صحيفة المثقف

علاء شدهان القرشي: الغنوصية كتعبير عن الأوهام

علاء شدهان القرشيرينيه جينو (كينون)، أو عبد الواحد يحيى نموذجًا

يمثل كتابه: هيئة الكم وعلامات آخر الزمان، أو بترجمة أخرى: نهاية الكم وعلامات آخر الزمان، خلاصة جهده وكتبه، وهو نفسه يعتبره الجزء المكمل والتفصيلي لكتابه الأقدم: أزمة العالم الحديث.

من المؤكد أن عصره عَرَفَ أزمةً روحيةً، فقد أهملت بيئته؛ التي يعرفها في الغرب؛ الحياة الروحية للأفراد، في ظل تطور الصناعة، وفلسفة السوق، وتشييء الإنسان، وآليته، وبرمجة العيش، وشيوع الإلحاد، وغير ذلك. وقد عرف هو – بفضل سابقيه – هذه الأزمة، ولمسها في نفسه ووجدانه، وفي مجتمعه وأحوال أقرانه.

أعثره حظه العاثر على بقايا إسماعيليةٍ كان بعضها «مكتوبًا» في مكتبات باريس العظيمة، وبعضها «حيًّا» في أزقة القاهرة وحواريها. فلجأ إليها مستغيثا بها، باحثًا عن إجاباتٍ لتساؤلاته الروحية التي أقضت مضجعه، وأطارت نومه، وأرقته، وأسهرته.

قبل كل شيء يجب أن أمر سريعا على Philosophical Theosophy وقد تعوّدت أن أختصرها في شخص واحد هو Plotinus، لأنه يمثل بحق أهم الأفكار التي تنتمي إلى Religions of ancient India، والتي انتقلت إلى اليونان قديما، حيث يمكن العثور بسهولة على تأثيراتها في ما وصل إلينا من Orpheus وأساطيره حول الموت والحياة والأعداد وأفعالها وموسيقاه التي تأثر بها كلُّ واحد تزعّم مذهبًا غنوصيًا من بعده، كما في حالة Pythagoras.

يعتنق Plotinus بِحَذَرٍ عقيدة دورات الحياة المتصلة بعقيدة أعمق metempsychosis والتي تحدث عنها سقراط فيما كتبه عنه أفلاطون في محاوراته، خاصّةً في ما فصّله حول العربة الإلهية، والأرواح الخيرة، وسقوط الأرواح الشريرة، بعد احتراق أجنحتها، لتتسافل في عوالم الظلال، ولتحرم من الخلود، بعد تزاوجها بالأجساد في عالم المادة، واستمرار الفناء والعودة كل 3000 سنة، أو 5000 سنة، أو 10.000 سنة أو ما يقاربها، في عملية تناسخ مستمرة وأبدية، مما أنتج لاحقًا التقويم الدهري أو الزمني أو الدّوري للعالم. ولا يشك Plotinus أن الشر هو التقييد، أي العدم اللا مطلق الذي يحيط كل وجود بحدود عدمية لتتحقق الماهية، ومن التقييد الذي هو شر محض أو سبب للشرور جسد الإنسان، الذي يقيد الروح التائقة بطبيعتها العلوية إلى الكمال واللا نهاية، لذلك فإن إهمال الجسد يعني الاهتمام بالروح لتندرج في الوحدة الحقيقية، وتغادر الكثرة، وإن كان يعتقد بأن الوحدة هي عين الكثرة، وأن الكثرة هي عين الوحدة. إلا أن هذه حقيقة لا يمكن سبر غورها بالجسد الفاني.

ثم طَوّر Neo-Platonist Damascus أفكار Plotinus، في القرن الخامس الميلادي وقبله وبعده، واستورد Early Church Fathers هذه الأفكار إيما تطويرٍ، وقد وجدوا فيها تفسيرًا لأهم وأعمق رموزهم الدينية، ومعتقداتهم المسيحية، فطابقوا بين الأقانيم الثلاثة لــ Plotinus وهي الأول، والروح، والعقل، وهي ثالوثه الخاص به. وبين الأب والابن والروح القدس، وغير ذلك من الرموز في ثالوث مسيحي هذه المرة.

تطور كل ذلك إلى Philosophical Theosophy. وجد فيها معتنقوها تفسيرا لمعتقداتهم القديمة حول ماهية الحياة والوجود والإله والروح والخلاص الذي لا يكف عن التفلّت في كل مرة. وتنوعت المذاهب والفرق، خاصة Esoteric doctrines in Islam. وهي كثيرة في القرون الثلاثة الأولى الإسلامية.

إلا أنها بلغت ذروتها على يد المسلمين منذ القرن الثاني الإسلامي. قبل الفارابي، طور الإسماعيليون في سوريا، وفي السَّلَمية - على وجه الدقة - أفكارهم حول الخلاص، والموعود، والحياة والموت، ودورات الحياة الألفية، والتناسخ، وأغلب ما كان يتداوله المنتمون إلى Esoteric doctrines in Islam من قبلهم كفرق الغُلاة والفرق السرية وأمثالها. وهي أيضًا وفرت الإطار الغنوصي والفلسفي لمعتقدات هذه الفرق السرية والباطنية التي ما تزال بقاياها حية حتى اليوم في مختلف الفرق الدينية الإسلامية في أرجاء الكوكب. يمثل «بدّ العارف» لابن سبعين هذا الاتجاه أفضل تمثيل، فليس البد، والبددة، سوى بودا والبودية نفسها، مع مواءمتها للأفكار الإسلامية.

تخضع الأفكار المستمدة من Gnosticism دائما لبيئتها الثقافية. فنجد الفيلسوف قديمًا يحاول مواءمتها مع فلسفته، واللاهوتي مع لاهوته، والرياضي مع رياضياته، والمهندس مع هندسته، وهكذا. لذلك نقرأ في كتاباتهم – كما في حالة رينيه جينو – الهندسة المقدَّسة، والهندسة الظاهرة، والعلم الباطل والعلم الحق، وهكذا. ولا يعنون بالعلوم الحقة سوى العلوم التي تؤدي وظيفتها باتجاه الغنوصية كهدف أسمى.

لا يعدو رينيه جينو أحدًا ممن سبقه، لكنه يتميز عنهم بتميّز عصره الذي تطورت فيه العلوم تطورًا كبيرًا. فلو افترضنا مثلًا مفكرًا غنوصيًا إسماعيليًا كـــ «ابن حيّون = القاضي أبي حنيفة النعمان»، عاش في بيئة رينيه جينو، أو أن رينيه جينو عاش في بيئة ابن حيّون، لوقع الحدث نفسه تمامًا. وكذلك في حالة جابر بن حيان، حيث وظف الكيمياء كلها للبرهنة على عقيدته الغنوصية التي لا أشك أنها عقيدة إسماعيلية أو متصلة بها، وقد كان يؤمن بأن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق إمام باطن، بينما موسى الكاظم إمام ظاهر، وهكذا وضع لكل إمامٍ ظاهرٍ إمامًا باطنًا يشاكله.

كان على رينيه جينو، وأمثاله الغنوصيين، أن يبرهنوا على الأوهام التي اختصرها Plotinus قبل أن يبنوا عليها رؤيتهم الكلية حول الكون والعالم والحياة، وقبل أن يؤسسوا نظامًا كاملًا من الأوهام والتهويمات المتصلة بالإنسان ومصيره وهدفه ووظيفته في دنياه وحياته وعيشه. لا أن يسارعوا إلى اعتناقها، ومن ثم التورط في عمليات المواءمة التي لا تفكك الوهم عن الحقيقة، ولا الخطأ من الصواب، ولا يهمها ذلك، ولا تستهدفه، ولا تبغيه. إنما تهدف إلى البرهنة على صحة إرث قديم تركه غنوصي حالم في لحظة جوعٍ. تلك اللحظات التي يعذبون فيها الجسد بالجوع والعطش والسهر والتعب، لتتمكن الروح من الخروج، والطيران، والتحليق، في عوالم تتغذى على الجوع والعطش والسهر والتعب.

 

بقلم: علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم