحركة يحمل نفس العنوان، نجح بالوصول إلى التصفيات النهائية لجائزة الأوسكار لأفلام الكرتون خلال العام 2017، تمتلك هذه القصة العديد من العوامل المشتركة مع قصة غسان كنفاني. تحمل القصتان فلسفة مشتركة نسبيًا لتأويل العالم الخارجي. فايشا هي امرأة شابة ترى العالم في الزمن الماضي بعينها اليسرى وتراه في المستقبل البعيد بعينها اليمنى. هذه الظاهرة حرمتها من إمكانية رؤية العالم في الوقت الراهن والجميع يعتبرونها عمياء بتصرّف. ولنقرأ هذا المقطع من قصة فايشا العمياء (ترجمة خيري حمدان):

تنظر بعينها اليسرى إلى الخلف حصريًا إلى الماضي. وبعينها اليمنى ترى ما سيحدث في المستقبل وحسب. مع أنّ عينيها الاثنتين منفتحتان تمامًا كما كافّة المبصرين، لكنّها بمنزلة العمياء. جميعهم يعتبرونها كذلك وينادونها بفايشا العمياء. نادرًا ما كانت تغادر المنزل وحين تذهب إلى الحديقة ممدودة اليدين، ترتطم بشجرة الكرز، وتمزّقُ أشواكُ شجيرات التوت البرّي بشرتها وتركُلُ بقدمها الأواني الفخّارية المتواجدة تحت مظلة المنزل. هي لا تدرك وجود شجرة الكرز والتوت البرّي والأواني الفخّارية، كما لا تعرف معنى اليوم الحالي. عينُها اليسرى على قناعة من أنّ تلك الأشياء لم تنبت بعد من التربة، أمّا اليمنى فتراها قد ذبلت أو تحلّلت وأصبحت جزءًا من التربة. أمّها هي أوّل من لاحظ إصابتها بحالة الضرارة الغريبة، لكن كيف لها أن تعلم أنّ عين فايشا اليسرى ترى المرأة المنحنية فوقها طفلة تحبو وتراها بالعين اليمنى عجوزًا بشعة محنيّة الظهر؟ (غيورغي غوسبودينوف، 2021، ص.79)

تفشل فايشا بالتعايش بسلام مع المجتمع وتبقى غريبة لحالة العمى الخاصة التي تعاني منها وتلاحقها حتى في أحلامها. إحدى عينيها خضراء والأخرى بنية ما زادها جمالا وبهاء وكثر من حولها طالبو القرب والزواج، لكن كيف تقبل بزوج تراه بعينها اليسرى طفلا يملأ المخاط أنفه وباليمنى عجوزًا منحني الظهر وشعر رأسه أبيضا وعلى الرغم من محاولات الطب التقليدي والشعبي لمعالجتها إلا أنّها بقيت ضريرة ولم يتمكن أحد من جمع عينيها في الحاضر لتعيش حياتها بسلام وبهجة.

سئمت فايشا نمط حياتها هذا. تملّكتها رغبة مرّة فقأ إحدى عينيها، أن تنتزعها بإصبعها. نعم، ولكن أيّ عين تختار؟ إذا انتزعت اليُسرى فإنّها تحكمُ على نفسِها بأن تعيش مع الحدث البعيد في مستقبل الأيام وهو ليس ممتعًا وغير سار. وبرفقة من ستعيش في ذاك المستقبل؟ من ذا الذي ستتعرّف إليه؟ إذا، فلتفقأ العين اليمنى. الماضي أكثر أمانًا ومريحًا ودافئ. لكن كيف لها أن تنظر لوالدتها وأبيها اللذان سيبدوان طفلين يسيل اللعاب من فميهما؟ كيف ستتعامل معهما وكيف تناديهما؟ فايشا محكومة ولا نجاة لها في الماضي أو المستقبل (غوسبودينوف، 2021/ ص. 81).

لم يتعرّض الأديب غيورغي غوسبودينوف لعيني فايشا بالأذى، لم يخاطر بإبقائها في الماضي أو المستقبل فالخيار على أيّة حال صعب للغاية على العكس من عبد الرحمن بطل قصة كنفاني الذي فقأ إحدى عينيه واختار البقاء في نصف العالم مؤكّدًا على أنّ الحقيقة لا يمكن أن تتواجد في موضعين أو في صورتين في فضاء واحد وفي الوقت نفسه.

حكاية كنفاني تبقى مفتوحة وليس من المتوقع أن يتوقف عبد الرحمن في حله وترحاله، ولن يعير السيارات العابرة في الطريق أمامه أو من حوله أدنى انتباه فهي غير موجودة في فضائه الخاص. وحكاية غوسبودينوف بلا نهاية أيضًا فقد تنجح فايشا يومًا ما من العثور على الشخص الذي يخلصها ويجمع عينيها في الحاضر بدلا من تشتتها ما بين الماضي والمستقبل. لكن وعلى العكس من بطل كنفاني لم تتجرّأ فايشا على فقء إحدى عينيها وقبلت بالأمر الواقع، وفايشا تبدو أكثر تفاؤلا من عبد الرحمن وستبحث عن النجاة والحلّ الناجع لمشكلتها بدلا من فرض حالتها على الآخرين باعتبارها حقيقة مطلقة.

 

خيري حمدان

.................

1- نشرت قصة نصف العالم ضمن المجموعة القصصية "عالم ليس لنا" عن مؤسسة الأبحاث العربية. صدرت الطبعة الأولى عام 1965

2- غيورغي غوسبودينوف: شاعر وروائي بلغاري شهير، ولد عام 1968 في مدينة يامبول. نالت روايته "فيزياء الحزن" شهرة عالمية، ترجمت للعديد من اللغات بما فيها اللغة العربية، نال الكثير من الجوائز الوطنية والأوروبية. قصة "فايشا العمياء" مدرجة في المجموعة القصصية "وحكايات أخرى". نقلها للعربية الأديب والمترجم خيري حمدان.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم