صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: نقاش فلسفي حول المصير بعد الموت

حاتم حميد محسنالانسان هو الحيوان الوحيد على الارض الذي يدرك انه سوف يموت في يوم ما. هذا الادراك لا يميل ليكون نوعا من المعرفة التي يُستمتع بها. على مر التاريخ سعى الناس نحو حياة خالدة، ومؤخرا علّقوا هذا الأمل على العلوم. ولكن المألوف أكثر هو الأمل بان الحياة سوف تستمر بعد الموت بدلا من الأمل بإمكانية تأجيل الموت الى الأبد.

يذكر البروفيسو (ستيف ستيوارت وليم) (1) ان الايمان بالحياة بعد الموت يأتي بأشكال وأحجام مختلفة. نحن نستطيع التمييز، مثلا، بين الرؤى التي تستلزم وجود مستمر في جسم مادي، وتلك التي ترى ان البقاء بعد الموت يحدث خارج الجسد. الفئة الاولى تتضمن التناسخ، والعقيدة اليهودية- المسيحية والاسلامية بان الله سوف يبعث أجسادنا في وقت ما من المستقبل. البقاء بعد الموت خارج الجسم المادي جرى تصوره بأشكال مختلفة كبقاء في جسم غير مادي (روح الميت)، او البقاء كذهن بلا جسد. هذه التصورات للحياة بعد الموت تشترك بحقيقة ان الشخص الفرد سيستمر في الحياة بعد الموت بمعنى ما. عقيدة اخرى هي في البقاء غير الشخصي. بعض تيارات البوذية، مثلا، تؤمن ان الذهن الفردي يتحد مرة اخرى في ذهن عالمي. في مقابل جميع هذه الرؤى هناك العقيدة باننا مع الموت لم يعد لنا وجود في أي معنى.

الحجج المؤيدة لنظرية الحياة بعد الموت

السؤال حول ما اذا كنا سنبقى بعد الموت هو من أكبر الاسئلة في حياة الانسان. سنستكشف هنا بعض الحجج والبراهين مع وضد البقاء. سنبدأ بالحجج المدافعة عن الحياة بعد الموت.

الدليل التجريبي عن الحياة بعد الموت

بعض الأدلة الأكثر إقناعا عن الحياة بعد الموت يأتي من العديد من القصص والتقارير عن الظواهر الخارقة. من بين هذه الخوارق هي تجارب الخروج من الجسد، وتجارب الاقتراب من الموت، ورؤية الأشباح، ووسائط الاتصال مع الميت، وذكريات الحياة الماضية. مثل هذه الحوادث، اذا كانت كما تبدو، سوف تشكل دليلا ميدانيا للايمان باننا سنعيش بعد الموت (رغم انها لا تبيّن اننا بالضرورة سنعيش بعد الموت الى الأبد). لذا، ما مدى صحة دليل ظاهرة الخوارق؟

على عكس الانطباع الذي تعكسه احيانا الميديا الشعبية، فان الدليل ليس قويا. الكثير منه يمكن توضيحه بسهولة في عبارات طبيعية naturalistic terms. فمثلا، رغم عدم وجود اساس للشك بان الناس احيانا يمتلكون تجارب خارج الجسد او تجارب الاقتراب من الموت، لكن هذه التجارب يمكن توضيحها بعبارات فسيولوجية وسايكولوجية. ونفس الشيء، ذكريات الحياة الماضية ربما تكون ذكريات زائفة، ومشاهد الأشباح قد تكون تفسيرات سيئة لدوافع غامضة. هذه الإمكانات لا تؤكد بذاتها ان التوضيحات الما فوق طبيعية مكتملة التبرير. اينما وُجد توضيح آخر معقول لجزء من الدليل، عندئذ لابد من الاعتراف بان ذلك الدليل لا يستطيع تبرير عقيدة قوية في التفسير المافوق طبيعي. كذلك، بعض الأدلة تُضعف كثيرا من مصداقية التوضيحات الخارقة. فمثلا، الوسائط التي كانت قادرة على الاتصال بالناس الذين لا معرفة لها بهم، كانت وسائط قصصية او انها لاتزال حية.

ولكن ليس كل ادّعاء بحدوث الخوارق يمكن توضيحه بعبارات طبيعية. نحن جميعنا سمع قصصا، مثلا، عن أقارب ميتين يعودون لنا، ينقلون معلومات لا يمكن الحصول عليها بطرق اخرى. اذا كانت مثل هذه الأشياء تحدث حقا، فان التوضيحات غير الخارقة للطبيعة ستكون غير معقولة. اذا كان لابد من إثارة الشك، فان الدليل على مثل هذه الأحداث الخارقة المؤكدة هو دائما ضعيف او مبني على أقاويل قصصية. التقارير القصصية هي غير موثوقة، وعندما تُتبع الطرق العلمية الموثوقة، فان الظواهر الخارقة تميل الى الزوال. لذا فان الموقف هو كالتالي: اينما وُجد هناك دليل جيد للحدوث (مثلا، تجارب الاقتراب من الموت، وتجارب الخروج من الجسد)، فان ذلك الحدوث يمكن بسهولة ان يُعطى توضيحا طبيعيا، ومتى ما كان غير ممكن اعطاء توضيح طبيعي للحدوث، فسيكون هناك ميل ليكون دليلا غير جيد لذلك الحدوث – بما يشير انه حقا لم يحدث ابدا. هذا هو بالضبط الشكل الذي نتوقعه لو لم تكن هناك حقيقة للظواهر الخارقة. باختصار، لا وجود لدليل تجريبي جيد للحياة بعد الموت.

حفظ الطاقة conservation of Energy

ان البحث عن دليل تجريبي ليس هو المحاولة الوحيدة لمنح الايمان بالحياة بعد الموت احتراما علميا. البعض يجادل ان المبدأ العلمي لحفظ الطاقة يدعم فكرة ان الذهن ينجو من الموت الجسدي. طبقا لهذا المبدأ، الطاقة لايمكن ابدا ان تقفز فجأة الى الوجود او تتوقف عن الوجود، انها ببساطة تتغير في الشكل. البعض يجادل انه يتبع هذا المبدأ ان الذهن او الوعي لايمكنه الخروج من الوجود او يختفي عند الموت. الانتقاد الأساسي لهذا الجدال هو ان مبدأ حفظ الطاقة ينطبق فقط على الطاقة الفيزيائية. وهكذا، اذا نُظر الى الذهن باعتباره غير مادي او طاقة روحانية، فلا سبب هنا للاعتقاد بتطبيق مبدأ حفظ الطاقة . كذلك، حتى لو كان الذهن شكلا من الطاقة الفيزيائية، فان المبدأ سوف لن يضمن البقاء بعد الموت. ومع ان الطاقة لن تختفي من الوجود ولا تتوقف عنه، لكنها بالفعل تتغير في الشكل. وهكذا، اذا كان الذهن طاقة فيزيائية، فهو بالنهاية سوف يتحول الى النقطة التي فيها لم نعد نستطيع القول ان الذهن الأصلي لايزال موجودا.

ولكن ربما اولئك الذين يستخدمون هذه الحجة حقا في ذهنهم مبدأ ذو عمومية اكثر من مجرد حفظ الطاقة الفيزيائية، مثل الادّعاء البسيط بان لاشيء يُخلق ولاشيء يتحطم. هذا المبدأ فيه القليل من المصداقية العلمية، ولكن ربما هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الحجة. ولكن مع افتراض انه صحيح، وهو عرضة للنقاش، هل سيضمن بقاء الذهن بعد الموت؟ بدايةً، المبدأ سوف لا ينطبق على الكينونات التراكمية – الاشياء المركبة من اشياء اخرى. الذرات المؤلفة لجسمنا، مثلا، سوف تستمر بالوجود بعد وفاتنا، لكن جسمنا ليس كذلك. بعض الفلاسفة البوذيين اعتقدوا ان الذهن هو تراكم من "ذرات ذهنية" – اذا كان الامر هكذا، فان انحلال الذهن سوف لن يتعارض مع المقدمة بان لا شيء يُخلق او يتحطم، اكثر من حقيقة ان شكلا من الرمال لم يعد له وجود عندما تذروه الرياح. المقدمة تضمن فقط البقاء لو استطعنا تأسيس ان الذهن منفرد، لايتقسم، ولا يتحطم. الدليل المتوفر لا يدعم هذا الموقف. ممارسات البحث السريري في سايكولوجيا الأعصاب تبيّن انه عندما يتضرر جزء من الدماغ، فان جزء من الذهن يتضرر. هذا يلقي ظلال من الشك على امكانية ان الذهن هو اما لايتجزا او لا يتحطم.

حجج من سلطة ما (مصدر خارجي)

ان محاولة ربط الايمان بالحياة بعد الموت بسلطة العلوم لم تكن ناجحة. هناك سلطات اخرى يمكن ان يلجأ اليها المؤمنون بالحياة بعد الموت. الحجة الشائعة تثق في سلطة الأكثرية. وهي حجة عادة يُشار اليها في الدفاع عن فرضية البقاء بعد الموت التي فيها آمن غالبية الناس . اولا، يجب التأكيد على ان الناس لم يؤمنوا كلهم بنفس أشكال الحياة بعد الموت، وهو الأمر الذي من شأنه ان يُضعف الدفاع عن الحجة. غير ان هناك جواب أكثر قوة. كما لاحظ بتراند رسل:" ان الايمان برأي على نطاق واسع هو ليس دليلا على ان الرأي ليس سخيفا تماما. في الحقيقة، بالنظر الى رؤية الأكثرية من البشر، فان عقيدة منتشرة على نطاق واسع يُحتمل ان تكون سخيفة اكثر مما تكون معقولة ".

اتجاه آخر، اذاً، سيكون إعتماد سلطة الناس الحكماء والأنبياء في الماضي، الذين اعتقد العديد منهم بالحياة بعد الموت. ولكن كيف نعرف ان هؤلاء الناس هم حكماء؟ ربما اذا اعتقدنا ان تعاليمهم كانت زائفة كليا، فسوف لن نعتبرهم حكماء. اعتبارهم حكماء يبيّن لنا اننا سلفا نعتقد ان تعاليمهم صحيحة. اذا اعتقدنا انهم حكماء لأنهم يؤمنون بعقائد معينة، عندئذ لا نستطيع اعتبار حكمتهم دليلا على عقائدهم. الجدال المنطلق من سلطة الناس الحكماء لايدعم الايمان بالحياة بعد الموت، انه فقط يكشف العقائد الموجودة سلفا لأولئك الذين يستخدمون الجدال.

الحجة من العدالة

جدال مختلف جدا حول الحياة بعد الموت يبدأ من ملاحظة ان الحياة لو كانت تنتهي بعد الموت، فسوف لن تكون هناك عدالة. في هذا العالم، نرى البريء يعاني، والخيّر عادة لا يستلم مكافأة بينما السيء يذهب بدون عقوبة. اذا لم يتم ضبط هذا اللاتوازن الأخلاقي فان الكون سوف لن يكون عقلانيا. سيكون غير عادل، بلا معنى، وسخيف. لذلك، فان لاعدالة الحياة في هذا العالم تشير الى ان الحياة يجب ان تستمر بعد الموت، لأن استمرار الحياة هو فقط منْ سيعيد التوازن لميزان العدالة.

هذه الحجة لها عدة مضامين عادة ما يتجاهلها الناس. اولا، انها لا تحدد الشكل الذي يتخذه البقاء بعد الموت. انها حجة جيدة بنفس مقدار نظرية (الفعل والتقمص) الهندوسية. وهكذا، فان هذه الحجة وحدها لاتبرر أي مفاضلة بين هاتين الرؤيتين. ثانيا، الحجة سوف تدعم البقاء بعد الموت لكن ليس بالضرورة الخلود. نظراً الى ان كل واحدة من حياتنا محدودة، فهناك فقط زمن محدود سيكون مطلوبا لإحداث التوازن في ميزان العدالة.

ولكن هل الحجة تؤسس بقاءً مؤقتا؟ عند تجريد الحجة الى شكلها الاساسي، فانها تتألف من مقدمة (اذا كانت الحياة تنتهي عند الموت، عندئذ فان الحياة سوف لن تكون عادلة) واستنتاج (الحياة لا تنتهي عند الموت). كما يتضح، هذه ليست حجة صالحة الإستدلال، لأن الاستنتاج لايتبع مباشرة من المقدمة. لكي تكون الحجة صالحة، يجب ان نضمّن مقدمة وسيطة. يمكن قراءة الحجة بالكامل كالتالي:

اذا كانت الحياة تنتهي بالموت، عندئذ سوف لن تكون الحياة عادلة.

الحياة عادلة. ولذلك، لاتنتهي الحياة عند الموت.

الحجة الآن صالحة. المقدمة الجديدة هي افتراض ضمني لم يُصرح به سابقا، ولكن الحجة تعتمد عليه. مع ذلك، كوننا جعلنا كامل الحجة واضحة، فان هذه المقدمة هي التي تبدو الأكثر عرضة للتساؤل. انه من غير الواضح ان الحياة عادلة، ولاشيء هناك غير عقلاني او متناقض حول الكون الذي هو غيرعادل بمعايير الانسان. ما لم يكن لدينا سبب جيد للاعتقاد بان الكون عادل، فان حجة العدالة ستفشل.

حجة المؤمن Theistic Argument

يعتقد البعض ان هناك سبب جيد للإعتقاد ان الكون عادل. هذه العقيدة تعتمد على وجود الله. طبقا للجدال الإيماني عن الحياة بعد الموت، فان اله خيّر سيكون قادرا على خلق أي كون يريده. وهكذا، اذا كان هناك اله خيّر وقادر على كل شيء، فهو لا يريد كونا غير عادل . وهكذا، اذا كان هناك اله كلي القدرة، فان الحياة ستكون عادلة ومنصفة وان حجة العدالة ستنجح اذاً، تؤسس للحياة بعد الموت كنتيجة ضرورية لوجود الله. لكن ليس كل شخص مقتنعا ان وجود الله يعني بالضرورة ان الحياة عادلة بمعاييرنا، ولذلك اننا سنبقى بعد الموت. ولكن مرة اخرى لأجل النقاش، دعنا نفترض ان الحياة بعد الموت نتيجة ضرورية لوجود الله. في تلك الحالة، الحجة في الله ايضا تكون حجة للحياة بعد الموت. (قبول هذه الرؤية تأتي على حساب المؤمن: نتيجة طبيعية للرؤية بان الحجج ضد الحياة بعد الموت هي ايضا حجج ضد وجود الله). هناك عدة حجج تحاول إثبات وجود الله. غالبية المفكرين اليوم يعتبرون هذه الحجج تفشل في تحقيق هدفها. ولكن حتى مع افتراض انها تؤسس لوجود الله، فلابد قبل ان نأخذ هذا كبرهان على الحياة بعد الموت، يجب ان نسال: هل هي تؤسس لوجود الله القدير الخيّر؟ لأنه فقط اذا كان الله لديه هذه الصفات سيكون لدينا تأكيد بعدالة الكون، ومن ثم استمرار الحياة بعد الموت.

ان غالبية الحجج الجيدة عن الله تؤسس بعض الصفات للاله، ولكن ليس الصفات التي تجعل الحياة بعد الموت ضرورة منطقية. فمثلا، الجدال من المصمم الذكي، اذا كان سليما، يؤسس لوجود المصمم، ولكن لايبيّن ان هذا المصمم كلي القدرة او خيّر لا متناهي. ونفس الشيء، جدال السبب الاول يبيّن، وجوب ان يكون هناك سببا اول، ولكن لا يقول أي شيء عن الخصائص الاخرى بحوزته . في تقييم امكانية الحياة بعد الموت، نحن لا نحتاج للنظر في ما اذا كانت هذه الحجج سليمة. وحتى لو كانت كذلك، فهي لن تؤسس للحياة بعد الموت. هناك حجج اخرى قد يراها المؤمنون ملائمة. لكن هذا ليس المكان الملائم للتعامل مع سؤال وجود الله. غير ان ذلك لا يعني اننا وصلنا طريقا مسدودا، او ان سؤال الحياة بعد الموت يجب ان يبقى مفتوحا الى ان نحقّق في كل الحجج حول الله. بالعكس، نحن نستطيع الاستمرار في التحقيق في قضية الحياة بعد الموت، لأننا بعمل كهذا نستطيع ان نبتعد عن الحجة الايمانية من اتجاه آخر. كما لاحظنا سابقا، لو قبلنا الرؤية بان الحجة في وجود الله هي ايضا حجة للحياة بعد الموت، يجب ايضا ان نقبل بان الحجج ضد البقاء هي ايضا حجج ضد وجود الله. مثل هذه الحجج، بمقدار ما هي سليمة، ستُضعف أكثر حجة المؤمن. هذه الحجج سننظر بها الآن .

الموقف المضاد للحياة بعد الموت

هناك عدد من الحجج ضد الحياة بعد الموت. سننظر هنا فقط بالحجج الأكثر اهمية.

التفكير الرغبي Wishful Thinking

احيانا يُقال ان السبب الوحيد الذي يجعل الناس يؤمنون بالحياة بعد الموت هو انهم يجدون الفكرة مريحة. الايمان بالبقاء يزيل او على الاقل يخفف من الخوف من الموت والانقراض، والشعور بالحزن عندما يموت حبيب، او عند الإحساس ان للحياة أمد محدود والذي يجعلها بلا معنى. هذه الحجة من التفكير الرغبي ايضا تتبنّى الأمل بان ميزان العدالة سيتوازن. ان الراحة التي يوفرها هذا الايمان يمكن ان يوضح تماما سبب ايمان الناس به. لاتوجد هناك أسباب اخرى للايمان ولهذا نحن نستطيع الافتراض ان الإيمان زائف.

تعرضت هذه الحجة الى نقد مباشر وهو ان الايمان بالحياة بعد الموت ليس دائما مريح: الملايين عاشوا في خوف من الجحيم والعذاب الأبدي. لكن هذا النقد هو في الحقيقة يجانب القضية. من الممكن اختراع دوافع مخفية او سرّية لتوضيح سبب ايمان الناس بأي عقيدة.

اضافة الى ذلك، قد يستخدم المؤمنون بالحياة بعد الموت بالضبط نفس الحجة ضد غير المؤمنين. بعض الناس ربما يرحبون بفكرة الإنقراض الذاتي عند الموت، لأنه يوعد بإنهاء البؤس وعدم القناعة في الحياة. بعض من غير المؤمنين اقترحوا ان الحياة بدون جسد ستكون كسولة وبلا معنى، نيتشة رأى ان الايمان بحياة اخرى بعد الموت يقلل من قيمة هذه الحياة. على هذه الأساس، قد يُقال ان الايمان بالانقراض عند الموت هو مجرد تفكير رغبي. لهذا فان حجة التفكير الرغبي يمكن ان تهاجم كلا وجهتي النظر. وبالنتيجة، لا تعطي أفضلية لأي جانب من النقاش، ويجب ان نتجاهلها كليا. بالطبع، اذا كانت لدينا اسباب اخرى للاعتقاد برؤية معينة زائفة، عندئذ نحن ربما نتأمل في سبب إيمان الناس بهذه الرؤية رغم زيفها. مثل هذه التأملات لايمكن استعمالها لجدال رؤية هي زائفة في المقام الاول.

اعتماد الذهن على الدماغ

ننتقل الآن من حجة ضعيفة الى ربما أقوى حجة ضد الحياة بعد الموت وهي الادّعاء بأن الذهن يعتمد على الدماغ. اذا أمكن تأسيس ان الأذهان لايمكن ان توجد بدون أدمغة، فان هذا سوف يُضعف ليس فقط امكانية البقاء خارج الجسد، وانما معظم نظريات البقاء الاخرى . فمثلا، بعض المؤمنين في البعث يؤمنون ان الذهن يستمر في الوجود بين لحظة الموت ولحظة بعث الاجساد من قبل الله. لكن هذا لن يكون ممكنا لأن الأذهان توجد فقط عندما تترافق مع أدمغة نشطة. ونفس الشيء، المؤمنون في التناسخ يؤمنون بالرؤية بان نفس الذهن الذي سكن جسدا معينا يأتي ليسكن جسدا آخر، لكن هذا سيتطلب وجودا مستمرا للذهن بدون وجود دماغ بين التناسخات. ان إمكانية البقاء اللاشخصي او العالمي للذهن سوف تُستبعد ايضا عبر إعتماد الذهن على الدماغ (ما لم نرغب بالادّعاء ان الكون المادي هو دماغ واحد كبير).

من الواضح، ان اعتماد الذهن على الدماغ سيكون مدمرا لفرضيات البقاء بعد الموت. لذا، ما هو الدليل مع وضد هذا الموقف؟ نحن نظرنا سلفا في الدليل ضده. الظواهر الخارقة مثل نشاطات الاشباح ووسائط الاتصال بالأموات، تقترح ان الأذهان توجد بدون أدمغة. وكما رأينا في الجدال، هذا الدليل هو ضعيف. كذلك، نحن يجب ان نقيّمه مقابل الدليل من علم الاعصاب الذي يشير الى استنتاج مضاد. وان هذا الدليل هو قوي وغزير و موثوق .

الافتراض المرشد لعلم الاعصاب هو انه لكل حالة ذهنية هناك حالة دماغ مطابقة. اساسا آلاف الدراسات بررت هذا الافتراض. علماء الاعصاب أظهروا، مثلا، انه عندما انت تنظر لشيء ما – حين تمتلك تجربة بصرية واعية – فان أجزاء معينة من دماغك تصبح اكثر نشاطا. وعندما تغلق عينيك وتتصور نفس المشهد البصري، فان نفس الأجزاء من دماغك تكون نشطة مرة اخرى. وعندما تحفز كهربائيا المناطق البصرية من الدماغ، هذا يخلق تجربة بصرية واعية. أيّ تحفيز لمناطق حسية اخرى يُنتج تجارب حسية اخرى. الاشياء الاخرى التي تؤثر على حالة الدماغ مثل المخدرات ايضا تؤثر على حالات الذهن. علماء الاعصاب يحققون تقدما عظيما باكتشاف المراكز العصبية للتصور والذاكرة والانتباه والتفكير والعواطف والحوافز، وجميع الظواهر السايكولوجية.

البعض قد يجادل ان هذا يبيّن فقط ان الفعالية الذهنية وفعالية الدماغ يسيران جنبا الى جنب في حياة الكائن البشري، وليس ان الأحداث الذهنية يمكن ان تحدث فقط بالتزامن مع الدماغ. جزء واحد من الدليل بالذات يجيب على هذا التحدي: عندما يتحطم جزء من الدماغ، فان جزء من الذهن يتحطم. بالتأكيد من المعقول الافتراض انه عندما يتحطم الدماغ كليا، كذلك ايضا يحصل في الذهن. ديفد هيوم لخص ذلك قبل عدة قرون عندما كتب " ان ضعف الجسد وضعف الذهن في مرحلة الطفولة هو بالضبط تناسبي، قوتهما في مرحلة الرجولة، اضطرابهما العاطفي في المرض، تآكلهما التدريجي في سن الشيخوخة. الخطوة الاخرى تبدو لا مفر منها، وهي انحلالهما العام في الموت".

البعث Resurrection

 ان إعتماد الذهن على الدماغ يستبعد كل من البقاء خارج الجسد، والبعث، والبقاء غير الشخصي. هناك، شكل واحد من الحياة بعد الموت لايتأثر باعتماد الذهن على الدماغ: بعث اجسادنا بواسطة الله. مرة اخرى، هذا ليس مكانا للذهاب للسؤال عن وجود الله. لكننا، نستطيع السؤال حول ما اذا كان، البعث حتى مع وجود الله ممكنا. اذا كان ذلك غير ممكن منطقيا عندئذ نحن نستطيع استبعاده، سواء كان من الله ام من غيره . نقد شهير لفكرة ان الله يبعث اجسادنا جرى توضيحه عبر مشكلة آكلي اللحوم . عندما آكل اللحوم يأكل شخصا اخر، فان مادة جسمه تندمج فيه. كيف يمكن لله ان يبعث كلا الجسمين في وقت واحد: جسم الشخص الآكل وجسم الشخص المأكول؟ المشكلة لا تنطبق فقط على آكلي اللحوم وضحاياهم. بل ان ذرات جسمنا اليوم ربما كانت في اجسام ناس آخرين في الماضي، وربما تكون ذرات في اجسام ناس آخرين في المستقبل. كيف يمكن ان نُبعث جميعنا؟ احد الاقتراحات هو ان الله سوف يعيد بناءنا من ذرات اخرى. ولكن بالتأكيد هذه الاجسام الجديدة ليست حقا اجسامنا ابدا، وانما ستكون نسخا . انت سوف تعتبر هذا كنسخة وليس حقا انت. سيكون دماغ اخر تقريبا مشابه لدماغك – وهكذا سيكون ذهن آخر، ليس بإمكانك الدخول اليه مباشرة. يبدو ان الصيغة المستنسخة للبعث لاتضمن البقاء بعد الموت اكثر من النسخة الأصلية.

استنتاج

يذكر الكاتب ستيف ان الناس يؤمنون بعقيدة معينة رغم زيفها لأنهم لايمتلكون سببا جيدا لرفضها. لذا سنحاول باختصار معرفة لماذا يؤمن الناس بهذه العقيدة. التفكير الرغبي وعوامل نفسية واجتماعية اخرى ربما توفر تفسيرا جزئيا. غير اننا، يجب ان لا نتجاهل تفسيرات واضحة اخرى مثل تلك التي تقول ان الناس يؤمنون بالبقاء بعد الموت لأنهم قيل لهم عندما كانوا صغارا انهم سيبقون، ومع تجارب الحياة اليومية نرى القليل مما يتعارض مع هذه الرؤية. وهناك عامل آخر ملائم، جذب القليل من الانتباه. هذا العامل يرتبط بحدود ما يُتصور. نحن لا نستطيع تصوّر العدمية، وهكذا لانستطيع تصوّر فناءنا الذاتي. وبالنتيجة، من الطبيعي لنا الاعتقاد ان أذهاننا تستمر بالوجود بعد الموت. وبصرف النظر عن مدى طبيعة هذا، يبدو هناك سبب ضعيف للاعتقاد بصحة هذا الاعتقاد.

 

حاتم حميد محسن

...............................

الهوامش

(1) كان استاذا في مدرسة علم النفس في جامعة Massey في نيوزيلاند، وحاليا يعمل كاستاذ علم النفس في جامعة نوتنكهام في ماليزيا، اهتمامه الاكاديمي الرئيسي هو في المضامين الفلسفية لعلم النفس التطوري. في عام 2010 صدر له كتاب (دارون، الله، ومعنى الحياة – كيف أحبطت نظرية التطور كل شيء كنت تعتقد انك تعرفه).

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم