صحيفة المثقف

جودت العاني: هو والنادلة وأمواج البحر!!

الأفكار تخرج من رأسه.. تحلق بعيداً، تأخذه الى اجواء اخرى خارج جدرانه الأربعة، حيث تظل تدور به لترسم له الاشياء كما يريد ان يراها، وهو شغوف في ان يراها تتحقق.. وحين يعود الى واقعيته، إلى جدرانه واشيائه التي تحيطه، تبدو تلك الصورة قد تبددت، وهي صورة لما يريد او يتمنى ان تكون وليس لما هو كائن.. وحكمة ” كونفوشيوس” تقول.. إحذر من ان تقع في فخ تمنياتك.. لأنها قد لا تكون واقعية. وثمة تساؤلا يرى نفسه مرغماً على الاجابةعليه : ماذا تريد؟ هل تريد ان تستمر الصورة الكائنة كما هي خاضعة لتراتيبية المكان والزمان، ومدفوعة بكمٍ هائل من الافكار والصور او بالاحرى هذه الحركة الدائبة في كليتها التي تظهره في حال ان لا خيار امامه إلا في مجاراتها، أم انه يريد ان يغير مجرى الافكار والصور، ليس بما يتعارض مع الحركة الكلية، إنما التفكير بالحركة وتغييرنمطيتها في محيطه ؟! انه يريد ان يكون سيد نفسه.. وهل يتم له ذلك بفعل تطوير ذهنه وعقله الواعي.. لقد اصبح منفصلاً عن دوافعه الغريزية.. واخذ يرى انه كلما ابتعد عن تلك الدوافع ازدادت دوافع الأثارة، وتراكم الطاقة والضغط النفسي.. امامه معادلة صعبة للغاية.. الانفصال عن الدوافع الغريزية يدفع به الى عالم الوعي الكامل بكينونته بعيداً عن عالم الاخرين الذين تحدث عنهم “جون بول سارتر” واعتبرهم الجحيم بعينه، وهو بدوره يدفعه الى رؤية الحياة في اعماقه وكأنها الواقع السري المثالي.. انها مقارنة صعبة، كيف يمكن للانسان ان يفقد اتصاله بقواه الداخلية او ينفصل عنها. واذا ما تم له ذلك، كيف له ان يعود الى تلك القوى لكي يلتأم حيث يصبح الخارج اقل ضرراً.. لأن اكتشاف طبيعة الدوافع الغريزية وحتميتها ينبغي ان تلازم عالم الوعي بالكينونة.. تلك هي المتلازمة التي لا انفصال عنها ابداً.. فمن غير الممكن استبعاد الدوافع الغريزية بدعوى السمو المطلق.. ومن غير الممكن استبعاد الوعي الذهني واتساعه على اساس انه فخ يشجع على استبعاد الغرائز التي قد تتحكم في الذهن حين تتحول الى قرارات.. ولا احد يضع الغرائز في المقام الاول إلا في عالم الحيوان.. والحيوان لا يدرك ان سلوكه غريزياً محضاً.. إلا أن الانسان ليس حيوان بالمطلق وليس انساني بالمطلق.. فهو يجمع، شاء أم أبى، بين الغريزة الحيوانية وبين الوعي بوجوده الانساني.. الأمر يقتصر على قدرة الوعي الانساني في الإرتقاء والتحكم بمفاتيح الغرائز على وفق الروادع ومحددات المحرمات والمقدسات التي يعززها المجتمع البشري.

دخل مقهى قريب تابع لمطعم هو في حقيقة الأمر كان بيتاً قديماً تم تحويره الى مقهى، فيما كان الى جانبه (موتيل) صغير ولكنه انيق جداً ينم كل ما فيه عن ذوق رفيع.. جاءت اليه النادله وهي ممشوقة هيفاء جميلة، واجمل ما فيها عينيها الواسعتان الصافيتان وشعرها الأحمر النبيذي المتروك الى الخلف كذيل حصان، وكانت ترتدي قميصاً كاكياً.. ذكرته حين اقبلت عليه لتسأله عن ما يطلب، بمقولة قرأها لـ(غوته).. زوجان من العيون تشعان سحراً رائعاً يخلق لدى الشاعر كلمات قد تخلق عالم أكثر جمالاً.. ثم اصغى لهذا الحس حين حدق في ورود القرنفل البنفسجية في أصيص على المنضدة في مدخل المقهى والتي تفوح منها رائحة رائعة تظل تفوح لتملأ المكان عبيقاً وشذى>

طلب قهوة وبعض من الحلوى.. وكان يحدق في عينيها اللتان تمتزج فيهما خضرة أوراق الشجيرة المطلة على باحة المقهى وزرقة السماء وهي تميل ببطئ نحو الشفق.. أدركتْ بحس الأنثى أنه يحاول اقتحامها.. أحست بشيء من الإنتعاش لكونه كان يشعرها بجمالها كما هي أنوثتها الطاغية التي يفوح منها العطر ومن حركتها إيقاع الموسيقى.. ومع ذلك، قطبت حاجبيها ولوحت لحرب ناعمة مفعمة بالغنج ولكنها غير معلنة، ثم توارت صوب الداخل.. عندها كان قلمه قد وجد طريقه سريعاً على غلاف مجموعة القصص القصيرة.. وما بين دقائق معدودات حتى وضع سيلاً من كلمات الشعر بايقاع الموسيقى الراقص احياناً، وهو لا يدري كيف تسربت تلك الكلمات وباتت على الورق:

غاضبة نادلتي

تروغ في امواجها

كأنها عاصفة مدمرة..

أرى بريقها، زفيرها

كأنها الرعود

في غياهب الشرود

مثل غيمة مزمجرة..

نادلتي.. تقول كلما تمدد المساء..

كلما تعكرت ملامح السماء..

أنها كما ترى في محنة مقدرة..

فكلنا نعيش مأزقاً وحالة مكدرة..

تضاعفت أنفاسها

تمازجت أقداحها

من العذاب

والوعود والسراب

كانها عوالم مشفرة..

تزيد من سهامها

فأنها تهيم في مياسم مبعثرة..

باسمة نادلتي..

أرى سماءها، صفاءها

أرى لهاثها المعطرة..

تغيب في أفلاكها

 وتمرح القطعان في رحابها

كأنها آلهة

يقاتل الزمان عقمه

ولم يعد أمامه إيقونة محيرة..

لم تعد أنغامه تشاكس الرياح

كلما تهافت المحال

عجلتْ تعاكس الشراع

ترتجي حياتنا المسيرة..

لم تكن طقوسنا

 مرابع الوصال

كلها معابر مدبرة..

ألم تكن حياتنا مقدرة..؟!

جائته بالقهوة وبالحلوى وهي تبتسم، ثم انصرفت بدلال الأنثى .!!

***

د. جودت صالح

01/08/2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم