صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: وأنتم تعرفون القرآن؟!

مجدي ابراهيممرويات الصُّلحاء ومرائيهم كثيرة نافعة مؤثرة، تخضع لأنداء الخيال وتجود بالسعة في إطاره، بين أيدينا مرويّة من مرائي الزهاد الأوائل، جاءت قطعة دالة ذات خصوبة فاعلة وخيال رحيب، إذ كانت سبباً في توبة مالك بن دينار (ت 131هـ)، يرويها بنفسه عن نفسه؛ لتكشف عن خصائص السرد الفني في رقائق الزهاد الأوائل، يتضمنها الرمز الصوفي في بواكيره الأولى، وتحيطها العبرة الدالة على حركة الروح تجاه الآجلة، ومفارقة العوالق الشاغلة بالدنيا وأسبابها، واتخاذ القرآن الكريم مقاصد العمل الموصّل إلى الآخرة، فهو أصفى وسيلة وأنقاها، وأجل غاية وأسماها، وأبلغها طريقاً لربط المسير بالمصير، ولوصل العمل بالخلود، ولكشف العبرة الدالة من أقرب طريق في هذا الوجود.

ولا أقل عندنا من التنبيه إلى أن مثل هذه السرديات الفنية في رقائق الزهاد الأوائل تكاد تخلو من تناول الدراسات الحديثة المنظمة ودراستها بمنهجية ذوقية تبرز مقاصدها وتجلي دلالاتها في إطار وعي علوي وعلى ضوء سبحات الخيال الديني الذي وظفها بهذه الكيفية، وهو توظيف لا شك مقصود لا زيف فيه بل صادق ودالُّ كل الصدق الخالص وكل الدلالة الباقيّة.

فلا نكاد نقرأ بحوثاً متخصصة (ماجستير أو دكتوراة) ولا دراسات تناولت مثل هذه السرديات الفنية في رقائق الزهاد كنقطة بحثية تكشف ما بها من دلالات رمزية وتوجهات روحية سبقت النزوع الصوفي الأصيل، ووصلت الطارق بالتليد، وأقامت القنطرة التي تم العبور عليها من الصدر الأول وما تلاه إلى القرن الثالث وما بعده؛ والروح في الإسلام هى الروح، والتّوجّه هو التوجه، ناهيك عن فعل القرآن الواصب في القلوب يدوم ولا ينقطع، ويتصل بالشعور الديني العميق في اتجاه حركة فاعلة قويمة يعوّل عليها الرجاء في لقاء الله، ثم يربط الدين بالدنيا، والدنيا بالآخرة؛ لتتصل قلوب العاملين تحقيقاً بالباقي دون الزائل؛ ولترتفع فوق غواشي الحُجُب المانعة عن لقاء الله.

لم نشأ أن نُرِد قصة توبة "مالك بن دينار" هنا إلا لتوجه الوعي بالقرآن في ارتقاء النظرة المحققة وسمو قصدها إليه؛ كونه أصل الأصول الرواسخ للوقوف على أسرار البقاء بين الدين والدنيا والآخرة، وهى بلا شك أسرار لم تنفصل عن تعميق المحاولة في قراءة القرآن قراءة ذوقية بالقلب والإحساس لا بالحواس الظاهرية؛ فمن جمال الرموز التي وردت بالمرويّة ما من شأنه أن يتصل بمقاصد العمل فَتَرِقُّ لها قلوب الجلاميد، وتوحي بالصدق الذي يداعب خيال العاملين في إطار هذا التوجه ويمس مسّاً مباشراً قيم القرآن إنْ في الوجود وإنْ في الخلود كما بينه التساؤل الاستفهامي الذي طرحه مالك بن دينار على ابنته: وأنتم تعرفون القرآن؟ لتجيبه من فورها: نحن أعرف به منكم؟ أي نحن في خلودنا أعرف بالقرآن منكم، إذ كنتم في الدنيا لا تعرفونه على الحقيقة.

وهذا رمز آخر لما توحيه قيم القرآن من فاعلية التأثير المباشر في الوجود وفي الخلود سواء. لكأنما القرآن كما يكون في الدنيا مبعث استقامة وسعادة؛ فهو في الآخرة كذلك وأكثر من ذلك: سبب النور السرمدي والسعادة التامة الكاملة؛ لأن عرفان القرآن في الآخرة عرفان حقيقة سطعت بقوتها. أمّا عرفانه الدنيوي فلم يكن بالكمال الذي هو به في الآخرة: مستقر النور ومستقر قرار الحقائق ساطعة على ما هى عليه.

رُوي عن مالك بن دينار أنه سُئل عن سبب توبته فقال: كنتُ شرطياً منهمكاً على شرب الخمر. ثم إنّني اشتريت جارية نفيسة؛ ووقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتاً، فشغفتُ بها؛ فلما دَبّتْ على الأرض ازدادت في قلبي حباً، وألِفَتني وألِفتها.

قال: فكنتُ إذا وضعتُ المسكر بين يدي جاءت إليّ وجاذبتني عليه وَهَرَقَتْهُ على ثوبي. فلمّا تم لها سنتان ماتت؛ فأكمدني حزنها. فلمّا كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة الجمعة، بتُّ ثملاً من الخمر، ولم أصلِّ فيها عشاء الآخرة. فرأيتُ فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت، ونُفخ في الصور وبُعثرت القبور وحُشر الخلائق، وأنا معهم. فسمعتُ حِسّاً من ورائي، فالتفتُ، فإذا أنا بتنّين أعظم ما يكون أسودَ أزرقَ قد فتح فاه مُسرعاً نحوي. فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً مرعوباً . فمررتُ في طريقي بشيخ نقي الثوب، طيّب الرائحة؛ فسَلمتُ عليه فرد السلام. فقلت: أيّها الشيخ ! أجرني من هذا التنّين، أجارك الله ! فبكي الشيخ، وقال لي: أنا ضعيفُ وهذا أقوى مني وما أقدر عليه، ولكن مُرْ فأسرع فلعلَّ الله أن يتيح لك ما ينجيك منه.

فولّيت هارباً على وجهي؛ فصعدت على شَرَف من شُرَف القيامة، فأشرفتُ على طبقات النيران، فنظرتُ إلى هولها. وكدتُ أهوي فيها من فزع التنّين؛ فصاح بي صائح: ارجع، فلستَ من أهلها! فاطمأنّيتُ إلى قوله ورجعت، ورجع التنّين في طلبي. فأتيت الشيخ، فقلت: يا شيخ ! سألتك أن تجيرني من هذا التنّين فلم تفعل. فبكى الشيخ، وقال: أنا ضعيف ولكن سِرْ إلى هذا الجبل، فإنّ فيه ودائع المسلمين، فإنّ كان لك فيه وديعة فستنصرك.

قال: فنظرتُ إلى جبل مستدير من فضّة، وفيه كُوىً مُخَرَّقة وستور معلقة على كل خوخة وكَوَّة مصراعان من الذهب الأحمر مُفصلة باليواقيت مكوكَبة بالدُّر، على كل مصراع ستر من الحرير. فلمّا نظرت إلى الجبل ولّيت هارباً والتنين من ورائي؛ حتى إذا قربْتُ منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا ! فلعلّ لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوِّه. فإذا الستور قد رُفعت والمصاريع قد فُتحت، فأشرف عليَّ من تلك المخرَّمات أطفالٌ بوجوه كالأقمار.

وقرب التنّين مني، فتحيَّرت في أمري. فصاح بعض الأطفال: ويحكم! أشرفوا كلّكم فقد قرب منه عدوّه. فأشرفوا فوجاً بعد فوج؛ وإذا بابنتي التي ماتت قد أشرفت عليّ معهم.

فلمّا رأتني، بكت وقالت: أبي، والله! ثمّ وثَبتْ في كفّة من نور كرَمْية السَّهم حتى مثلت بين يديّ. فمدّت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقتُ بها، ومدَّت يدها اليُمنى إلى التنّين فولَّى هارباً.

ــ ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي، وقالت: يا أبتِ:" أَلمْ يأنِ للذين آمنوا أن تخشعَ قُلُوُبُهُم لذكر الله". فبكيت وقلت: يا بنيّة! وأنتم تعرفون القرآن. فقالت: يا أبتِ! نحن أعرَف به منكم. قلت: فأخبريني عن التنّين الذي أراد أن يهلكني. قالت: ذلك عملك السوء قوّيتَه فأراد أن يغرقك في نهار جهنم. قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مَرَرتُ به في طريقي. قالت: يا أبتِ! ذلك عملك الصالح أَضْعَفْتَه حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء. قلت: يا بنّية! وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين قد أُسْكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم. قال مالك: فانتبهتُ فزعاً وأصبحتُ فأرَقْتُ  المسكر وكسرت آلته وتبتُ إلى الله عز وجل. وهذا كان سببُ توبتي" (أ. هـ).

فلئن كنا بإزاء لون من ألوان عقيدة البعث والآخرة في خيال مرائي الزاهدين، فإنَّ هذه السرديات الفنية في رقائق الزهاد؛ لتوحي بمعطيات ذوقية هادفة، تقوم على خصوبة الخيال الخلاق، وتدفع إلى العمل على شرعة القرآن، وترقي من مأثر التبعة الباطنة، وتحقق أغراضها مع التأمل في سِيَر الأقوياء العاملين؛ لأنها تدفعهم إلى عمل علوي حقيقٌ بالسعي إليه جدير بمباشرته في يقين الثقة والاطمئنان.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم