صحيفة المثقف

إبراهيم أبو عواد: الزمن المفتوح وفلسفة الوعي بالتاريخ

فلسفةُ السلوك الإنساني هي التعبيرُ الوجودي عن حركةِ الفِعل الاجتماعي الظاهري، والتفسيرُ المركزي للوعي الذهني المُستتر. وبما أن حركة الإنسان في تاريخه الشخصي وتاريخ المجتمع، لا تتم بمعزل عن العلاقات الاجتماعية الخارجية والخصائصِ النَّفْسِيَّة الداخلية، فإنَّ هُويةً إنسانية جديدة ستنشأ بشكل مُستمر، وتتولَّد مِن ذاتها لاكتشاف ذاتها. وهذه الهُوية تَجمع بين تاريخ الإنسان وإنسانية التاريخ، من أجل فتحِ التاريخ الاجتماعي على أسئلة الوجود وتحدِّيات الواقع، وأيضًا، تَجمع بين الماهيَّة الاجتماعية والطبيعة النَّفْسية، مِن أجل توحيدِ الزمان والمكان، وبذلك يتجسَّد الإنسانُ في التاريخ رُوحًا ومعنى، ويتجسَّد التاريخُ في الإنسان نظامًا ومعرفةً. وهذه التبادليةُ تعني أن كُل صِفة إنسانية لها امتداد تاريخي عميق، ولَيست وليدةَ اللحظة الآنِيَّة، وأن كُل عامل تاريخي له جُذور اجتماعية راسخة، ولَيس مقطوعًا عن الوَعْي الإنساني بالزمن المفتوح (حركة الماضي والحاضر والمستقبل معًا بلا فواصل في مكان يتشكَّل باستمرار ويُعاد صناعته مَعْنًى ومَبنى).

2

الزمنُ المفتوح يهدف إلى مَنعِ تحوُّل التاريخ إلى فَخ، ومَنعِ تحوُّل العلاقات الاجتماعية إلى مِصْيَدة. والتاريخُ لَيس وقائع حدثت في الماضي وانتهت، وذهبت إلى طوايا النسيان. إن التاريخ وُجد ليبقى، وهو في حالة صَيرورة مُستمرة، وانتشار مُتواصل في كُل الجهات، وتكوُّن دائم على الصعيدين : الخَطِّي البسيط، والدائري المُركَّب. ومنطقُ التاريخ كامن وشديد التَّشَعُّب والتعقيد، ويَصعُب السيطرة عليه. والتاريخُ يتحرَّك وفق مسارات مُتوازية ومُتقاطعة، وكذلك يتحرَّك على شكل دوائر مُتشابكة.والتاريخُ لَيس شيئًا يأتي مِن الخَلْف، وإنما هو شيء نجده أمامنا. ومُشكلةُ الإنسان الواقع تحت ضغط التفاصيل اليومية أنَّه يَبحث عن التاريخ وراء ظَهْره لاستدعائه، في حين أن التاريخ _ فكرًا وعاطفةً _ موجود أمام أعْيُن الإنسان، ولا داعي لاستدعائه، لأنَّه حاضر بكُل تجلياته، والاستدعاء لا يكون إلا للغائب، والتاريخ لا يَغيب، ولا يستطيع الإنسانُ تَغْييبَه حتى لَوْ أرادَ ذلك. وفلسفةُ حُضور التاريخ لا تعني الحديثَ عن الماضي، أوْ ذِكْر إنجازات الآباء والأجداد، أو دراسة الأُمم الخالية والشعوب السابقة. هذه أشكال للتاريخ، ومُلامَسَة للسَّطْح الزمني العَرَضِيِّ، وجوهرُ التاريخِ مُتمركزٌ في أعماق الشُّعور وإدراكِ الذاكرة، ومُتجذِّرٌ في الوَعْي المُسيطر على السلوك الإنساني المكشوف (الفِعْل ورَد الفِعْل)، وراسخٌ في اللاوَعْي المُهيمن على التفاعل الإنساني المَكبوت (الأحلام والذكريات).

3

كَينونة التاريخ تتشكَّل في كِيان الإنسان اجتماعيًّا وقِيَمِيًّا. والإشكاليةُ في فلسفة الوعي بالتاريخ هي أن الحضارة الإنسانية تبحث عن التاريخ في جسد الزمن، ولا تبحث عن التاريخ في جسد الإنسان، لأنها تعتبر الزمن هو الحاضن للأحداث والوقائع، في حين أن الإنسان مُجرَّد كِيان واقع تحت تأثير عناصر البيئة المُحيطة وإفرازات الواقع المُعَاش. وهذه نظرة قاصرة، لأن الإنسان صانع للقرار، وفاعل للتاريخ، وعُنصر مُؤثِّر ومُتَأثِّر بالتغيُّرات الزمنية، والتحولات التاريخية، والانقلابات الفكرية، ولَيس صفحةً بَيضاء يَكتب التاريخُ عليها مسارَه، أوْ مُمَثِّلًا على مسرح التاريخ. إنَّ الإنسان تاريخ يتحرَّك ضِمن التاريخ، ولَيس رَقْمًا مِن الأرقام، أوْ حَدَثًا عابرًا في سِجِلَّات الحياة العَامَّة، أوْ وثيقةً هامشيَّةً في أرشيف الحياة الخَاصَّة. وكما أن الجينات الوراثية تُوجَد في كِيان الإنسان، ولا تُوجَد في كُتب الطِّب والبيولوجيا (عِلْم الأحياء)، كذلك الصفات التاريخية تُوجَد في كِيان الإنسان، ولا تُوجَد في كُتب التاريخ والجُغرافيا.

4

التاريخُ حياةٌ مُوازية تُعاش لحظةً بلحظة، وتكمن سُلطته المعرفية في قُدرته على تجسيد الأفكار الإنسانية، والتَّجَسُّد فيها لُغةً رمزيةً تبني العلاقات الاجتماعية على الصِّيَغ العقلانية، وقُوَّةً توليديةً للمعاني في سِياق إعادةِ تعريف الشُّعور وإعادةِ إنتاج الوَعْي، وبُعْدًا وُجوديًّا يَستطيع صناعةَ الدَّلالات الإبداعية في هوامش المجتمع المنسيَّة. وهذا الحراك على جميع الأصعدة يُؤَدِّي إلى اكتشافِ بُوصلة الزمن في خريطة المكان، وبناءِ خريطة المكان في تشكُّلاتِ المعرفة،وتفسيرِ طبيعة الأنظمة الفكرية التي تصهر الأشكالَ والمضامين في بَوتقة الوجود، وكُلَّما اقتربَ الإنسانُ مِن ماهيَّة الوجود، امتلكَ القُدرةَ والجُرأةَ على تفسيره، لَفْظًا ومعنى، تركيبًا وتَخييلًا، شكلًا ونَوْعًا، تنظيمًا وتوظيفًا، تكوينًا وتأطيرًا، شرعيةً ومشروعيةً.

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم