صحيفة المثقف

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (231): المشتركات الأخلاقية بين الأحكام الشرعية والوضعية

majed algharbawi1خاص بالمثقف: الواحدة والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

الأسس الأخلاقية لتشريع الأحكام

ماجد الغرباوي: قبل الإجابة على السؤال المتقدم: "ما الفرق حينئذٍ بين أحكام الشريعة والأحكام الوضعية إذا كان تشريع كل منهما قائما على ذات المبادئ والقيم؟"، ينبغي أولاً تقديم أدلة وشواهد على تشريع أحكام الشريعة الإسلامية وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع المتقدمة: "مركزية العدل وعدم الظلم، السعة والرحمة، والمساواة".

لقد تقدمت مجموعة شواهد وأدلة تثبت تشريع الأحكام وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، نعيد ترتيبها وإضافة ما يعضد صحة فرضيتنا: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء).

وللأحكام الشرعية صيغ، متفق عليها بين الفقهاء: ("وجوب / فرض"، "استحباب / ندب"، "حرمة / حرام"، "كراهية / مكروه"، إباحة). والإباحة كل ما عدا الأحكام الأربعة. ويقصد بها: (أن يفسح الشارع المجال للمكلف لكي يختار الموقف الذي يريده. ونتيجة ذلك أن يتمتع المكلف بالحرية، فله أن يفعل وله أن يترك). بينما هدف القوانين والأنظمة في منطقة الفراغ التشريعي أوسع، تقصد الإلزام أو النهي. بيان الحقوق والواجبات. وكل ما تتطلبه حركة الحياة على جميع الأصعدة لتحقيق الأمن والاستقرار وضبط سلوك المجتمع عبر نظام قانوني محكم. ونحن هنا ندعي وحدة المنهج في تشريع الأحكام، وأن جميعها يشرّع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع. وإذا كانت الثانية واضحة من خلال الخبرة اليومية لتشريع اللوائح القانونية، باعتبارها أفضل صيغة عقلائية، يتجاوز بها المشرّع الارتجال والمزاجية ومختلف الانحيازات، فإن الأولى تحتاج لأدلة وشواهد تثبت صحتها. سيما أنها أحكام مقدسة ووحي سماوي، لذا ارتكزت في طرح الفرضية على مقدمات، هي:

المقدمة الأولى: إن مفهوم القداسة الجديد يساعد على إدراك ملاكات الأحكام والمبادئ القائمة عليها. إذ تقدم أن قداسة النص الديني، تعني: ثراء النص وعمقه، ولا تعني دوغمائيته والجمود على حرفيته تعبدا. ومعنى التعبد كل ما لا يدرك ملاكاته من الأحكام فيجب الإلتزام به وامتثاله تسليما وطاعة. والتعبد لا ينفي وجود ملاكات ومصالح، إلا أنها غير مُدركة، ومادامت ممكنة، فيمكن إدراكها وفقا لمعطيات العلوم الإنسانية الحديثة، مباشرة كما بالنسبة للأحكام المعللة أو غير مباشرة. وقد اقترحت في كتاب الفقيه والعقل التراثي، وفقا لمنهج فقه الشريعة: "التوازن الروحي والسلوكي، وتحقيق العدالة الاجتماعية"، ملاكات للجعل التشريعي، والتي على أساسها معرفة مدى فعلية الحكم، بعد أن تبين عدم إمكان تشخيص فعلية جميع الأحكام من خلال فعلية موضوعاتها، فأمسى لدينا طريقان لمعرفة فعليتها. والتفصيل في محله. ومفهوم القداسة بهذا المعنى يشمل الأحكام الشرعية باعتبارها نصوصا مقدسة. فهناك معان لمفهوم قداسة الأحكام الشرعية في سياق قداسة النص، هي:

معنى قدسية الأحكام الشرعية

1- قدسية الأحكام الشرعية باعتبارها جزءا من قدسية النص. وبما أنها جزء من النص فتأخذ قدسيته، ويكفي في قدسيتها وجودها ضمن آيات الكتاب. وهذا ما يفهمه اتجاه العبودية لقدسية الأحكام الشرعية.

2- تعني قداسة لأحكام الشرعية، وفقا للاتجاه العقلي / فقه الشريعة: قدرة العقل على  إدراك فلسفتها وتاريخها ومقاصدها وغاياتها وخلفيتها في أفق الواقع، ومن خلال حيثيات الحكم من جميع الجهات، بل وحتى ثقافة الناس وقبلياتهم وعاداتهم وتقاليدهم تؤخذ في نظر الاعتبار، للكشف المشتركات الأخلاقية بين الأحكام الشرعية والوضعية، وظروف نشأت السؤال، وماهي قبلياته الاجتماعية والأخلاقية، وما هي دوافع طرحه، وما هي الأجوبة المتداولة حوله قبل صدور الحكم الشرعي. وهذا لا يتنافى مع التسليم والطاعة بل يفسح المجال لإدراك مقاصدها وغاياتها، لمعرفة مدى فعليتها في ضوء الواقع وضروراته.

3- قدسية الأحكام الشرعية بلحاظ دلالتها الرمزية وما تستوجب  من جزاء أخروي، ثواباً أو عقاباً. وهي خصوص الأحكام المنصوص عليها قرآنيا، ترتبت أم لم تترتب عليها آثار دنيوية". فالحكم يكتسب قدسية لا من وروده في الكتاب فقط، ولا من الآثار الأخروية المترتبة عليه فقط، بل من الدلالة الرمزية، للطاعة والمعصية التي تستوجب الجزاء الأخروي. إذ يعني امتثال الحكم طاعة الله تعالى. ومعصيته معصية الخالق وعظمته. وهذه الدلالة تكفي لرفع مستوى قدسيتها. غير أن قدسيتها بهذا المعنى لا يمنع من تحري فعليتها، ما لم تشكل المراجعة تحديا للإرادة الآلهية. ولازم هذا الفهم محدودية الأحكام وعدم مشروعية أي حكم ينتسب للشريعة ما لم يكن منصوصا عليه. وبهذا تعرف قيمة ما ينسب إلى الله، حتى لو كان الدليل حديثا نبويا ما لم يكن له جذر قرآني، ليكون شارحا ومبينا له، وماعدا ذلك يبقى فعلا بشريا، قد يكون ملزما في حينه كالأحكام الولائية، أو يكون حكما أخلاقيا، أو خبرة حياتية، أو حكما إرشاديا، أو توجيها عقلائيا. هذا لا غبار عليه، بيد أننا في صدد ضابطة لتعريف المقدس من أحكام الشريعة.

4- قدسية الأحكام الشرعية بمعنى، حصانتها في حدود ما ورد في كتاب الله. وهذا معنى رابع، إذ حرصت الشريعة بعد بيان جميع الأحكام، جاءت الآية لتقول صريحا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). فالدين الذي هو عقيدة وشريعة قد اكتمل بهذه التشريعات، ولا يحتاج الإنسان غيرها، ولو كانت هناك حاجة لبينها، لكنه لم يبين، بل أكد:

(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

(قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

هذه أربعة معانٍ لمفهوم قدسية الأحكام الشرعية، تظهر من خلال تدبر الآيات في إطار فهم جديد للدين وفقه الشريعة، يكون محوره الإنسان. وسيأتي الكلام عن صدقية مفهوم القدسية على الأحكام أم لا، وحينئذٍ سنفهم ماذا يعني قداسة الأحكام، هل تعني وجود بعد ميتافيزيقي، أم أن تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته؟.

المقدمة الثانية: إن تفاوت الإلزام في الأحكام الشرعية بين الوجوب والاستحباب أو بين الحرمة والكراهية مثلاً، يقتضي وجود مرجعية، ومبادئ تحدد مستوى الإلزام والترجيح. وبشكل أدق: أن (لكل واحد من الأحكام التكليفية الخمسة مبادئ تتفق مع طبيعته، فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديدة، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة عالية تأبى عن الترخيص في المخالفة. ومبادئ الحرمة هي المبغوضية الشديدة، ومن ورائها المفسدة البالغة إلى درجة نفسها. والاستحباب والكراهة يتولدان عن مبادئ من نفس النوع، ولكنها أضعف درجة بنحو يسمح المولى معها بترك المستحب وبارتكاب المكروه). فكيف يحدد المولى مستوى التفاوت، إذا استبعدنا الارتجال في وضع الأحكام الشرعية؟. لا بد أنه يحدده وفقا لمقتضيات حكمته، وما يقصده من وراء الحكم، وذلك طبقا لمبادئ تشريعاته: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ). وطالما أكد الكتاب الكريم على مبادئ أساسية، مرَّ الكلام عنها وعن شواهدها وأدلتها. فيمكن صياغة ضابطة: (إن لازم ترجيح الملاكات المتفاوتة وجود مبادئ يحتكم لها المشرّع في تشريع الأحكام). فعندما يشرّع المشرّع وجوب الصلوات الخمسة، فذلك لوجود مصلحة تخص المكلف فأمره بإقامتها، خمسة مرات باليوم بمعدل 17 ركعة. ثم ترك الباب مفتوحا للصلاة على نحو الاستحباب. فالفارق بين الصلاتين الواجبة والمستحبة في درجة الإلزام، وما يستوجبان من جزاء، ثوابا أو عقابا. وهنا نسأل، ما هو الأساس أو المبدأ الذي ارتكز له المشرّع في التمييز بين الواجب والمستحب؟. لاريب أنه ارتكز للعدل أو للسعة والرحمة أو لكليهما، في أفق الواقع وضروراته بالنسبة لفرد يعيش داخل حياة تضج بالحركة والمسؤولية. فيأخذ بنظر الاعتبار واقع الفرد داخل المجتمع، وحينئذٍ يشرّع وفقه على أساس مبادئ التشريع، فيجد من العدل عدم إرهاق كاهل المكلف بصلوات أكثر من الفرائض، لكنه أبقى الباب مفتوحا ليروي ظمأه الروحي، عندما ينفتح على الغيب والمطلق. وبالتالي لا يوجد ارتجال ومزاجية في تشريع الأحكام بل يقوم التشريع وفقا لمقتضيات الحكمة، التي هي صيغة عقلائية، والله سيد العقلاء، وأحكم الحكماء حسب الفرض، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ). (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا)، (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)، (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وجميع هذه الآيات تؤكد الحكمة والحق، وتنفي العبثية والانحياز.

ويمكن الاستدلال بالآيات أعلاه وآية: (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) على اعتماد الحكمة ومبادئ التشريع في تمييز الحق، قبل النطق بالحكم القضائي. فمبادئ التشريع ومبادئ إحقاق الحق، مبادئ عقلية تقتضيها حكمة التشريع والقضاء وإحقاق الحق.

إذاً، في ضوء هاتين المقدمتين استنتجت أن الأحكام سواء سماوية أو أرضية. مقدسة أو وضعية تقوم على أساس مقتضيات الحكمة، ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته وفي إطار القيم الأخلاقية، بل ويصدق الأساس الأخلاقي للأحكام التشريعية.

والآن نذكر أدلة وشواهد تؤكد وحدة المبادئ في التشريعات. مما يتيح ملء منطقة الفراغ بعيدا عن وصايا الفقيه، سوى خبرته الفقهية والقانونية. وهي بذاتها تثبت شرعيتها وقانونيتها. وبالتالي وهذا المهم جدا، نهتدي لضابطة: (إن مصدر شرعية الحكم صدوره وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في ضوء الواقع وضروراته)، ولازمه عدم توقف شرعية الحكم في منطقة الفراغ على وجود فقيه أو خصوص الولي من الفقهاء. بل حتى أحكام الشريعة فإنها تستمد شرعيتها من مقتضيات المشرّع ومبادئه المقدسة. أي صدورها من مشرّع حكيم. ولا تستمدها من قدسية الشريعة فقط: (فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، (وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، (وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ). ولا تخفى دلالة الآيات على ربط الحكم بالحكمة، فالله أحكم الحاكمين. فالآيات لا تنكر وجود حكماء قادرين على إحقاق الحق وفقا لمقتضيات الحكمة، غير أنها تؤكد أن الله أحكم الحاكمين، وخير الحاكمين، بفعل علمه وإحاطته وعدله ورحمته، وكلها مبادئ قرآنية وإنسانية في ذات الوقت. وهذه إحدى ميزات الأحكام الشرعية، لذا لا يمكن نفي فعلية أي حكم شرعي ما لم يدل الدليل، كانتفاء شرط فعلية الموضوع، التي تتوقف عليها فعلية الحكم. أو اختلال ملاكات الجعل الشرعي التي بينتها في محلها. وسأبين ميزات الأحكام الشرعية، وبماذا تختلف عن الأحكام الوضعية، ضمن الإجابة على السؤال المتقدم، بعد بيان الأدلة التالية:

الدليل الأول: العرف التشريعي

تقدم أن الأحكام الشرعية كغيرها من التشريعات، تمرّ بمرحلتين، مرحلة التصوّر أو مرحلة تشخيص مبررات تشريعها، وطبيعة ملاكاتها. ثم مرحلة إبراز الحكم بصيغة قانونية "مرحلة الإثبات". بغض النظر عن كيفية حضور الموضوع وإحاطة المشرّع به من جميع أبعاده، فثمة اختلاف نوعي بين المطلق والنسبي. المطلق يمكن تشريع أحكاما بعيدة المدى، وهذا غير ممكن بالنسبة للمشرع الإنسان فهو محدود بالواضع وأفق ضروراته وحاجاته. لكن هذا لا يؤثر في فهم كيفية تشريع الحكم. فالمرحلة الأولى هي مرحلة دراسة جميع حيثيات موضوع الحكم في إطار الواقع. لنأخذ الآية التالية مثلاً:

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

فموضوع الحكم هو المحيض، والسائل يسأل عن حكم مقاربة المرأة خلال فترة الحيض، وهل يجب عليها الاستجابة لزوجها شرعا؟. باعتبار أن استجابة المرأة لزوجها مع عدم وجود مانع واجب عليها شرعا. فهل الحيض يسقط عنها وجوب الاستجابة شرعا، ويفرض على الزوج الابتعاد عنها شرعا.

فالمشرع هنا يستحضر أولاً، معنى الحيض وما يعرض فيه للمرأة فيه من آلام وأوجاع وانقلاب في حالتها النفسية والجسدية، فتكون العملية الجنسية على حساب صحتها ونفسيتها. كل هذا يأخذه المشرع بنظر الاعتبار وهو بصدد تشريع الحكم. كما يأخذ بنظر الاعتبار قدرة الرجل على التحمل أيام معدودة.

وحينئذٍ يأتي سؤال الحكمة: ما هو حكم مقاربة المرأة في أيام حضيضها وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع؟ هل يجب عليها شرعا الاستجابة له على حساب صحتها ونفسيتها ومعاناتها الشديدة؟ وهل يجوز للزوج مقاربتها أم يحرم عليه ذلك؟.

وهنا تقتضي الحكمة العودة لمبادئ التشريع لتحديد الحكم الأنسب. فيعيد السؤال:

هل من العدل والانصاف والرحمة وجوب استجابة المرأة لزوجها أيام حيضها على حساب صحتها ونفسيتها؟. أم أن مقاربتها وهي الزوجة في هذه الحالة يعد ظلما وعدوانا؟. هل نقدم مصلحة الرجل على حسابها؟ أم ينبغي له الصبر والابتعاد والتحمل قليلا، لتجنب أي مضاعفات جسدية أو نفسية؟.

مقتضى العدل عدم وجوب الاستجابة عليها، وعدم جواز مقاربتها من قبل زوجها. فالتعليل (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) يبرر الارتكاز في الحكم لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع. فمادام المحيض أذى، فيقتضي حكما رحيما عادلا يتفادى الأذى، فيكون من العدل والرحمة عدم مقاربتها، لذا اقتضت حكمة التشريع: (فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)، ولشدة حساسية الموضوع، وقوة حضور العدل والرحمة فيه، أضاف حكما آخر: (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). إذ تقدم ليس من الحكمة أن تصدر عن الله عزوجل وهو الحكيم الخبير أحكاما ارتجالية، وليس من العدل الانحياز للذكر دونها، بل الواجب عليه لطفا العدل بينهما من هذه الناحية، خاصة إن عدم المقاربة لا تعرض الرجل للانهيار أو الانحراف، وينبغي له الصبر إن كان مؤمنا حقا. فاذا استبعدنا هذا الاحتمال فيكون الأحتمال الثاني متحققا، وهو صدورها وفقا لمقتضيات حكمته، ومبادئه التي أكد عليها قرآنيا. وهذا تصور واقعي لتشريع الأحكام، بغض النظر عن كيفية استحضار الموضوع بالنسبة للخالق، فهذا ليس موضوعنا، بل الكلام عن المنهج في تشريع الأحكام. ولا طريقة ثانية سوى الارتجال والعبثية وهو منزه عنهما.

الدليل الثاني: الاستشهاد بآيات الكتاب

الحكمة كما تقدم، مرادفة للعقل والعقلانية وموازنة الأمور، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأخذ الواقع بنظر الاعتبار بجميع تفصيلاته وضروراته دون تحيّز، ثم يتم تشريع الحكم وفق تلك المعطيات. وما يؤكد تشريع الأحكام وفق مقتضيات الحكمة أن هناك أحكاما شرعية صرّح القرآن بتشريعها وفقا لمقتضيات الحكمة، أي كمايقتضيها العقل السليم، وفقا لمبادئه الإنسانية. كما في آيات (سورة الإسراء: 23 - 38)، وقد مرّ استعراضها، تقول الآيات:

[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴿23﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿24﴾ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴿25﴾ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿26﴾ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴿27﴾ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴿28﴾ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ﴿29﴾ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴿30﴾ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ﴿31﴾ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴿32﴾ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴿33﴾ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴿34﴾ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴿35﴾ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴿36﴾ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴿37﴾ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴿38﴾ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ﴿39﴾....].

الآيات أعلاه اشتملت على 22 حكما من أهم الأحكام في الشريعة الإسلامية، غير أن تشريعها جاء وفقا لمقتضيات الحكمة التي ترتكز على مبادئ التشريع: (مركزية العدالة وعدم الظلم، السعة والرحمة، والمساواة، في أفق الواقع الموضوعي وضروراته. وهي مبادئ التشريع الإسلامي والإنساني. بمعنى أوضح أن هذه الأحكام هي مقتضى الحكمة، وقرار العقل الحكيم الذي يزن الأشياء وفقا لمبادئ التشريع المتفق عليها سماويا وأرضيا. أي مقتضى العقل والعقلانية، على أساس العدل والرحمة. وهذه الآيات تسمح بالارتكاز لمقتضيات الحكمة والعقل والعقلانية على أساس العدل والرحمة ملء الفراغ التشريعي، وهي عملية متاحة لكل من اتصف بالخبرة والموضوعية والحكمة، ولا خصوصية للفقيه سوى كونه خبيرا، أما ولايته ووصاياه فلا دليل عليها. وكل التشريعات الوضعية الآن تجري وفقا لمقتضيات الحكمة والعدل، رغم نسبية المفهومين في مصاديقهما. المهم استبعاد المزاجية والارتجالية والفوضوية في تشريع الأنظمة والقوانين، هذا هو المنهج المثالي، وعندما ينحاز المشرّع لرغبات الحاكم المستبد، ويشرع خلافا للعدل والرحمة، فهو يخون ضميره وشروط مهنته، ويحابي الحاكم الجائر على حساب الآخرة. وهكذا مشرّع رغم خبرته لا يؤتمن، ولم نقصده في حديثنا، نحن نفترض توفر جميع الشروط اللازمة للتشريع، وهي:

- الخبرة القانونية والتشريعية، وعدة معرفية، سواء أكاديمية أم دراسات دينية علمية لتخصصها في مجال الفقه وأصوله ومعارفه.

- معرفة الواقع وضروراته. لتدارك أي التباس يفضي إلى تشريع قوانين وأنظمة تضر بمصلحة الفرد والمجتمع.

- مراعاة مقتضيات الحكمة وفقا لمبادئ التشريع. لتفادي أي انزلاق مزاجي أو طائفي أو منحاز لغير العدالة مبدأ أساس في التشريع.

يأتي في الحلقة القادمة 

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم