صحيفة المثقف

زينب عبد المحسن حميد: داعش وتهديد الدولة العراقية (٢)

زينب عبدالحميد محسن

النظام السياسي للدولة العراقية

أولًا: الغزو الأمريكي للعراق: تداعيات:

قاد غزو العراق واحتلاله بقيادة الولايات المتحدة عام ۲۰۰۳، مع الفوضى الطويلة الأمد اللاحقة والمقاومة المسلحة المكلفة، إلى انحلال مؤسسات الدولة وتأسيس نظام سیاسی قائم على المحاصصة، أي توزيع مرافق السلطة وفق خطوط طائفية وعرقية وعشائرية، ثم اختلط أمر الهوية الوطنية العراقية وتحولت تدريجيًا نحو هويات طائفية وعرقية بعدما تراجعت الهوية الوطنية المجتمعية التي أرساها حزب البعث الحاكم القائمة على العروبة والقومية. والنظام السياسي الحالي القائم على الطائفية والقوى المهيمنة داخله هو إلى حد كبير نتاج الإحتلال الأمريكي والتدمير الذي أصاب الدولة. ولا تستطيع الهويات الطائفية المنفصلة أن تكون البديل الذي يبني عراقًا جديدًا. ولقد نجح «داعش، حقًا في إستثمار فشل النظام السياسي، ولكن ذلك لا يجعل منه قبلة التطلّعات السنّية. مع ذلك، فغزو العراق وإحتلاله اللذان قادتهما الولايات المتحدة، كانت اللحظة المناسبة لصعود الشعور بهوية سنّية شاملة في البلد... ورغم أنه ما كان بوسع تنظيم داعش، أن يفعل ما فعله من دون شعور سنّي متعاطف، إلا أنه من المشكوك فيه إعتبار الشعور السني الشامل هذا هوية دائمة للسنّة العراقيين، …وبالتالي فإن إنحلال مؤسسات الدولة سنة ۲۰۰۳ وإقامة نظام بدیل مبني على قاعدة طائفية زادا صراع الهويات حدة، الصراع الذي دمر - على الأرجح - العراق الحديث.

يَعكس عنف داعش الزائد التركة الموروثة المرّة لعقود من الحكم البعثي الذي مزق النسيج الإجتماعي للعراق وترك جراحة عميقة ما زالت نازفة إلى اليوم. وما فعله «داعش» هو أنه، بمعنی ما، إستعار في حربه الداخلية التكتيكات الخشنة للنظام البعثي التي طبعت بطابعها الدموي تاريخ العراق الحديث.

أن كُلًا من البغدادي وصدام حسين جاءا من قطبين آيديولوجيين متناقضين، سعى كلاهما إلى بناء نظام إستبدادي لا يحتمل أي معارضة بل يلجأ إلى كل أشكال العنف لإسكاتها. فالبغدادي أحاط نفسه بضباط جيش صدام وشرطته من الرتب الدنيا والعليا، وكان بعضهم مسؤولًا مباشرًا عن شراسة أساليب النظام البعثي، لكن هذا لا يعني أن تنظيم داعش، السلفي، الجهادي، كما يحلو لبعض المراقبين أن يزعموا، مرادف للبعث، صاحب الأيديولوجية القومية العلمانية. لم يقم البعثيون السابقون بإختطاف «داعش»، بل إن الأخير - بالأحرى - هو من جلب أولئك إلى قضيته.

ثانيًا: النظام السياسي العراقي المهشّم:

أحدث الإضطراب الناتج من غزو العراق وإحتلاله بقيادة الولايات المتحدة، وبخاصة تدمير مؤسسات الدولة، شرخًا عميقًا بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة، وسهلّ بالتالي صعود داعش وتحوّله من مجرد فاعل هامشي خارج الدولة إلى دولة إسلامية. ويملأ «داعش» الفراغ الفكري والمؤسسي القائم، قفز إلى الواجهة مانحة الجماعة السنّية المقهورة إمكان إمتلاك هوية سنية شاملة (طائفية - إسلامية عابرة للقوميات والإثنيات والحدود)، وحاول البغدادي وجماعته إعادة بناء هوية سنّية مستعلية (عروبية وقومية) وفق خطوط طائفية (سنية شاملة)، متحديًا طبيعة الدولة - الأمة القائمة على القوانين والقواعد التي يفرضها المجتمع الدولي. فالطائفية هي الوقود الذي يتغذی منه «داعش»، وهي تتغذى من «داعش» في المقابل، وهو أمر يجب التوقف عنده والتفكير فيه بإمعان وما أتصل منه ببناء الهوية العربية السنّية وإعادة تعريفها. فقد سقط العراق منذ سنة ۲۰۰۳ في أزمة طائفية ممتدة، يغذّيها قلق السكان السنّة بعد تجريدهم من القوة مع تحوّل السلطة في النظام الجديد نحو الشيعة وتحت النفوذ الإيراني. ورغم مقاومة السنّة والتمييز الذي جرى ضدهم لسنوات، فإن ذلك لم يلق غير آذان صماء في بغداد وواشنطن. وأحدث تمزّق النسيج الإجتماعي على هذا النحو ممرًا ل «داعش» ليقفز إلى الواجهة مواجهًا الأغلاط التي يشعر بها السني العراقي ومُنصِبًا نفسه مدافعًا عنهم و(حاميًا) لهم. بالإضافة إلى تلاعب «داعش» الإستراتيجي، كما سابقوه القاعدة في العراق، والدولة الإسلامية في العراق، حظي التنظيم بالمزيد من الدعم بسبب من خطابه المعادي للولايات المتحدة، الذي أغرى الشباب السنّة الذين شعروا بمدى الأهانة والإذلال اللذين تسببت بهما الولايات المتحدة للبلاد. وعليه، فقد قدم هذا التهشيم المريع للنظام السياسي في العراق، مع تعطيل وظائفه وسقوطه في مذهبية متزايدة، الغذاء الآيديولوجي الذي كان يحتاج داعش إليه.

إنّ النخب السياسية الحاكمة التي تلت مرحلة صدام حسين مسؤولة عن الأخطاء الجسيمة التي سقط فيها العراق بعد عام ۲۰۰۳. ومع مسؤولية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق عن تمزيق الدولة والمجتمع، إلا أن القادة الجدد يتحملون المسؤولية لتقاعسهم في تحسين الظروف الإجتماعية وتعزيز الوحدة الوطنية.

ما حصل بعد عام 2003 هو إنتشار تسييس الهويات المذهبية على نطاق جماهيري، بفعل إنفتاح المجال العام بلا قيود أو ضوابط حامية، وذلك نتيجة سقوط الدولة بوصفها جهازًا للحكم. وما حصل أيضًا بعد عام 2003، هو إنتقال الهويات الجزئية من إضفاء الطابع السياسي إلى العسكري، في أوضاع إحتلال أختلطت فيها ميول معارضة الإحتلال العسكري وتمازجت مع ميول التنافس والصراع بين الجماعات للسيطرة على عتلات السلطة والموارد المادية والرمزية المرتبطة بها. وبات توكيد الهوية المذهبية الشيعية حافزًا لتوكيد هوية سنّية معاكسة، مثلما باتت الهجمات المسلحة على الرموز والمناطق الشيعية محفزًا لتوكيد الهوية الشيعية. ما من فترة كهذه تعرضت فيها المساجد والمراقد للنسف والتدمير.

ثالثًا: أثر تفكك الدولة ومؤسساتها:

أفضى تفكك الدولة - خصوصًا حل مؤسسات العنف الرسمي من حيث الأساس - إلى شيوع الفوضى والخوف وسط النخب ووسط العامة، وهما أفضل أساس لنشدان الأمان في دفء روابط الجماعات الجزئية، أيًا كانت طبيعة هذه الجماعات، سواء أكانت أسرة ممتدة أم قبيلة أم فخذًا منها، أم حيًا سكنيًا، أم عصبوية مدينية، أم تلاحمًا طائفيًا، وهلُّمَ جرًا.

ويشتد هذا الميل في أوضاع تمزق الروابط المدنية أو ضعفها أو إنهيارها؛ هذا الصراع القاعدي - طالبًا للحماية والأمان أكسب الهويات الجزئية زخمًا هائلًا، تزایدَ حین أرتبط بصراع النخب في القمة على السلطة والموارد، وذلك لحظة شروع سلطة التحالف المؤقتة، بقيادة بول بريمر، في عملية تكوين الدولة الجديدة، وهي عملية - بحسب المقاربة المعتمدة في هذه الدراسة - متداخلة مع عملية بناء الأمة تداخلًا مكينًا من شأنه أن يدعم بناء الأمة أو يقوضه.

إلا أن هذا التداخل وهذا التفاعل بين تكوين الدولة /المؤسسات، وبين بناءالأمة/ إشراك الجماعات فيها، قام على إختلال جليّ، إقتصر على تفاهم شيعي - کردي - حاولت واشنطن تعديله مرارًا: على نحو جزئي من خلال عملية كتابة الدستور؛ وبصيغة أوسع بعد إنشاء «الصحوات»، وكانت هذه المحاولات الرامية إلى توسيع قاعدة التفاهم ضرورية، لكن محدودة، وعملت الوزارتان المالكيَّتان: الأولى والثانية على تفكيك الآليات المحدودة لتدعيم بناء الأمة التي أرسيت في الفترة ما بين عامي 2007 و2010 بموازاة عمليات تشكيل الدولة منذ عام 2003، وهو تفكيك نابع من ميول الاحتكار التسلُّطية، على قاعدة تأويل مقلوب لمفهوم الأغلبية: من كوْنه مفهومًا سیاسيًا، إلى كونه مفهوم أغلبية هوّياتيًا، والسعي لإحتكار تمثيل الأغلبية في حزب، ثم تمثيل الحزب بمجموعة قيادية ضيقة، تزّج شبكات القرابة والأتباع/الزُّبُن، مُقصِية ما عداها كله.

أثار هذا التفكيك اندلاع المعارضة من داخل الجماعات، واندلاع احتجاجات عنيفة في محافظات عراقية عدة (الأنبار ونینوی وصلاح الدين وديالى والمناطق السنية في بغداد)، وكُلِّل بتطويق الجيش مناطق الاحتجاج، وسفك دماء المتظاهرين في الحويجة - إحدى بلدات الاحتجاج - وانتهى بسقوط الموصل في 9 حزيران/ يونيو 2014 في إثر انسحاب مهين من طرف التشكيلات العسكرية الرسمية، كان أقرب إلى الهرب منه إلى أيّ شيءٍ آخر.

و سنطرق إلى أبرز التحديات الداخلية والخارجية التى تعرقل عملية بناء الدولة:

التحديات الداخلية:

أولًا- التحدّي الأمني: وتتمثل بغياب المركزية في القرار الأمني والعسكري، لوجود حالة من التنازع بين المؤسسات الحكومية الأمنية، نظرًا لوجود الكثير من الهياكل الأمنية التي تعمل خارج سيطرة الدولة، بالإضافة إلى ضعف التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات الإستخبارية بين الأجهزة الأمنية العاملة على الساحة العراقية لأسباب مختلفة من بينها غلبة الإنتماءات والإستقطابات الطائفية والحزبية داخل هذه الأجهزة، وصعوبة التنسيق بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة أقليم كردستان؛ مما خلق فرصة لتنظيم داعش لينشط ويستقر في المناطق المتنازع عليها، ويُلاحظ إفتقار الأجهزة الأمنية إلى المهنية والحرفية في التعامل مع الأحداث، وغياب التحقيقات المهنية الموثوقة والعادلة.

ثانيًا- الفساد المالي والإداري: فقد استشرى في معظم مؤسسات ومرافق الدولة وأصبح يهدد مستقبل عملية بناء الدولة، (وما يثير الإنتباه هو أن الحكومات المتعاقبة في العراق لم تعمل في القضاء على هذه الكارثة بعد أن أخذ العراق يحتل المراكز المتقدمة قائمة الدول الفاشلة والأكثر فسادًا في العالم والتي تصدر كل سنة عن منظمة الشفافية العالمية بل إستمر في إحتلال مراتب متقدمة في التصنيفات العالمية مما يثبت أن الحكومات قد عجزت عن مكافحة الفساد المالي والإداري الذي أصبح تقليد إستشرى في مفاصل الجسد "الدولة"

ثالثًا- إختلاف الرؤى السياسية حول بعض القضايا الخلافية : ومنها المناطق المتنازع عليها وكركوك وتوزيع الصلاحيات بين المركز والأقليم.

رابعًا- عرقلة عملية إقرار مشاريع القوانين: بسبب الخلافات وتقاطع الإرادات بين الكتل السياسية داخل البرلمان ومقاطعة الجلسات.

التحديات الخارجية:

يعد التدخل في شؤون العراق الداخلية من أبرز التحديات التي تواجه عملية بناء الدولة في العراق ويبرز ذلك بصورة واضحة من خلال العديد من المعايير المتعلقة بالتوازن والصراع الإقليمي بين المحاور المختلفة المتواجدة على الساحة الاقليمية والدولية، فقد أدى الإحتلال الأمريكي للعراق إلى وقوع العراق بين المجال الجيوستراتيجي لأربع إستراتيجيات كبرى في المنطقة والعالم وهي الإستراتيجية الأمريكية-الإسرائيلية والإستراتيجية التركية والإستراتيجية الإيرانية والإستراتيجية السعودية، وقد عملت التطورات في سوريا على زيادة تعقيد الأوضاع وخطورتها إذ تشهد المنطقة العربية صراعًا حادًا بين هذه الإستراتيجيات وهذا مايؤثر بشكل كبير على العراق ومستقبله كدولة وأمّة كونه مجالًا حيويًا لتصادم الإستراتيجيات المذكورة بغية تحقيق المكاسب السياسية والإقتصادية وتمرير الأجندات لخلق أوضاع جيوسياسية جديدة تخدم مصالح الأطراف المتنازعة، لذا فإن أحاديث التقسيم العرقي والطائفي هي أدوات تستخدمها القوى الكبرى کون بقاء العراق ضعيفًا وممزق يخدم مصالحها، فبالنسبة لتركيا فقد تعددت إستراتيجياتها ازاء العراق سيما بعد صعود حزب العدالة والتنمية الى الحكم في انتخابات سنة 2002. وتتمثل إستراتيجياتها تجاه العراق في القضايا الرئيسية وهي: القضية الكردية وقضية كركوك والأقلية التركمانية وقضية المياه، فقد عملت تركيا على محاولة تقييد طموحات الأكراد في كردستان العراق بإعلان دولتهم المستقلة فنسبة الأكراد في تركيا أعلى من نسبة الأكراد في العراق وفي حال قيام دولة كردية في العراق سيؤثر ذلك مباشرة على تركيا، كما عملت على منع إنفجار الأوضاع في كركوك الغنية بالنفط ذات الأهمية الإستراتيجية والنقطة الرابطة بين الأناضول والعراق وإيران وسعت الى منع إنضمام كركوك الى إقلیم کردستان لأهمية المنطقة بأعتبارها المنفذ الأول في تصدير النفط إلى ميناء جيهان التركي لذا فإن وقوعها بيد أكراد العراق سيمكنهم من إقامة دولة كردية إقتصادية كبيرة مما يؤثر على الأمن القومي لتركيا ممثلًا في زيادة مطالبة أكراد تركيا بوضع مماثل، إضافة إلى محاولة تركيا بإضفاء الصفة التركية على نهري دجلة والفرات منطلقة من إعتبار مفاده أن هذه المياه تنبع من تركيا لذا فإن لتركيا سيادة على مياهها وترفض الإعتراف بحقوق العراق وسوريا من نهري دجلة والفرات معتبرة أن المياه سلعة تجارية، إضافة الى ذلك فهي تعمل في القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) المحضور في تركيا والمتواجدة بعض عناصره في شمال العراق، أما بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي فقد كانت تنظر للحكومة العراقية مابعد الغزو بنظرة خاصة تتمثل في إدراكها بأن انتعاش الحياة السياسية في العراق سيحفز دول مجلس التعاون الخليجي سيما أبناء الطائفة الشيعية التي تعيش في حالة من التهميش بالرغبة في الدخول الى الحياة السياسية كما حصل في العراق إضافة إلى تزايد خشية دول الخليج من الهيمنة الإيرانية إذ ترجحت كفة الميزان لصالحها بعد غياب العراق عن معادلة التوازن الإقليمي وإستطاعت إيران أن تؤدي دورًا مؤثرًا في العراق سيما في دعم الوكلاء الشيعة فقد عملت إیران  على إستخدام العراق كورقة تستقوي بها في ملفاتها الأخرى وعلى رأسها الملف النووي الإيراني وقد أدى هذا إلى إشعال المنطقة في طائلة حروب الوكالة.

 أبرز الإشكاليات الإجتماعية التي تعرقل عملية بناء الدولة العراقية

أولًا- الإشكالية الطائفية والولاءات الفرعية: إن النظر إلى المجتمع العراقي يؤشر لنا الطبيعة الفسيفسائية المتضمنة للتعدد العرقي والتنوع المذهبي والاختلاف الديني، هذا التنوع الذي غالباً ما يجعل الدولة أمام فكرة الصراع والانقسامات الدائمة لا سيما إذا ما توفرت بيئة حاضنة أو شرارة للنزاع، مما يجعلنا أمام حالة اللاستقرار في الدولة. ولعل هذا التعدد في بعده الطائفي دفع إلى تحويل الطائفية الموجودة في المجتمع إلى خطر حقيقي يهدد التجانس الاجتماعي وكيان الدولة ككل، والسبب يعود في تعميق تلك الظاهرة إلى التنشئة السياسية الخاطئة التي مارستها السلطة السياسية ما بعد عام 2003، والتي بنيت على أسس طائفية ودينية وعرقية متناسية وحدة العراق الوطنية، إذ وجدت الأطراف المكونة للعملية السياسية في ترسيخ الانقسامات المجتمعية والطائفية مصلحة جوهرية لها وذلك من خلال علاقة الطائفية السياسية بالسلطة والثروة والنفوذ، على حساب مصلحة الوطن والمواطن.

ثانيًا- غياب الشعور بالمواطنة: إن تقسيمات البيئة الاجتماعية والتعدد الذي يتسم به المجتمع العراقي نقلت الولاء من الدولة إلى الولاءات الفرعية بحسب الإنتماء العرقي أو الطائفي أو المناطقي، ومن ثم تجاهلت المفهوم الوطني العراقي، الأمر الذي أضعف الشعور بالهوية العراقية وبالمواطنة العراقية، ولعل ما عمق من هذه الحالة هو فشل الخطاب السياسي العراقي بعد عام 2003 في إيجاد روابط مشتركة تعيد اللحمة الوطنية وتدفع بالمواطنة إلى الأمام، بل على العكس نراه عَمّقَ من الأزمة لأنه لم يستند إلى خطاب جامع واحد يصهر كل خصوصيات المجتمع العراقي وانتماءاتهم تحت الهوية الوطنية العراقية فالواقع يؤشر على أن هناك من روج للهوية الإسلامية كما هو حال الأحزاب الدينية، وهناك من روّج لمفهوم الأمة العراقية، وهناك من روج للعلمانية، وهناك من روج للهوية العربية وآخرون يتمسكون بالهوية الكُردية، ومن ثم أسهم هذا الارتباك والتخبط في الخطاب السياسي لمعظم القوى والتيارات السياسية بجعل المواطن العراقي لا يشعر بهويته الوطنية ومواطنته لأنه يراها أمام عينيه ضعيفة بفعل سيادة الولاء الحزبي الفئوي على الولاء الوطني، ولا شك فإن هذا الواقع الاجتماعي العراقي قد سُيس في بعض جوانبه ولم يعد يأخذ بعداً خالصاً متعلقاً بكون الاختلاف مدعاة لقوة الدولة بقدر ما أصبح الاختلاف أحد عوامل عدم الاستقرار المجتمعي، وأن هذه الأسباب تلاقت مع العوامل السياسية والاقتصادية وكونت سلسلة من القهر والحرمان جعلت المواطن العراقي يلتف حول تقسيماته الطائفية والعشائرية والقومية، الأمر الذي خلق حالة من عدم الاستقرار وإضعاف مرتكزات بناء الدولة العراقية.

ثالثًا- التكوينات القبلية والعشائرية: إن أحد أهم الإشكالات الاجتماعية المؤثرة في بناء الدولة في العراق هو تنامي دور العشائر، مما يؤثر في عملية التطور السياسي والديمقراطي إذا لم يوظف بشكله الصحيح، فضلاً عن تأثيره في البناء الحقيقي للمجتمع المتحضر إذ أنها تستقطب الولاءات الأعلى لقطاعات من المواطنين مما يؤثر سلباً على الولاء للدولة ذاتها سيما بعد التشويه الذي أصاب مفهوم الدولة من ناحية التفكك البنيوي لأجهزتها ومؤسساتها، كما أن تمدد نفوذها في داخل الأحزاب السياسية نفسها سوف يضعف قدرتها على استقطاب المواطنين استناداً إلى أطر فكرية وبرامج سياسية وطنية عابرة للحدود العرقية والطائفية والدينية، كما أنه يلغي بتأثيراته على العملية الانتخابية فتصبح في جانب منها محكومة بالتوازنات القبلية والعشائرية.

نشاط وتحرّكات تنظيم داعش في العراق في ظل الواقع والمعطيات المتاحة:

من المحتمل أن يرى تنظيم "الدولة الإسلامية" العراق على أنه جائزة أكبر من سوريا بسبب اقتصاده الأكبر ولأنه يضم ظاهريًا مجموعة أوسع نطاقًا من المقاتلين المحتملين، وحتى الآن، لم يصل التنظيم إلى نفس مستويات القوة في العراق التي تفاخر بها في عام 2014، عندما سيطر على مساحات شاسعة من الأراضي، ولا في عام 2013 حين كان يستعد لانتشاره الكبير (على سبيل المثال، نفذ التنظيم 6,216 هجومًا في العراق عام 2013، مقارنة بـ 1,669 فقط في 2019)، وشهدت المحافظات التي تتعاون فيها قوات التحالف والقوات المحلية انخفاضًا في العنف، وخاصة كركوك. ومع ذلك، بدأت ديالى وجنوب صلاح الدين وبعض أجزاء حزام بغداد تشهد المزيد من الهجمات ولقد أنشأ التنظيم البنية التحتية المادية للتمرد، بإستخدامه الكهوف لتخزين المئات ـ إن لم يكن الآلاف ـ من المخابئ التي تحتوي على أسلحة وذخائر ومتفجرات ومعدات أخرى. كما أعاد التنظيم بعض الكوادر الرئيسية من سوريا إلى العراق، علما بأن إعادة إلحاق هؤلاء العناصر (العراقيون بشكل رئيسي) تؤثر على القيادة التكتيكية على المستوى المحلي ـ بما في ذلك تصنيع القنابل على جانب الطريق واستخدامها، ويتوجّه التنظيم إلى المناطق التي تضم أقل عدد من السكان في البلاد، ويعمل على إخلائها أكثر من سكانها، فيتحّدى أساسًا القوات العراقية وقوات التحالف الدولي على التحرك إلى داخلها، ويتحرك التنظيم ميدانيًا في:

 المنطقة الصحراوية الفاصلة بين محافظتي ديالى وصلاح الدين.

- مناطق بحيرة الثرثار والزوية والطرابشة، شمال محافظة الأنبار.

- مناطق غرب وجنوب محافظة كركوك.

- جزيرة كنعوص  وزنكوبة جنوب محافظة نينوى.

- المثلث الجغرافي الرابط  بين شمال عاصمة بغداد ومحافظات كركوك وديالى وصلاح الدين.

و لذلك فمن المستبعد أن ينهار تنظيم الدولة بشكل نهائي في المدى المنظور، فإلى جانب تواجده في مناطق جغرافية معينة  فإنّ ذراعه الإعلامية أيضًا لا تزال قوية وهو مازال يبث أدبياته عشرات المنشورات يوميًا، وسيكون كمون التنظيم حاليًا كتراجعٍ تكتيكيٍ لمنظومة الإرهاب " التي تتطور مع بقاء مضخات إنتاجها الفكرية والتمويلية، وأيضًا المناخ السياسي العام الذي ما زالت قضايا المنطقة معه عالقة إلى أجل غير منظور"

و خلاصة القول، فأنه على الرغم من تحقيق النصر العسكري على تنظيم داعش، فإن الحرب ضده لم تنتهي بشكل نهائي، وأصبح واضحًا الضعف الذي يعانيه التنظيم وذلك يتطلب الضغط المستمر عليه وتواصل العمليات الإستخبارية لملاحقة خلاياه السرية.

"مستقبل تنظيم داعش في العراق"

أولًا: آليات وإستراتيجيات الدولة العراقية لمواجهة تنظيم داعش:

-إتبعت القوات الحكومية بعد القضاء على تنظيم الدولة، إستراتيجية عسكرية تضمنت العديد من العمليات العسكرية لملاحقة فلول التنظيم وحماية المدن ومنعه من العودة إليها، وقد تم تنفيذ الإستراتيجية الحكومية من خلال ما يلي:

أ-العمل الإستخباري: أعتمدت أجهزة الإستخبارات الحكومية على جمع المعلومات من المصادر، والسكان المحليين، ووسائل الإعلام، والعملاء والجواسيس، والاعتقالات العشوائية، ومنظومة المراقبة الإلكترونية لقوات التحالف الدولي. ومع هذا لم يكن العمل الإستخباري بالأجهزة الحكومية بمستوى التحديات، كونها تفتقر إلى منظومة مراقبة شاملة لرصد تحركات التنظيم، بما فيها المراقبة الجوية، والأرضية، والإلكترونية، وكان ذلك من بين أسباب محدودية النجاح في عمليات ملاحقة التنظيم والحد من عملياته الهجومية.

ب-العمليات العسكرية: وحيث أن القوات المشتركة العراقية أعلنت النصر على تنظيم داعش عسكريًا نصرًا خسرت به داعش أرض التمكين وقدرتها على رفع رايتها على أي بناية مدنية أو حكومية أو عسكرية على أرض  العراق، وتحوّلت إلى فلول تسكن البوادي والصحاري والجبال والتلال والمناطق الزراعية الوعرة، تعمل على تمويل نفسها ذاتيًا، وإنهاك القوى القتالية الماسكة للأرض والمرابطة في الطرق الرابطة بين المحافظات، وعلى أطراف المدن والقرى والحدود، فصارت تستهدف المواطن العراقي على الهوّية مرة وأخرى على الولاء السياسي والمذهبي، بالإضافة إلى ما قام به التنظيم من عمليات تفجيرية هددت أمن العاصمة وتسبب بسفك دماء الأبرياء، ولهذا إنطلقت عمليات عسكرية واسعة والتي - ما زالت مستمرة - لملاحقة فلول التنظيم وحققت نتائج جيدة أصابت القيادات المهمة في التنظيم.

ج-عمليات إستباقية: تعتبر العمليات الإستباقية عملًا نوعيًا وجزءًا من العمل الإستخباري الناجح، كونها تحقق المباغتة، وتمنع الهجمات قبل وقوعها، وتشمل تنفيذ عمليات الإغتيال، وإلقاء القبض، وتدمير مواقع القيادة والسيطرة، ومراكز البحث والتطوير، ومعامل التصنيع العسكري، ومراكز الاتصالات، وقد نفذت "قوات التحالف الدولي" بالإشتراك مع"المخابرات العراقي" و"القوات الحكومية"، أغلب العمليات الاستباقية النوعية الناجحة، والتي يمكن وصفها بأنها أصابت تنظيم داعش بضرر بالغ.

ثانيًا: مواجهة تنظيم داعش إعلاميًا وعبر مواقع التواصل الإجتماعي :-

فيُعتبر مواقع التواصل الإجتماعي من الإستراتيجيات المهمة لدى التنظيم لجذب الإفراد للإنضمام إلى صفوفها، أو لإحداث حالات الفزع والرعب بين المواطنين والسعي لزعزعة هيبة الدولة ومؤسساتها أمام الرأي المحلي والعالمي، وتستخدم تنظيم داعش مواقع التواصل الإجتماعي للتعبير عن وجهات نظرها وإستثارة عواطف الجماهير والتلاعب بمعتقداتهم والتأثير عليهم بأساليب مختلفة بالإضافة إلى كون مواقع التواصل الاجتماعي تمثّل الحاضنة الآمنة للتواصل بين أفراد التنظيم بعيدًا عن المنظومة الأمنية، لذلك فمن الضروري فرض رقابة على وسائل التواصل الأجتماعي لأنها تُعتبر أكثر الوسائل إستخدامًا من قبل أفراد التنظيم في تحقيق أهدافها الدعائية والتنظيمية، اذًا فإن فرض الرقابة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي وشبكات الأنترنت وأصبحت وسيلة ضرورية للكشف عن الخلايا النائمة ومراقبة البيانات ومواقع تواجدهم.

ثالثًا: مواجهة تنظيم داعش آيديولوجيًا:

بعد القضاء على تنظيم داعش عسكريًا، ستكون المعركة الأخيرة هي معركة فكرية وعقائدية وهي المعركة الأهم، لأن بداية كل شيء مادي مجرد فكرة ثم معتقد ثم إيمان فرد ينتقل أو يؤثر على مجموعة أفراد بغض النظر عن ماهية الفكرة سواء كانت إيجابية أو سلبية فهي تهدف إلى تحقيق غرضٍ ما.

ويميل بعض الباحثين والدارسين عند وصف الإرهاب الديني إلى الارتباك والتشوش، وتصوير الدين بإعتباره غاية لا وسيلة، وفي الحقيقة، إن الإرهابيين يتحركون بإسم الدين، لكنهم يسيئون إستخدامه، حيث يبقى الهدف النهائي هو الوصول إلى السلطة. وعليه فإن الهدف الأساسي في الأصل هو جوهر سیاسي لكن هذا لا ينفي تطويعه لنصوص دينية ومقدسة من أجل تجنيد أتباعه، لكن بمرور الأيام تصاعدت التفسيرات الدينية للظاهرة الإرهابية.

ولأن تنظيم داعش، لا يمكن مواجهتها بالصواريخ والرصاص، دون أن تواجه بالأفكار والعقائد والحرب الناعمة، حتى لو كان الجزء الأبرز من داعش هو كونه عدوًا عسكريًا يجيد إستعمال القنص والتفجير والتفخيخ، تبقى للمواجهة الثقافية معه الدور الأكبر، من خلال فهم آيديولوجيته ودراستها إذ لا يمكن أن تقاتل عدوًا لا تعرفه وتنتصر عليه...وحتى لو وصلنا إلى النهاية العسكرية لتنظيم داعش، فإن المعركة الفكرية لم تنته بعد، وعلى حد تعبير أحد الباحثين بأن الإرهاب الملتحف بالدين يعيش منظومة قيم متناقضة، بين الديني والعلماني، حيث يعمل الإرهابيون الذين يتخذون البعد الديني ضمن إطار سياسي وثقافي متناقض. فهم يريدون الفوز وإلحاق الهزيمة والضرر بالنظام السياسي الذي يقمعهم، وربما يسعون إلى تدمير البنى الإجتماعية، فهم يرغبون في تصحيح الوضع، ثم يفضلّون إيجاد الحلفاء بدلًا من قتل الأعداء، أما الإرهابيون الجهاديون فلا تكبّلهم هذه القيود، وهم يرون العالم میدان حرب بين قوى الخير والشر، والنور والظلام، إذًا يجب تدمير العدو تدميرًا كاملًا؛ ولعل الأخير ما يميز تنظيم داعش، وعندما نقول إن ظاهرة داعش ليست منفصلة عن البيئة العربية، نعني أنها لم تكن وليدة اليوم، وإذا قرأنا المجتمع بعيون علم الإجتماع وراجعنا سجل التاريخ لوجدنا ذلك التاريخ الممزوج بالدم، على مستوى السلفية الجهادية، أو النسخ المختلفة للتنظيمات الإرهابية مثل داعش وغيرها، ونعتقد أن المعادلة أدناه هي من صنعت داعش: (فکر سلفي متطرف + دولة فاشلة + استبداد + فقر + صراع إقليمي = داعش)، وعمومًا لا يمكن دراسة داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، دون فهم السلفية الجهادية وأسباب نشأتها.

أبرز الآثار الذي خلّفه تنظيم داعش:

أولًا: أثر تنظيم داعش على الوحدة الوطنية والهوية العراقية :-

أختلف أغلب الباحثين والرأي السائد بأن داعش أحدث شرخ في موضوع الوحدة الوطنية، وعلى العكس تمامًا أرى أن داعش هنا هو بمثابة "الضارة النافعة" التي وعت المخيال الوطني وأصحت الشعب على حقيقة التنظيم

الذي اظهر عداءه لكل المواطنين مستثنية مفهوم المذهب والطائفة، وتجلّت أثر التنظيم على الوحدة الوطنية أنه وحدَّ الصف المحلي ورص الوحدة الوطنية وتحالف قوى الحشد الشعبي مع الحشد العشائري والأهالي في طرد التنظيم من المناطق التي سيطر عليها والتي اضعفت قوى التنظيم الإرهابي إلى جانب مشكلاته وتراجع الدعم المحلي لها، والنظرة الفاحصة لخارطة العراق اليوم تعطي انطباع إيجابي على خفض الأعمال الإرهابية للتنظيم قياسًا بأعوام ما قبل 2014، وهو إشارة واضحة لإمكانية بناء وحدة وطنية حقيقية على أنقاض مخلّفات التنظيم.

و هكذا إكتسبت الهوية العراقية زخمًا فيما تراجع الطائفية،  وفقًا لنتائج الإستطلاع الوطني (للمعهد الديمقراطي الوطني، يميل العراقيون، بمعدل أربعة أضعاف أكثر من غيرهم، إلى التعريف عن أنفسهم كعراقيين أولًا عوضًا عن ذكر دينهم أو طائفتهم، في الواقع، إن الإنقسامات تغذّيها السياسة والفجوة بين المواطنين والدولة. مع أن العراقيين يتمتعون بهوية مشتركة ويشعرون أن العلاقات بين الشيعة والسنة تتحسن، يبقى الشعور بالإنقسام مهيمنة على البلاد، فقد أفادت أكثرية تبلغ ٦٤% أن البلاد منقسمة لا موحدة. وحدها بغداد، وهي المنطقة الأكثر تنوعًا، عبرّت فيها الأكثرية عن الوحدة، في حين أن أكثريات كبيرة في الجنوب والغرب وإقليم كردستان أفادت أن البلاد أكثر انقسامًا، ومَرّد هذا الشعور بالإنقسام إلى النزاعات المتعلقة بالسياسة والسياسيين، كما تبين الاستطلاعات، أنه لا يلاحظ هذا التوّجه في الإنقسامات وفقا لإعتبارات دينية أو إثنية بالضرورة، بل قد يكون عبارة عن إنقسام ما بين المواطن والحكومة أحيانًا. فقد أفاد أكثر من النصف ٥٢% أن أحد أبرز الإنقسامين اللذين يواجههما العراق هو الإنقسام بين الأحزاب السياسية، في حين أعتبر ٣٢% أن الإنقسام الأكبر هو بين السياسيين والمجتمع، فضلًا عن ذلك صرّح ٣٩% آخرون أن أحد أبرز الإنقسامين الذين بواجههما العراق هو الإنقسام بين البلدان التي تبسط نفوذها على العراق، كالولايات المتحدة وإيران، في المقابل، يقول ٢٨% فقط إن الانقسام الأكبر هو ما بين السنة والشيعة..

ثانيًا: أثر تنظيم داعش على القوات العراقية العسكرية:

كان لسقوط الموصل عسكريًا أثرًا سلبيًا على الروح المعنوية للقوات المسلحة العراقية وعندما نتحدث عن المرحلة التي أعقبت أحداث سقوط الموصل لا يمكننا أن نتحدث بعيدًا عن الدعم الكبير الذي قدّمهُ المرجعية الدينية في النجف متمثلة بفتوى الجهاد الكفائي التي أفرزت إعلان ولادة الحشد الشعبي الذي تم ربطه بالمؤسسة الأمنية العراقية وأصبح المنقذ الحقيقي آنذاك إضافة الى الدور الكبير الذي قام به شيوخ القبائل العراقية المختلفة فقد شعر أبناء المجتمع العراقي بأن الحشد الشعبي هو المنقذ لإحتمال سقوط الدولة العراقية وإمتد هذا الشعور ليشمل المؤسسات الرسمية ودوائر الدولة مما أدى الى تغيّر المخططات التي كان تنظيم داعش والأطراف الداعمة له تتأمل تحقيقها، إذ أن دخول الحشد الشعبي الى المعركة شكّل فاصلة تاريخية من الإستجابة القوية والحس الوطني العالي مما غيّر موازين القوى لصالح القوات الأمنية العراقية فحققت القوات الأمنية والحشد الشعبي انتصارات عسكرية كبيرة، ولقد أنتجت الحرب ضد تنظيم داعش عقيدة قتالية لدى التشكيلات العراقية المسلحة وهي العقيدة القائمة على الشراكة والتعاون بين القوات العسكرية والحشد الشعبي فبينما تقوم القوات العسكرية بالهجوم فإن الحشد الشعبي يصبح الطرف الأقرب في المناورة مع الجيش ومن ثم مسك الأرض.

وعلى أثر تحقيق هذا النصر فإننا نجد القوات العراقية في منحنى تصاعدي تمكنت خلاله إستعادة الروح المعنوية والقتالية للجنود العراقيين، كما أن بروز الحشد الشعبي كقوة قتالية أفضى إلى معطيات واقعية على الأرض ولا سيما بعد إسهاماته الحقيقية في تحرير الأراضي العراقية وإستعادته لها من قبضة داعش وهذه الأمور جعلت القوة العسكرية تميل لجهة القوات العراقية والحشد الشعبي الذي أصبح موازنًا لعمليات المعارك التي تتطلب إشراكه فيها

و هنا يتوّجب علينا أن نجيب على السؤال الأهم وهو؛ ما هو مستقبل تنظيم داعش في العراق؟

وذلك يعتمد على أكثر من متغير، في مقدمتها العملية السياسية، فإذا ما تطورت العملية السياسية وتمكنت من إدماج السنة والتخفيف من مشاعر الإقصاءّ والتهميش، والحد من الحالة الطائفية، لصالح نمو سياسات وطنية توافقية تحكم المؤسسات السياسية والأمنية، فإن هذه ستكون ضربة قوية مؤثرة سلبًا على قدرة التنظيم على التجنيد والدعاية، إذ لطالما إرتكز في خطابه السياسي والعالمي على "الأزمة السنية"

ويرتبط بذلك أيضًا متغير السياسات الإقليمية والدولية، فمن المعروف أن هزيمة تنظيم داعش لم تتحقـق، إلا عندما تواطأ الجميع على ذلك، الأمريكيين والروس والإيرانيين والأتراك والحكومات المحلية والأكراد، فكانت المفارقات مثلًا في العراق أن الطائرات الأميركية تقصف من الجو... فالجميع اتفقوا على إنهاء دولة داعش، لكن السياسات نفسها عادت إلى الإختلاف والصراع... ما يعني العودة إلى الظروف والشروط السابقة التي إستثمرها داعش وساهمت في صعوده، لا يعني ذلك بالضرورة تكرار التجربة، لكنه يعني إعطاء التنظيم الفرصة بدرجة أفضل لإعادة الهيكلية والتكيف والنظر في إستراتيجياته القادمة.

ويجب على الفاعلون المحليون والدوليون إزالة المسببات التي أدت إلى ظهور تنظيم "داعش" عبر بناء نظم سياسية بعيدة عن الاقصاء والتهميش والتمييز في السلطة والموارد على أسس الانتماء العرقي أو الطائفي.

و في الختام، فإنه على الرغم من هزيمة تنظيم داعش سنة 2017، وإنهاء دولة التمكين، إلا أنّ ذلك لا يُعني إنتهاء تهديد وخطر التنظيم على الدولة العراقية، فلا يزال التنظيم موجودًا (فكرًا وممارسة) ؛ متمثلة بالخلايا النائمة وإنّ العمل على القضاء عليها بالقوة العسكرية فقط لن يُحقق النتائج المرجوة ما لم تُرافقها إستراتيجيات سياسية وإقتصادية وإجتماعية  ولتحقيق أقصى فائدة من تطبيق تلك الإستراتيجيات يجب توّفر الإرادة السياسية وبيئة ديمقراطية تُذوّب بها حدة الخلافات والإنقسام الطائفي، فصعود تنظيم داعش مرتبط بأزمة فشل بناء الدولة وعجزها عن تحقيق مطلبين أساسيَّيْن وهما الإنفتاح الديمقراطي وقبول التعددية، فإنحسار التطرف والعنف يعتمد على قدرة الحكومات بالسماح لأفرادها بمختلف إنتماءاتهم بالمشاركة في العمليات السياسية والإقتصادية وشعورها بالرضا والعدل؛ إذ بات من المعروف أن الحركات المتطرفة تنمو في الدول الغير مستقرة سياسيًا والمجتمعات المنغلقة فكريًا.

وبناءًا على ما سُبق، فإن تنظيم داعش هو نتاج الإنقسام بين طائفة (السنّة والشيعة) المسلمَيْن، وهذا الإنقسام هو نتاج سياسة الدولة في تفضيل طرف وتهميش طرف آخر، أي يُمكن إنْ نعتبر تنظيم داعش هو نتاج للفوضى السياسية والإنقسام الطائفي، ولذلك إستغل التنظيم الفوضى السياسية والإنقسام الطائفي لتحقيق مآربه عن طريق فرض نفسها كوْنها المنقذ لطائفة السنّة بالرغم من رفضهم للتنظيم وأفعاله الإرهابية، ولهذا ما كُتِبَ لتنظيم داعش أن تُهزَم إلا على أرض العراق وعلى أيدي إبناء العراق بإختلافاتهِم كافة، وهذا ما دَفع التنظيم فيما بعد للقيام بعمليات غير مركزية وإنتشار ظاهرة الذئاب المنفردة.

وبالرغم من إمتلاك تنظيم داعش لأغلب مقوّمات الدولة، فإن ذلك لن يجعلها دولة بالمفهوم المتعارف عليه بل انها تنظيم ارهابي ليس إلا، وهذا يبدو واضحًا جدًا، فمسلحو التنظيم صوروا أنفسهم وهم يقطعون رؤوس أسراهم، كما نهبوا المدن والقرى التي إستولوا عليها وقتلوا أو هددوا بقتل كل من يخالف نظرتهم المتشددة للإسلام. وقد سرقوا ثلث أراضي العراق. لذا، فليس هناك أي احتمال بأن يحصل هذا التنظيم على عضوية منظمة الأمم المتحدة او أي منظمة دولية اخرى.

 

زينب عبد المحسن حميد

...........................

الهوامش:

(١)فواز جرجس، داعش إلى أين؟:جهاديو ما بعد القاعدة، الطبعة١، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ٢٠١٦.

(٢)  فالح عبدالجبار، دولة الخلافة:التقدم إلى الماضي: داعش والمجتمع المحلي في العراق، الطبعة١، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ٢٠١٧.

(٣) محمد أبو رمان، مستقبل داعش: عوامل القوة والضعف...ديناميكيات"الخلافة الإفتراضية" وفجوة إستراتيجيات مكافحة الإرهاب، عمان: مؤسسة فريدريش إيبرت، ٢٠٢٠.

(٤) ياسر عبدالحسين، الحرب العالمية الثالثة: داعش والعراق وإدارة التوّحش، الطبعة ١،شركة المطبوعات، بيروت، ٢٠١٥.

(٥) حسن عليوي المفرجي، داعش في العراق: بين فشل الدولة المدنية والسياسة الحكومية الأمنية(دراسة تحليلية)، كلية القانون والعلوم السياسية، المجلد ١، العدد٣، ٢٠١٩.

(٦)شمس عبد حرفش، العراق في مواجهة الأفكار والمخططات الإرهابية وتحديات المستقبل بعد هزيمة داعش، جامعة تكريت، كلية طب الأسنان، ٥/٥/٢٠١٩.

(٧) ناظر دهام محمود، نشأة التطرف الديني في الفكر السياسي وأثرهُ على الوحدة الوطنية في العراق بعد صعود داعش، جامعة تكريت، كلية العلوم السياسية،٤/١١/٢٠٢٠.

(٨)إستراتيجية تنظيم داعش في العراق، مركز الإمارات للدراسات، ٥/١/٢٠٢١، الموقع : https://epc.ae/ar/topic/isis-strategy-in-iraq   ، تاريخ الزيارة: ٣١/٣/٢٠٢١

(٩) ادمون فيتون براون، التهديد المستمر من تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة»: وجهة نظر الأمم المتحدة، معهد واشنطن،٦/٢/٢٠٢٠، الموقع: https://tinyurl.com/yy 3t8r9r ، تاريخ الزيارة: ٥/٤/٢٠٢١.

(١٠) حاتم الفلاحي، تصاعد نشاط تنظيم الدولة: المخاطر وفرص المواجهة،مركز الجزيرة للدراسات، ١٠/٢/٢٠٢١، ص٨، الموقع: https://studies.aljazeera.net/ar/article/4911  تاريخ الزيارة: ١٥/٣/٢٠٢١.

(١١) رائد الحامد، "مستقبل داعش" بعد إعلان هزيمته بالعراق وسوريا، وكالة الأناضول، ١/٤/٢٠١٩، الموقع:

 https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%AA%D9%87-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7/1439369  ، تاريخ الزيارة: ٦/٤/٢٠٢١.

(١٢) . معوقات بناء الدولة في العراق{2}..قراءة في الإشكاليات الإجتماعية، مركز المستقبل للدراسات الإستراتيجية، ٢٠١٩، الموقع:

http://mcsr.net/news519، تاريخ الزيارة : .٣١/٣/٢٠٢١

(١٣) هشام الهاشمي، تنظيم داعش عام٢٠١٨ العراق إنموذجًا، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات، ١٨/١٠/٢٠١٨، الموقع:

 https://www.europarabct.com/%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85- %d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%b4-%d8%b9%d8%a7%d9%85-2018-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d8%a3%d9%86%d9%85%d9%88%d8%b0%d8%ac%d8%a7-  %d8%a8%d9%82%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84 تاريخ الزيارة: ٢٥/٤/٢٠٢١.

(١٤) https://www-alhurra-com.cdn.ampproject.org/v/s/www.alhurra.com/different-angle/the- islamic-states-resurgence in-the-covid-era-from-defeat-to-renewal?amp_js_v=a6&amp_gsa=1&amp&usqp=mq331AQHKAFQArABIA%3D%3D#aoh=16172126991534&referrer=https%3A%2F%2Fwww.google.com&amp_tf=%D9%85%D9%86%20%251%24s&ampshare=https%3A%2F%2Fwww.alhurra.com%2Fdifferent-angle%2Fthe-islamic-states-resurgence-in-the-covid-era-from-defeat-to-renewal،   ٥/٦/٢٠٢٠، تاريخ الزيارة :٣١/٣/٢٠٢١.

(١٥) Sean Kane, The Coming Turkish-Iranian Competition in Iraq , United State Institute of Peace , Special Report, Washington, 2011.

.(١٦) Hasan Turunc, Turkcys global strategy: Turkcy and Iraq , the London school or cconomics and Political science, UK, 2011.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم