صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: حوارات افلاطون.. الفلسفة كطريقة في الحياة

حاتم حميد محسنيُعد افلاطون فنانا أدبيا عظيما. لكنه مع ذلك ترك ملاحظات سلبية عن قيمة الكتابة. كذلك،  رغم انه اعتقد ان أحد أهم أهداف الفلسفة هي تمكين المرء ليعيش حياة جيدة،  لكنه عبر تأليف الحوارات بدلاً من كتابة الرسائل يكون قد أغفل إطلاع  قرّائه مباشرة بأي حقائق مفيدة ليعيشوا بها. احدى الطرق لحل هذا التوتر هي التفكير في تصوّر افلاطون للفلسفة. أحد المظاهر الهامة لهذا التصور، الذي يشترك به العديد من الفلاسفة منذ ايام افلاطون،  هو ان الفلسفة لا تهدف كثيرا الى اكتشاف الحقائق او تأسيس دوغمائيات في تحقيق الحكمة او الفهم (مفردة فلسفة في اليونانية تعني حب الحكمة). هذه الحكمة او الفهم يصعب جدا حيازتها، لا مبالغة في القول انها نتيجة جهد يستمر طوال الحياة . انها حيازة يجب ان يربحها كل فرد لنفسه. الكتابة او محادثة الآخرين قد تساعد في تحقيق التقدم الفلسفي لكنها لا تستطيع ضمانه. الاتصال بشخص حي،  له أفضليات معينة بالمقارنة مع مواجهة قطعة من الكتابة. وكما أشار افلاطون "ان الكتابة مقيّده بثباتها،  انها لا تسمح بتطويع نفسها لكي تتلائم مع القارئ او تضيف أي شيء جديد للجواب على السؤال". لذا فان افلاطون كانت لديه توقعات محدودة حول ما يمكن ان تنجزه الكتابة. لكنه من جهة اخرى لم يؤمن صراحة بعدم وجود قيمة فلسفية للكتابة. الأعمال المكتوبة لاتزال تخدم الهدف كطريقة للتفاعل مع الناس في أوقات وأزمان وراء زمن ومكان المؤلف وهي كوسيط يمكن به استكشاف واختبار الأفكار.

كتب افلاطون حواراته،   فكانت شيئا مدهشا ليس فقط لأنها تختلف كثيرا عن الاسلوب الفلسفي المألوف اليوم،  والذي هو عادة جاف وتجريدي . كان افلاطون يعتقد ان الحوارات هي أفضل طريقة لعمل فلسفة مكتوبة،  الخبراء واثقون اننا لدينا كل أعماله "المنشورة"،  لذا لا وجود هناك لرسائل او اطروحات تنتظر منْ يكتشفها وهو ما يعني ان افلاطون اعتقد ان كلام النثر هو أفضل طريقة لعمل الفلسفة ايضا. في ضوء هذه الحقيقة، ماذا يمكن ان يُستفاد من الحوارات؟ باختصار هناك الكثير.

اليوم،  يحاول الخبراء ان يضعوا الحوارات في ترتيب زمني chronological order،  وبهذه الطريقة يفهمون شيئا ما في تطور افلاطون. غير ان،  العالم القديم لم يقم بمثل هذه المحاولة. بدلا من ذلك،  كان الناس يقرؤون طبقا لمحتوى الحوارات وموهبة القارئ. وهذا ربما أقرب لنية افلاطون.

من الواضح ان الحوارات تختلف كثيرا من حيث تعقيديتها وموضوعها. بعضها يبدو صُمم كثيرا لجذب الفيلسوف المبتدئ للموضوع. اخرى تبدو تستهدف كثيرا المشاهدين ممن لديهم معرفة سابقة بالمسائل ذات الشأن. اخرى تبدو ملخصات للجدالات التي حدثت في الأصل بين أعضاء الاكاديمية. بكلمة اخرى،  محاولة تعقّب افكار افلاطون المتغيرة ستكون عملاً خاطئا،  ذلك انه ربما  كتب حوارات مختلفة لأغراض مختلفة.

لماذا أراد افاطون ذلك؟ انظر في واحدة من أشهر الإستعارات،  وهي ان الفيلسوف كالقابلة. انها استعارة وُضعت في فم سقراط الذي كانت امه (فيناريت) حقا قابلة. في حوار (ثياتيتوس)،  يوضح سقراط انه يسعى لجلب ولادة للأفكار التي تأتي من أرحام ارواح اتباعه،  ومن ثم يحاول ان يفهم ايّ منها زائف وأيّ منها  حقيقي ونبيل. هو ذاته غير حامل بالأفكار،  مثلما ان القابلة ليست مثقلة بالطفل. بدلا من ذلك،  ما اراد تبيانه في عمله هو ان "اولئك الذين يتحدثون معه يربحون. بعضهم يبدو كسولا كثيرا اول وهلة،  ولكن لاحقا، عندما تنضج المعارف،  اذا كان الله كريما معهم،  هم دائما يحققون تقدما مدهشا". آخرون يستطلعون التقدم ايضا.

الحوارات تخدم هدفا وعظيا ايضا. من خلال التفاعلات بين الشخصيات والافكار،  انها تهدف لإثارة ابداعية مشابهة لدى القارئ . افلاطون بالتأكيد له افكاره الخاصة. غير انه،  ايضا يعترف بنواقصه،  التي يبيّنها بالكامل في الحوارات،  هو لا يسعى لفرضها على الآخرين. هو يفرح كثيرا في الحكم الجيد بدلا من البراهين.

هذه الاستراتيجية تتضح بطرق اخرى. فمثلا،  الحوارات عادة تبدأ بمجموعة محيرة من التعليقات التمهيدية،  تؤكد على ان ما ستتم مناقشته يأتي عن طريق شخص آخر. الهدف هو التأكيد للقارئ انه يجب ان لايثق بالكلمة،  وانما يجب ان يقرأ ويعود مجددا لحياته الخاصة اذا كانت هي الحياة الصحيحة التي يبحث عنها. وبدلا من ذلك،  الحوارات مليئة بقصص وأساطير الى جانب المنطق والحجج. هذا يبدو كأنه تكنيك لجذب الناس،  افلاطون يعلم ان قصة جيدة قد تحقق اثارة قوية.

نتذكر ان افلاطون كتب الحوارات متحديا الكثير مما يقوله الناس عندما يتحدثون عن افلاطون،  خاصة عندما هم يدّعون معرفة ما يفكر به افلاطون في هذه المسألة او تلك، مثلا،  البعض صرح انه لديه نزعة سلطوية كريهة،  الرجل الذي منع الشعراء من دخول مدينته المثالية كما جاء في "الجمهورية". ولكن لنفكّر مرة اخرى. الحوارات ذاتها هي بناءات أدبية،  كان افلاطون شاعرا جزئيا. هو ربما يستبعد نفسه اذا كان ذلك ما يعنيه. بدلا من ذلك،  ما يقاومه هو نوع معين من الدوغما الشعرية. هذه الدوغما خطيرة لأنها توقفك من التفكير لنفسك – اي،  تمنعك من عمل فلسفة لنفسك. كذلك،  هو عادة يحذّر القرّاء من السوفسطائيين،  كبار البلاغيين آنذاك . هو يحذرنا من خطر الانسياق مع الحشد،  في حركة ذهنية  ستفقد اوتوماتيكيا مسار الحقيقة.

لذا من الخطأ تماما النظر الى افلاطون كنوع من التوتاليتارية،  النعت الذي اصبح ثابتا في القرن العشرين عندما جعل كارل بوبر افلاطون العدو الرئيسي "للمجتمع المنفتح"،  على الأقل بسبب الفلسفة السياسية للجمهورية مع تحريمها الشعراء وما شابه. من الجدير ذكره انه فقط حديثا قام الخبراء بقراءة الجمهورية بمثل هذه الطريقة المبرمجة. قبل القرن التاسع عشر،  جرى التعامل معه كنوع من الفنتازيا السياسية،  كتجربة تشبه كثيرا يوتوبيا توماس مورس. انها لم تكن مجموعة من السياسات وانما اسطورة تسعى لإنارة مختلف خصائص ظروف الانسان. وبكلمة اخرى،  قراءة الجمهورية كما لو كانت بيان يشبه قراءة تيماوس  كخارطة طريق لمدينة اتلنتا الضائعة – الحوار الذي تظهر فيه المدينة الاسطورية.

 يجب ان نضيف بان هناك ايضا سؤال حول كيفية فهم القوانين في الحوار الذي هو سلطوي. انها قوانين على سبيل المثال،  تعاقب من يؤمن بآلهة غير حقيقية. من الممكن حقا ان لا تكون للقوانين علاقة بافلاطون . كذلك انها لم تُنشر في أيام حياته،  لذا حتى لو كانت جاءت بواسطته،  فهو يُحتمل ان لا يكون متأكدا من مزاياها. ان ما يتفق عليه كل الخبراء هو ان الحوار الوحيد الشاذ،  هو ذلك الذي يتعارض مع حالة سقراط،  والذي يؤيد في الحقيقة معاقبة سقراط الذي يؤمن فعلا بآلهة خاطئة، وهو الموقف المنحرف وغير المفهوم لإفلاطون.

كتابة الحوارات كانت تشكّل مخاطرة. كان افلاطون عرضة للقراءة السيئة عبر السماح للقرّاء للاجابة بحريّة،  بدلا من السعي لغلق كل الخيارات الاّ واحدا. ذلك حصل منذ الأيام الاولى،  لو صح ما نُقل عن أحد أقدم كتاب سيرته: "عبر تأليف الحوارات، هو حض جموع الناس على عمل الفلسفة،  لكن ايضا أعطى الفرصة للعديد منهم في عمل فلسفة بطريقة سطحية".

غير ان المزايا كانت تفوق الأخطار. الحوارات شجعت الناس على إختبار انفسهم. انها طريقة لعمل الفلسفة التي لا تسعى لفرض الحقيقة التي تأتي من الخارج،  وانما لجلبها من الداخل. انها كما اوضح ميشيل دي مونتاغن: " اذا كنتُ حقا أدرس أي شيء آخر،  فهو من اجل تطبيقه فورا على نفسي" . دليل النجاح والتذوق الفلسفي الرائع لا يوجد  في الكلمات المكتوبة على الورق وانما في طريقة الحياة التي تثيرها تلك الكلمات.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم