صحيفة المثقف

جودت العاني: هي وأنا..!!

في تلك اللحظات التي أراد فيها أن يكتب ملاحظاته اليومية وهو في غرفته الموصدة، سمع طنين ذبابة قرب أذنيه، ثم اختفت، وبينما هو يتفحص أوراقه عادت مرة ثانية تدور مسرعة لتحط هناك، وتطير لتختفي بين ثنايا الستارة، ولم تمكث طويلاً سوى لحظات حتى عاودت طنينها المزعج حول رأسه، الذي بات لا يشغله شيء سوى هذا الطنين، حيث تكثف تماماً ولم يعد لتفكيره من معنى أو بالأحرى غير قادر على التفكير.. ترك أوراقه ونهض يفتش عنها ولم يستطع أن يعثر على مكانها ما لم تكشف عن نفسها وتحدث طنيناً.. وكان يحاول أن يقنع نفسه بأنها قد وجدت طريقها إلى النافذة.. وشعر بأنه قد تحرر من أسر هذا الطنين المقرف، ليس ذلك فحسب، إنما استطاع أن يمتحن قدرته على الدخول إلى عالمه الذاتي، التي تراجعت بسبب معوقات الخارج، التي كانت أحياناً تضعه بين خيارين : أحدهما داخلي محض. والآخر له فضاءاته اللآمتناهية.. عندها شعر بأنه صغير جداً وأصغر من الذبابة.. لقد جمدت تفكيره ودفعت به إلى أن يترك عقله ويدخل في صراع  مع ذلك الطنين الذي أحاطه من كل جانب، إلا من زاوية واحدة هي إما أن يخرج هو من الغرفة أو تخرج الذبابة.. وهو مأزق لم يستطع ان يحسمه، بين كائن بشري وذبابة.. ظل حائراً ومشدوداً أمام هذا الأختيارالإفتراضي.. وثمة مسألة جاءت الى تفكيره أن يطفأ الضوء ويفتح الشباك على مصراعيه، حيث يضع الذبابة أمام خيارين : العتمة وهي انتحار، والنافذة وهي الحرية، حيث الهواء المشبع برطوبة البحر.. وما أن انتهى من تفكيره الذي كان جامداً قبل لحظات، حتى شعر بأن الطنين بات يقترب ويلتف حوله بطريقة حلزونية مقرفة.. لقد تجمدت كل الأشياء من جديد وعمت الفوضى هذا الجزء من التفكير وقادته الى البحث عن وسيلة للخلاص، ومع ذلك لم يستطع في تلك الليلة التي قاربت ساعتها تشير الى الثالثة والنصف صباحاً.. كان عليه أن يطفأ الضوء وينام، ولكنه حتى لو فعل ذلك سيظل الطنين يحفر في ذهنه بالحاح حتى لو كان صامتاً، فهو والحالة هذه يظل يقظاً ولا يستطيع أن يغفو لشعوره بأنه ملاحق.. عندها فضل ان يمنح الذبابة ضوء المصباح، لكي، إما ان تنتحر أو تتحرك صوب النافذة، لأنه قرر ان لا يترك الغرفة مهزوماً . ثم فجأة عمَ صمت مدوي.. لم يعد يسمع غير انفاسه اللآهثة وهي تبحث في خبايا الغرفة وخلف الستائر ووراء الآثاث عن مصدر الطنين.. وأخيراً خرجت الى عالم الحرية.. وظل هو حبيس تلك الغرفة والأفكار التي تضغط عليه حتى الصباح.. لم يستطع النوم لأن الحالة ظلت عالقة في ذهنه بشكل مزري.. ولكن الشعور بالإعياء قد يدفع المرء إلى الإحباط، وما أن هبط السلم حتى فكر بمغادرة هذه الغرفة اللعينة، واستجمع تفكيره المشتت ليُذَكِر ادارة الفندق بأنه سيغادر قبل الثانية عشرة ظهراً، ودفع الحساب.. وقبل أن يخرج سأله المشرف على الإدارة..

ما بك أستاذ ؟ يبدو أنك لم تنم جيداً؟

نعم، هذا صحيح.. إنها كانت فعلاً ليلة محيرة.. كنت بين خيارين، إما أنا أو هي التي لم تدعني أنام!!

 ثم غادر ليرى وجه الشمس وهواء البحر المنعش المحمل بالرطوبة، وكان شهر مايس- مارس في بدايته، فيما ترك مسؤول المكتب فاغراً فمه وفوق رأسة ألف علامة استفهام.. .!!

 ***

د. جودت العاني

09/04/2021

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم