صحيفة المثقف

ضياء نافع: دردشة عن دستويفسكي في مئويته الثانية

ضياء نافععندما التقي جارتي الروسيّة صباحا، ادردش معها دائما عن اخبار الادب والادباء، لأني أعرف، انها عاشقة للادب الروسي ومتابعة جيّدة لاحداثه، وقد سألتها في ذلك الصباح عن أخبار الذكرى المئوية الثانية (1821 – 2021) لميلاد الكاتب الروسي دستويفسكي في أوساطها، فقالت انها لا تعرف اي شئ عن ذلك، و انها أعادت قراءة رواية دستويفسكي القصيرة (المساكين) آخر مرة قبل اكثر من ثلاثين سنة، لأن هذه الرواية القصيرة (جميلة وساحرة جدا كما قالت !)، وأصبح دستويفسكي الآن بالنسبة لها شيئا من الماضي البعيد جدا جدا، وقالت وهي تضحك – لقد كنّا نتحدث عنه كثيرا أيام الاتحاد السوفيتي باعتباره (سياسيّا!!!)، كي (ننغز!!!) الحزبيين السوفييت حولنا ونستفزهم، ونذكّرهم ان دستويفسكي كان كاتبا عظيما ومبدعا متميّزا، رغم انه لم يكن ماركسيا، بل و حتى كان معاديا للماركسية أصلا، ولم يعرف الحزبيون السوفييت آنذاك كيف يجيبوننا بشأن تعليقاتنا حول فلسفته، ولا كيف يوضّحون الموقف الرسمي تجاه دستويفسكي في الاتحاد السوفيتي، أما في روسيا الحديثة بوقتنا الحاضر، فلا أحد حولي يتذكّر جريمة الشاب راسكولنيكوف حول قتله الوحشي لتلك المرأة المسنّة ولا عقابه على تلك الجريمة الرهيبة، ولا خطابات حبيبه سونيا وكلامها الاخلاقي الطويل والعريض (رغم ان القراء يعرفون من هي!!!)، ولا كل هذا الوعظ الديني المطوّل (الذي صبّه دستويفسكي على رؤوسنا !!!)، ثم أضافت جارتي بعد لحظة صمت (عندما لاحظت عدم ارتياحي لكلامها بشكل عام)، انها – مع ذلك - سترى حفيدتها اليوم وسوف تسألها حول اخبار مئويه دستويفسكي الثانية في اوساط الشباب عندهم (... و من المؤكد انها ستحكي لي شيئا - ما عن ذلك، وسأخبرك حتما بما ستقوله حفيدتي لي في المرّة القادمة) . وهكذا اتفقنا، ثم ودّعنا بعضنا البعض.

وعندما التقينا مرة اخرى، فهي التي بادرت بالكلام رأسا عن موضوع دستويفسكي، وقالت لي، ان حفيدتها أخبرتها، ان الشباب حولها نادرا ما يتحدثون عن دستويفسكي و مئويته الثانية، ولا يعودون الان لقراءة رواياته (الطويلة جدا!)، ثم أضافت جارتي، ان الروس احتفلوا فعلا (وبصدق ومن أعماق قلوبهم) بالمئوية الثانية لبوشكين عام 1999، ولكن هذه الظاهرة لا تتكرر مع المئوية الثانية لدستويفسكي، وقالت، ان حفيدتها تقرأ الان (للمرة العشرين !!!) رواية بوشكين الشعرية (يفغيني اونيغين)، وتتمتّع برشاقة تلك الرواية وذكاء صياغتها وجماليات كلماتها البسيطة العميقة وحلاوتها ومضمونها الانساني الخالد . قلت لها، ان حب بوشكين لا يتعارض مع حب دستويفسكي، وان (طعم !) دستويفسكي وبوشكين يكمن في قلوب وعقول الروس دائما، فاعترضت رأسا على استنتاجي هذا، وقالت بحزم – كلا، كلا، كلا، طعم بوشكين يختلف تماما، وبوشكين هو دائما الاقرب الى عقولنا وقلوبنا . حاولت أنا الابتعاد عن الكلام حول بوشكين (لأني أعرف، ان الكلام عن بوشكين مع الروس له بداية، لكن ليست له نهاية)، وقلت لها، ان الدولة الروسية بأسرها تتحدث عن المئوية الثانية لدستويفسكي، ويوجد حتى بيان رسمي حول ذلك بتوقيع الرئيس بوتين نفسه، فقالت، ان هذه البيانات والاعلانات لا تعني اننا سنحتفل (من كل قلوبنا !!!) بذلك الحدث، مثلما احتفلنا فعلا بالمئوية الثانية لبوشكين، فقلت لها، حتى منظمة اليونسكو دعت الى الاحتفال عالميا بهذه الذكرى، فسألتني فجأة، اذا كان هذا الشئ يجري عالميا، فهل احتفلتم انتم في العراق بالذكرى المئوية الثانية لدستويفسكي؟ كان هذا السؤال بالنسبة لي مفاجأة غير متوقعة بتاتا، ولم استطع طبعا الاجابة عن هذا السؤال رأسا، وقلت لها (من أجل كسب الوقت للتفكير!!!)، ان الوضع في العراق خاص جدا وفي غاية التعقيد، ولا يسمح بمثل هذه النشاطات الفكرية في الوقت الحاضر، فأجابتني بسؤال آخر قائلة، وهل تعتقد ان الوضع في روسيا ليس خاصا جدا وفي غاية التعقيد، وانه يسمح بذلك، (كررت هذه الجملة وهي تحاول ان تلفظها مثلما لفظتها انا وبنفس اللكنة تهكّما طبعا !!!)، قلت لها وأنا احاول – وبصعوبة - ان أكتم ضحكي، باني أعرف طبعا صعوبات ومشاكل الحياة عندكم، ولكن مهما يكن الوضع في روسيا، فلا يمكن مقارنته ابدا بالوضع الصعب جدا في العراق، فقالت، ولكنك ذكرت لي مرة، انكم احتفلتم في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد بالذكرى المئوية الثانية لبوشكين عام 1999، فلماذا لا يحتفل قسم اللغة الروسية عندكم بالذكرى المئوية الثانية لميلاد دستويفسكي ؟ قلت لها، انني بعيد الان عن هذا القسم (الحبيب الى قلبي لاني عملت فيه اكثر من ثلاثين سنة)، وبالتالي لا استطيع الاجابة عن سؤالك، و مع ذلك يمكن لي طبعا ان اطرح هذا السؤال عليهم الان، ولكني، يا جارتي العزيزة، أردت ان اعرف منك كيف يتقبّل الناس في روسيا هذه المناسبة، ورغم انك لم تجيبي عن سؤالي بشكل مباشر ودقيق، الا انك – مع ذلك - رسمت لي صورة واضحة بما فيها الكفاية عن هذا الموضوع، فضحكت جارتي، وقالت - لقد اخبرتك بالحقيقة كما أراها أمامي وكما أعرفها فعلا وكما أتحسّسها، اذ انتهى في روسيا - ومنذ زمان بعيد - عصر اطلاق الكلمات الطنانة والرنانة، وعصر صياغة الشعارات من تلك الكلمات.

 

أ. د. ضياء نافع 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم