صحيفة المثقف

سامي عبد العال: النقْش على الحَجر.. القِدْرُ المكْسُور (2)

سامي عبد العاللنُحاول مرةً بعد مرةٍ طرح (قضية الطفولة) من الأمام في المستقبل، أي نأتيها بعد الموعد في الغد المفتوح. إذْ ذاك سنجد الطُفولة كياناً افتراضياً قابلاً للتشكيل، وستظل وضعيتها مسألة شائكةً لها كافة الاحتمالات منذ أنْ كان المستقبل مجهُولاً في تاريخ البشر. إنّ الطفولة بالفعل هي كياننا نحن وقد أُلقِيّ به على طول المدى دون تحديدٍ. فالأطفالُ أولادَّنا حين يستوعبوا وجودَّنا الضيق في وجودِّهم المفتوح، هم أحلامنا القادمة المتسِّعة إلى مالا توقُف، ويمثلون هدفنا الباقي حيث لا نمتلك مصيرَّه. ومن ثمَّ ونحن إزاء خطابٍ منتظَر لوجودهم القادم، فلِمَ لا نكون إذن بصدد شيء (جديدٍ)، مثل الزمن، التاريخ، الحياة؟!

على الأقل هنالك شيءٌ من غير الممكنِ الآن معرفته في حقيقة أطفالنا، أي ها هو (إنسانهم) يعبر عن تخلُق مختلف، مخاض مغاير يجب مراقبة تفاعلاته في صمتٍ وعنايةٍ وانفتاح. ذلك من واقع تحديات(العصر، المعرفة، التربية، التكنولوجيا) المفتوحة على اتجاهات شتى. فالعناصر المذكورة تقع دوماً في مرحلة التكوين المستمر، وتشترك في واقع ما، في تحول ما خارجنا الآن بإعتبارها إشارات. إنَّ ما تُسطِّره الطفولة على صفحات الحياة فيما بعد أكثر مما نراه، لنتريث قليلاً، فإدعاء المعرفة والتربية وسط  التحول الزمني يضر بنا، بمعرفتنا ضرراً بالغاً.

إنّ تصوراً مفتوحاً للطفولة لهو أمر صادِم لكل تاريخ الثقافة العربية، صادِّم لموروثات التربية (النفسية، الدينية، الوطنية، السياسية، الإجتماعية، الأخلاقية). بالتحديد هو تصور مزلزل للقيم السائدة، حين تؤكد العبارة الشعبية السائرة سريان النار في الهشيم حول البنات وأمهاتهن:" إقلب القِدْرةَ على فمْها، تَخرجُ البنتُ لأُمها ". وهي عبارة تنقل مضامين تربوية واجتماعية بالدرجة الأولى. فالقِدْرة نوع من الأواني الفخارية المستعملة لأغراض الطعام والشراب، والفم هو رمز الكلام والشبع والسلطة الإجتماعية(الخطاب)، والعلاقة تشترك في الصلصال الذي هو مادة خلق الإنسان والفخار والزمن. وعملية القلب المشار إليها هي التطابق الثقافي بين الأصل (الأم) والفرع (البنت)، بين (الأب) و(الإبن)، بين (المرجعية) و(التطبيق)، بين (الماضي) و(المستقبل)، بين (التام) و(الناقص)، بين (اللفظ) و(المعنى).

إنَّ العبارة الشعبية الآنفة هي عبارة أساسية تحتاج تفسيراً مختلفاً فيما هو آتٍ من المقال. وتباعاً يمكن أنْ نفهم القلْبَ بفعل (الإنكفاء، الوضع، الانزال) على شيء ثابتٍ، بينما تكون البنتُ بمثابة الحياة (الزمن، الرغبة، الحاضنة النوعية). فالمرأة هي المحبوبة، الزوجة، المرأة الولُود، وهي الأمومة، الطبيعة، الحقيقة، حاضنةُ الأصول وأخيراً هي جماع ذلك كله الذي هو الثقافة. إذن" القَلْبُ الثقافي " عملية شاملة، تستغرق الحياة كلها لضمان الهيمنة على الكائنات الإفتراضية (الأطفال).

تحتوى عملية " القلب الثقافي" لحياة الأطفال في هذا الاتجاه على عدة آليات مع النقاط  التي ستذكر بالأعلى، آليات تؤهل تلك العملية لإستغراق الحياة بمجملها وتعود حاكمة بمسار كيانهم الأفتراضي، مع العلم بأنَّ تلك الآليات ملتحمةٌ بالتاريخ الناتح عن حركة المجتمعات العربية لدرجة الرمي نحو الغد:

أولاً: التحويل transformation:

قَلْب الشيء .. أي لُب تَحْويلُه عن وجهه المنظور إلى وجه آخر، وقد انْقَلَب بذلك تماماً. وقَلَبَ الشيءَ، وقَلَّبه: حَوَّله ظَهْراً لبَطْنٍ. التحويل لجوهر الطفولة والتعامل معها كما يبدو فعل مقصود ضمن تحديدات الثقافة، وبخاصة أنَّ النتيجة المترتبة على التربية تنتظر التحقق، فالقلب ثقافياً بمثابة وضع المحصلة ضمن الوجه المُراد الوصول إليه. وحين يُقال قلَبتُ شيئاً أي وضعته على وجهةٍ أريدُها. والقلب الثقافي يتماس مع فكرة التفريغ التي سأشير إليها لا حقاً، فقلبُ الشيء معناه إنكبابه على حدوده العليا وبمقدار ما تنكفيء الحدود العلياً على الأرض بمقدار ما يسقط ما في جوفه، وتفرّغ حمولته ضماناً لتمام الإلتصاق بالأرض، والأرض هنا هي بنية المجتمع.

وطبعاً لا يتم هذا المعنى التربوي في الثقافة بمضمونه المادي، لأنَّ درجة التحويل بالنسبة للأطفال نوعٌ من التعويد والترميز والصياغة مرةً أخرى، وإعاة تأكيد على الأصول في حضورهم، وإلاَّ لما ذكر المثل كلمة (تَطْلَع)، أي (تخرج) البنتُ مشابهة لأمها التي هي الثقافة، وكيف ستخرج ما لم يكن ثمة تحويلٌ بمضمون القلب العنيف وتعديل الإتجاهات وتمريرها؟!

ثانياً: تحديد المصير(العاقبة) destiny determination:

يستهدف القلب الثقافي الوصول بالمقلوب(الطفل) إلى عاقبته القصوى، أي معرفة مصيره والتأكُّد منه. لذلك يقال قلّب الأمور، أي أتى على أوجهها لمعرفة مصيرها، كالعراف الذي يقلب الدلائل والإشارات والإمارات بحثاُ عن تصريف الأمور والإطلاع على العواقب. والثقافة العربية لا تطلق مقولة " قلّب القدرة " لمجرد النظر، بل لتعيين  الإفتراض المنظور إليه زمناً وتكويناً. والتقليب بما يحتمله من حركة يكون ذا نشاط في فضاء الثقافة ذاتها، أي أنَّ الحركة أوضاع تاريخية مع كثافة المعطيات وأسس ترسيخها.

والبحث والنظر ممارستان ثقافيتان على الأصالة تجريان وفق القواعد العامة المعترف بها. فحتى إذا كان هناك إعتقاد بأن التقليب في حياة الطفل يحتمل التغيير، فإن التغيير يتمُّ إلى الداخل الموروث لا الخارج. لهذا، فإنَّ قلب القِدْرةَ على فمها يقصد به تحديداً السيطرة على المضمون الداخلي، والتشكيل في العمق. وحقاً لا يتم هذا دون تركيز كثافة العملية (التحويل) على مثول الداخل، أي القيم والأفكار والسلوك، إلى طابع الثقافة. ولو كان التحويل عملاً برانياً كما يبدو، فإن تحديد العاقبة يعمل بالأعماق، بالنهايات والكل. فالنتيجة المترتبة على عملية القلب أتصور أن تكون ختاتمية بهذا المنطق.

ثالثاً: النضْج (الإستواء) maturity:

يرمز التقليب في الثقافة العربية إلى إمكانية النضج مثلما يقلَّب الخبزَ على بطنه بعد أن نضج ظهرهُ. ولا يخفى علينا أنَّ الطفل إذا بلغ سن الرشد يقال له ناضج، غير أن الثقافة تراوح عملياتها التربوية والأخلاقية ضمن القلب من أجل رؤية آثار النضج في وعيه ومشاعره وسلوكياته. ولذلك كثيراً ما يطلق على الطفل عربياً لقب رجل لمجرد أنه ذكر ويتم التعامل معه بهذه الطريقة. والزمن يلعب دوراً مهماً في تلك الآلية، فمن مرحلة إلى أخرى تكثف الثقافة العربية حضور أصولها في المستقبل. والنضح يمثل أثر التقليب بين المكونات حتى تتفاعل مع المعنى المطروح للإنسان والأخلاق والغاية من الفعل.

وليس أوضّح على ذلك من أننا حين نحاول إنضاج الطعام، نأخذ في تقليب قوامه وتحريك مكوناته في القدر. وتحرك الثقافة العربية فاعليتها بالفكر الديني الأخلاقي، وقد أوضحت هذه النقطة في المتن أيضاً. مع أن تلك النقطة ليست مضمونةً، بمعنى قد يكون النضح إنحرافاً. لهذا يقال في  اللغة العربية " اقْلِبـي قَلابِ؛ يُضْرَب للرجل يَقْلِبُ لسانَه، فيَضَعُه حيث شاءَ "، فإذا ظهرت السقطة يشار عليه بإعادة الكلام إلى موضعه، إذن القلب يكون لتدارك السقطات، غير أنها لا تذهب تماماً، هي تبقى بالرغم من إزاله شكلها.

رابعاً: العودة (الإنصراف)back :

يأخذ القلب بزمام الموضوع (الطفل - الإنسان) للعودة إلى حالةٍ مرجوّة. والعودة تعني فصداً العودة إلى المرجعية، إلى الأنماط الأولية في البنية الثقافية. فالأمومة مكون أولِّي، وحيث تخرج البنتُ لها وظيفياً أنما تمثل عودة لدلالة  الثقافة الأم في المجتمع، أي دلالة الإنصراف نحو الثبات والتقاليد ونمط القيم. والخروج هو ماض بوضع التعود، والتعود يغني مسار العودة بشكل متواصل دون كللٍ ولا مللٍ.

وهذا إجمالاً مفهوم التربية في الثقافة العربية، من حيث كونها تمارين لا تنتهي على طرق العودة نحو القواعد المعمول بها في المجتمعات. وفي هذا السياق يعبر عن العودة بالإنصراف، الإرسال إلى موطن العودة والإستقرار. فحينما يقلب المعلم التلاميذ، فإنه يرسلهم إلى منازلهم (إلى حاضنتهم الإجتماعية)، والمنقلب هو الذهاب إلى المنصرف، أي الموضع الأخير للإنقلاب. والإنقلاب الرجوع مطلقاً، بشكل نهائي لا محيد عنه.

خامساً: التعاطف والتعقل Empathy and prudence :

يطلق المعجم العربي على القلب كعضو في جسم الإنسان معنيين. معنى "القلب " المعروف كموضع رمزي للعواطف والمشاعر والحب، ومعنى" العقل" كأداة للوعي والفهم والتدبر والتفكير. والإشارة واضحة في إختلاط المعنيين، فعملية القلب تسير بالاثنين معاًـ ولعل الكائن المقلوب (الكائن الافتراضي) يرجع مصيراً ونضجاً وتحولاً إلى الأم، وكأنَّ المثل يقول إن عملية القلب تجري على مستوى العواطف والوعي معاً، عملية القلب تعاطفاً وعملية القلب وعياً تثبيتاً للعودة بكلا الجانبين.

وبالتالي يشير فعل القلبُ إلى أنَّه لا منفذ ثقافياً إلاَّ بالرجوع مرةً نهائية إلى الأصل. ومع ذلك، فتلك الحقيقة ليست نهائية ولن تكون، فأخطر شيء هو غلق (القدر – الثقافة) لتنضج العواطف مع الوعى، فلا هذا سيختلط بتلك ولا تلك ستنتهي إلى ذاك، إنما الاثنان سيمثلان خطراً دائماً وهو ما سنراه متجلياً في مفاهيم الكائن الإفتراضي.

سادساً: الخُلوص (اللُب) purity:

يعنى أن القلبَ موضع الخلوص ولُبه، ويقال جئتك بهذا الأمر قلباً أي جئتك به خالصاً ومحضاً ولا تشوبه شائبة. وعملية القلب الثقافي الرجوع بالبنت، الطفل، خالصاً إلى مرجعية الثقافة الموثوق بها، أي تدل العملية على ضرورة تفريغ أولا، تطهير معنوي وسلوكي مما عساه أن يتعارض مع قيم الأمومة ومن ثم يجري الإنصراف إلى الإلتقاء بالماهية المنتظرة في قادم الأيام.

ويؤكد معنى كهذا على أنَّ  التربية، فعل القلب هو طريق الخلاص من شوائب العصر، وأنَّه لا مفر من الإنقلاب رجوعاً إلى الجوهر النقي، أي إلى ما يجعل العملية نقية وشفافة. وفي الحقيقة، يعد هذا التصور للخلوص تصوراً غير دقيق، لأنه يفترض النقاء والخلوص بالمفهوم المادي على أنَّه أخلاقي بالتبعية، مع أنَّ هناك تلوثاً أثناء العودة واختلاطاً بين المستويات، وسيكونان في النهاية نوعاً من العنف بإسم النقاء الذي لن يحدث.

سابعاً: التطويق والتزيين banding and decorating:

القلب أيضاً هو سوار يُوضع في اليد أو حول الرقبة إذا كان كبيراً ومناسباً، إذن تكون تربية الأطفال بفعل القلب نوعاً من ممارسة التطويق، التقليد، التزيين بدلالة أخلاقية ليس أبعد. وكثيراً ما نستعمل الألفاظ الدالة على الجمال في موضع التحلي بالقيم الحميدة كما يقال هذه أخلاق جميلة، فلان جميل الخصال وسمح الأفعال. وبدلالة (التطويق والتزيين) يتم تسلل التقاليد والقيود والمفاهيم الضيقة إلى وعي أطفالنا بألفاظ جمالية. وهذه النقطة إمتداداً للنقطة السابقة من جانب أنَّ القيم في شكلها البرّاق إنما تحمل نمطاً من التصور والفكر المقلد، حتى أنها تخلق موضوعها مرة ثانية بعد أن تقيده وتوثق قدراته. وتصبح تلك القيم رجوعاً لنمط من العبودية الموروثة بحقيقة التربية ووسائلها.

ثامناً: النَضْح والحرْث leaching and plowing:

يشير القلب إلى كلمة قريبة بمعنى" القليب" أي البئر القديم الذي لا ربَّ له ولا حافر قائم به. وتصبح التربية تجاه الأطفال عملية نضح أي رشح، أو عملية استرشاح من إستنباط الماء(نسغ التقاليد والأفعال) مجدداً. ذلك في إشارة دالةٍ على أنَّ مفاهيم الحياة وأسرارها ترجع إلى الماء (التقليد) الذي يسري في عروق أطفالنا، ماء الأخلاق والحقيقة والحياة والقيم. وهذا تصور موروث يخرج من ثقافة البداوة التي أسست لمعاني المعجم وواصل سريانه حتى الآن. والمِقْلِّب أي المحراث الذي تُقلب به الأرض، لأنَّ الطفل حين يتأرجح بين القديم والجديد سيحدث له تحريكٌ للمشاعر وحرثٌ للمفاهيم وتكون تلك الخطوة تمهيداً للقلب بالإنكفاء والصياغة النهائية.

تاسعاً: التقولب والتشكيل:molding and formulization

يجيء فعل القلب بمعنى القولبة وسأستخدم هذا المعنى كثيراً في المتن للتعبير عن شكل التربية والتفكير. ولا تتم عملية القلب الثقافي إلاَّ في وجود (القوالب الجاهزة) التي تصاغ فيها المشاعر والدلالات التي نأخذها للأشياء ونحدد مسارها في هذا الإطار. وأغلب الظن أنَّ اللغة المؤرخة ترتبط بشكل أو بآخر بهذا المعنى. فالألفاظ في العربية ليست حوامل دلالات فقط، بل تطبع ببلاغتها، بفصاحتها الآثار التي تتركها. وهي لا تتركها مهملةً من الشكل واللون، بل تشكلها وتلونها في السياقات المختلفة. ومن هنا فالمفاهيم المحدودة بحدود التصور والتفكير مازالت طابعة لمعاني العبارات.

ودلالة (القُدور الفخارية) من جهة أخرى واضحة المادة حيث(الطين، الصلصال)، وهما مادتان مرتبطتان بفعل الخلق الإلهي والإنساني لأدوات الحياة. أيضاً الدلالة واضحة الوظيفة (التقنين، التهذيب، التشكيل). وقد يقول قائل: إنتظر قليلاً هناك شيءٌ مفاجيء آخر: أأنت قلتَّ الخلقَ الإلهي؟! طبعاً فذلك معناه أن الثقافة " تنسخ " وجودَ الإله وأثرَه في تحويل الوعي، المشاعر، الإحساس، الجسد إلى عمليات تفريخ للمعطيات والدلالات الخاصة بها[1].

وبالتالي فالثقافة العربية تتعامل (وفقاً لفكرة الخلق) مع الطفل بوصفه: قِدْراً لا طاقة، وعاءً لا محتوى، صورة لا فعلاً، إنه محض قِدْر من فخار بنتظر الإنكفاء!! والعمليات التربوية والثقافية التي تُفرض بها أُطر التشكيل أشبهُ بالنار كمادة ثالثة لتحويل الطين إلى صلصال. أما الفاعلون الذكوريون، الرجال، الآباء بوصفهم أنماطاً للهيمنة الإجتماعية، فيحاولون دمغه، بصمَهُ بحرْفية القوالبِ والتقاليدِ السلطوية[2].

وجدير بالملاحظة في هذا المجال أنَّ الطفل يعودُ (عندما يشب على الطوق) ليرجمنا من جديد بالعبارات والألفاظ التي نكررها ولم نُولها عنايةً، ألا يكرر الأطفالُ الكلمات نفسَها التي نلوكها لهم ؟! ألم نقُل لهم بذلك كونوا نُسخاً ثفافية حياتيةً مما ألفينا عليه آباءنا؟! ألم نطلب منهم ضمناً أنْ يعيشوا في عالم اللغة المشبع بالتسلط والقهر وهو كل ما يمتلكونه كصغار الآن؟

والغريب أنْ الواقع الإجتماعي يظل يردد هذا المعنى في العبارة الشعبية الجارية على ألسنتنا أيضاً: " من شابَه أبَاه فما ظلَم "، بينما ذلك القول بمعايير المستقبل هو جريمة ما بعدها جريمة مع سبق الإصرار والترصد. فهذا الكائن الافتراضي (الذي يمتلك المستقبل كل المستقبل بينما نغرق نحن في الماضي) إنما حُددّت إقامته ثقافياً في لغة سلبيةٍ، في خطابات العنف والكراهية. ومقولتا الأبوة والأمومة يشكلان معنى الحياة وآلية عملها بواسطة تلك اللغة على الأصالة[3].

هناك تعبئة للكائن الإفتراضي بالقيم كما نُعبِّئ القِدْرَ بالماء أو الرمال أو الهواء، وإلاَّ فإنه سيُترك للفراغ متلاعباً به، ولا ينتج إلاَّ صوتَ الصفير.

القِدْرُ إطار سلبي هش لتلقي المحتوى، وكم كان فعلُ التعبئة واسعَ الإنتشار بين مفردات الممارسة السياسية والإجتماعية (مثل: تعبئة عسكرية، تعبئة سياسية، حملة توعية، حشد جمعي).

لا توجد إرادةٌ حرة للطفلِ، نفي أية إمكانية للطفل مثلما لا توجد إرادة للقِدْرِ، هما أداتان دون الإعتراف بكيانهما.

القِدْرُ قابلٌ للكسر، للتحطيم، ويفترض السياق أنه في حالة عدم الاستجابة للقلب الثقافي، لابد أن يتحطم القِدْر. ولذلك كثيراً ما يقال للأب من الناس في سياق تربوي إزاء تأديب إبنته: " إكسر للبنت ضلعاً يظهر (ينمو) لها ضلعان"!! وهو القول العنيف الذي يردده المجتمع لا الأفراد فقط.

العنفُ أساسُ عملية القَلْب الثقافي، فلم يكن مطروحاً ما إذا كان الطفل متقبلاً لهذا العمل من عدمه، هو في كل الأوقات سيكون مكسوراً، مشروخاً، مهشماً بمعنى مخالف للنقطة الأولى.

ذكر "الفم" يستحضر معه وجودَ اللغة، الفمْ موضع حسي لنطق اللغة، واللغة هي اللسان الرمزي، وهي إشارة بالمثل إلى ضرورة توظيف الخطاب الثقافي ضمن عملية القلب.

يعبر الفم عن الرغبة في الإشباع، سواء أكان بالطعام، أم الرضاعة بالنسبة للطفل، أم بالخيال بالنسبة للكائن الإفتراضي. وهو رمز ثقافي يشير إلى ملء الرغبة بمعطى اجتماعي، بل قد يتم إغلاق الفم تماماً بمقابلته على الأرض كي تصبح النتيجةُ هي عملية " المشابهة " للأم. وتوجد الأم هنا كأيقونة إجتماعية مثلما أنَّ الأرض أيقونه لاهوتية طبيعية.

لا نجانبَ الصواب إذا قلنا إنَّ جذر القِدْرَ قريب الصلة بالقَدَّر، أي كانها يقول إن عملية القلْب الثقافي قدَّر محتوم بمنزلة حتمية"الفاعل المجهول"القائم بها. والمجهول يفيد التعدد في الفاعل، ويصح ذلك العمل لأفراد المجتمع كل المجتمع. فالثقافة العربيةُ بهذا الخطاب تسندُ لأي فاعل دورَ النائبِ عنها لتنفيذ عملية القلب، وسواء أكان أحداً قريباً أم بعيداً، مرتبطاً بالموضوع أم غير مرتبط، فإنه يأخذ موقع الثقافة السائدة لتنفيذ المهمة. ويتضح هذا الدور أكثر في الخطاب الديني فكل جماعة دينية كانت ومازالت تتحدث بالإنابة عن (الأصلِ) أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، تتصرف معتقدةً أنها بمفردها" الفرقة الوحيدة الناجية ".

حتى لا يكون القِدْرُ افتراضياً انحرافياً، مفتوحاً إلى الأعلى، كان لابد من قلبه إلى الأسفل، أي إلى الأرض بكل رمزيتها. وليس هذا بعيداً عن عبارة شائعة أخرى: " في كل حياتها لا تخرج المرأةُ من بيت أبيها إلاَّ مرتين فقط، مرةً إلى بيتِ زوجها، والأخرى إلى قبرِّها ".

والمثلان (مثلُ القِدْرة ومثل خروج المرأة) خطابان ثقافيان يرسمان مسارات الأنثى (طفلة وشابة وعجوزاً ثم جثة) في المجتمع العربي: مسار الأب (هيمنة الثقافة، غلبة الحقائق الإجتماعية الراسخة)، ومسار التعبئة (قلب القِدرة، أقنعة القارورة الأنثوية)، ومسار الزوج (المتمم لعملية القلب، آليته ونتاجه وعلاقاته)، ومسار القبر(درء الفضيحة، غلق القِدْرةِ تماماً)، وأخيراً مسار موت اللغة (دفنُ العورة كعلامةٍ ومعنى، كتم الصوت والإغواء). وبالتالي لن يفلت أثرُ الزواجِ ونتاجه، أي الأطفال، من جميع آليات القلب العنيفة بمعانيها السابقة.

 

د. سامي عبد العال

........................

[1] - تنطوي الثقافة على بعد خَلْقِي بالفعل، لأنها تنمط الخيال وتحدد نحت الجسد تغطيته وتهندس المعتقدات. فإذا كان الإله قد خلق الطبيعة والحياة، فإن الثقافة تدمجهما في إطار تحولات دلالية لأهداف الإنسان وسلوكه. وبذلك تتعامل الثقافة مع تلك التحولات على إنها عملية فنية. لهذا نطلق على الإبداع الفني (خلقاً فنياً). وهذه مماثلة تظل سارية المفعول تجاه  أفق الكائنات التي تعيش عبر المجال الثقافي. ففي الثقافة كما يقول الناقد كمال أبو ديب" ثمة عمليات وآليات بواسطتها يحوّل الإنسان موضوعات الرغبة وصيغ التنظيم الطبيعي إلى فن واستراتيجيةٍ. وفي هذا السياق تعد الأبنية التصورية والعقلية المسؤولة عن توليد هذه العمليات والتقنيات والنتاجات جزءاً من الثقافة كذلك ".

Kamal Abu-Deeb, The Post Modernism, As a Radical cultural critique, with special reference to Arabic culture, Thaqafat(English side: Texts in English), A Journal for the Arts and Cultural studies, Published by the College of arts, University of Bahrain, Number: 10, Spring 2004. P.249.

والثقافة كما يبدو عملية صهر للغرائز والإنطباعات والعلامات الطبيعية، صهر لإعادة خلقها في شكل من القيمة والدلالة. وبذلك فإن الخلق هو فاعلية ثقافية .cultural activity بهذا المعنى، فإنَّ الوسائل والمحتوى والإجراءات والعملية الخاصة بالتحويل transformation هي ذاتها أيضاً فاعليات ثقافية. وليس أبلغ من قدرة الثقافة على إنضاج وتطوير الأشياء المادية إلى أشياء إنسانية من أنَّ الحالات والأفعال  والإحساسات الطبيعية يتم تحويلها إلى قيم أخلاقية، وهي بدورها التي تتطور إلى أنساق للقيم systems of values إذ تعاير وتقيم السلوك البشري ونمط العيش(  Ibid, P250.).

[2] -  طرحت الثقافة العربية معاني الطفولة عبر القوالب السلوكية والذهنية في تاريخها، وتلقائياً يتجدد  المعنى مع متعلقات الطفل، المرأة،  الأسرة، القبيلة ومع الاعتناء بقضاياها. فاللغة والمعجم والخطاب بطرحها للمعاني إنما لا تغمض العين عن أطياف القوالب الجاهزة والمحتملة. لأن  القوالب السلوكية تضمن وجودها علي التوالي بحكم أوضاع التربية. بل يعمل المعنى على الإتيان بالقالب إن لم يحل بديلاً عنه أو جزءاً منه على الأقل. القالب يتخفف من الحدث الأول، يتخفف من البصمة المحفورة في تضاعيفة ليأخذ صعوده الدلالي ضمن العبارا المتداولة.لذلك تأتي  نفس المعاني بمصاحبة  التشبيهات في الخطابات الأدبية  والحياتية حين تحتفي بالميلاد والحياة، والحب، والطبيعة. ولكن مع ذلك تحمل ذات المعاني طاقة على تحطيم القوالب، فالطفل تربوياً  عبارة عن مفهوم المستقبل وبالتالي يجد مكانه في المعجم كموضوع لنمط العيش السائد، للذائقة الجمالية المسيطرة وللخيال الزمني المطروح، وفي نفس الوقت يتم الإعتراف بأن الطفل بذرة غضة، بنان ناعم لم يتشكل بعد، برعم قابل للنمو، جذر رقيق لين وطري. والوتيرتان(التنميط والمجهول) يكشفان عن بعضهما في شكل دراماتيكي لغوي. ويظهر أن مساحة الخيال واللعب في جذر الطفولة المعجمي مساحة كبيرة، وهي غير محكومة بأطر، بل متجدد ة وقابلة لعدة  تشكيلات شعرية، مثل الجمال الأنثوي، الجمال الطبيعي، وصف الحيوانات و الفخر بالقبيلة.

جاء في لسان العرب لابن منظور بصدد الجذر المبدئي طفل "الطِّفْلُ: البَنان الرَّخْص. المحكم: الطَّفْل، بالفتح، الرَّخْص الناعم والأُنثى طَفْلة"(ابن منظور، لسان العرب، الجزء الثاني، تحقيق نخبة من الأساتذة، دار المعارف القاهرة، د. ت، ص 2681).  هكذا يتخطط معنى الطفل من الأشياء دالاً على الأصبع أو الأنمل الناعم، بالتحديد طرف الأصبع الغض. وهو ما هو إذ يعبر عن  الهشاشة والمسيرة المحتملة للنمو. ألا يستطيع أن يكون بناناً قوياً؟! بالتأكيد لكن حتى يكون بناناً قوياً يحتوي  طرف الأصبع على ثلاث علامات. علامات لو حللناها لكانت مهمة في سياق الطفولة على الرغم من أنها لا تشير إليها عيناً.الأولى علامة البصمة، فالأصبع يحمل هوية الشخص. والبصمة لها استعمالات إجتماعية سياسية في ترسيخ الحقائق ودعم القوانين وتأكيد الحقوق وتستخدم كآلية للفرز الجنائي. والطفل كبنان سيستمر مستقبله في نفس الطريق متمتعاً بذات الوجود والتراتب والتخطيط، فالبصمة " فيزياء سياسية " لإثبات الهوية الفردية وإكتشاف المجهول. وهي في المجتمع العربي تحتل مكانة مهمة لأنها تنقل  معنى التميز الطبيعي لا الفكري. وهو ما يعنى أن البصمة دال طبيعي جسدي له الحقيقة عنما تغيب الحقوق وتختفي المواطنة التي تعتمد على بصمة الحقوق والحريات. الثانية: علامة الإشارة، فالأصبع حين يقوى سيكون أداة إشارة إلى الإتجاهات والأشياء والتحذير والقبول والرفض.

إن لغة الأصابع تكمل حركة الروح والجس والفكر بشكل عام . مدلول ذلك أن الأصابع التي تشير تستند إلى جسم الثقافة لا جسم الفرد، إذن الأصبع بنان ثقافي حين يشير وحين يشار به إلى أيقوناتها. فعلى سبيل المثال يقال للرجل المهم إنه شخص يشار إليه بالبنان. معنى هذا أن الطفل سيظل مؤشراً إجتماعياً لحقائق أخرى في الحياة. الثالثة: علامة القوة، فالأصابع أعضاء في قبضة اليد وانبساطها. وفي حالة انبساط الأصابع تستعمل للسلام  بالأيدي أو لتشبيك الأطراف لتدل على وضع معين وتستخم للتحذير. وفي حالة انقباضها تمثل القوة والبطش. ويقال في العربية الحاكم الفلاني يحكم البلا بقبضة من حديد، ويُضرب بها السطح للدلالة على ايقاع القوة، الغلبة، السيطرة على من يخالف. والأطفال كبنان هم في قبضة المجتمع لا يتركهم إنما يأخذ بهم في طريق القبض لا البسط، وحينما يكون شخص قابضاً أصابعه فإنه يقبض عادة على شيء ثمين، والأطفال يقبض المجتمع بهم على موروثاته وعلى مستقبله.

لذلك قال أَبو الهيثم كما ورد بلسان العرب " الصَّبيُّ يُدْعى طِفْلاً حين يسقط من بطن أُمه إِلى أَن يَحتلم" (ابن منظور، لسان العرب، الجزء الثاني، ص2682). والسؤال أين يسقط؟! إذا كان المقصود الخروج إلى الحياة، فهذا المعنى يشير إلى الميلاد وتحصيل حاصل. غير أن السقوط يعنى الميلاد الثقافي لأن الطفل سيسقط بالفعل في قبضة المجتمع، في أتون الثقافة. والسقوط يذكرنا بسقوط آدم وحواء من الجنة، من النعيم قبل قانون الأرض التي سكناها. والطفل قبل السقوط كان في الجنة بالفعل، كان في الرحم (الأمومي) البيولوجي، ثم هبط إلى الرحم الثقافي، هبط إلى الأرض. والأرض هي التي ستتلقى فم القِدْرة لكي لا تخرج الطفلة إلا إلى أمها.

[3]- الطفل يري في وجود الأب والأم معاني القوة والسلطة والحقيقة، ببساطة هما  مركز الحياة لا غيرها، ويرتبط رسم الطريق الذي سيسلكه من أول الأمور العادية حتى إختياراته في الحياة بهذه المعاني، لهذا نقول في اللهجة المصرية"من له ظهر لا يُضرَّب على بطنه"، والمقصود بهذا القول من كانت علاقاته الإجتماعية قوية ماكان لأحد أن يمتد إليه بسوء ، وماكانت لأدواره في المجتمع أن تعطل بل ستشق له المسالك سهلة وبسيطة  بموجب عيشه في كنف القوة الأبويهوإتساعها في المجتمع.ورأى فرويد في الأهل من وجهة نظر الأطفال مصدراً لكل دلالات السلطة المستندين إليها، بل هم مصدر الاعتقادات التي تشكل نظامهم الفكري، حتى أنه أكد على ضرورة تلمس درجات  التفكير بطاً بما يحصله الأطفال من الروابط الأبوية والأمومية.

Sigmund Freud, Family Romance (1909), Collected Papers, London, the Hogarth press 1950, PP 69-74.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم