صحيفة المثقف

سامي عبد العال: النقش على الحجر.. مسئولية الحياة (3)

سامي عبد العالإزاء عملية "القلْب الثقافي" (أي الإحالة إلى الماضي)، يشير التصور الافتراضي للأطفال بوصفهم زماننا الآتي دون استئذانٍ. والغريب في هذا السياق أنْ يتعامل البعضُ مع الزمن كأنَّه يتوقف على وجوده حصرياً. وهذا غير صحيح ولا حقيقي بالمرة. إنه تصور قائم على الوهم كمَنْ ينظر إلى النجوم معتقداً أنه يسيّرها بإشاراته بمجرد رفع أُصبعه إلى السماء. هذا التصور يؤسّس لأغلب مفاهيم المعرفة والأخلاق والسياسية في ثقافتنا العربية، وهو بمثابة القاعدة الأولى للإستبداد الذي يتسرب بعناوين شتى إلى مجالات الحياة المختلفة.

في حين أنه يجب أنْ نتوقع ماهية الآتي دون بلوغه إلاَّ بمواصفاته، أي لابد من التفكير في الإنفتاح لا العودة إلى الوراء، في الإنطلاق لا الإنكفاء، وفي الانكشاف لا التغطية. هكذا تجري دفقات الحياة ضمن حركة الإنسان. ولو ترقبنا الآتي قياساً على ذلك، فلن يعدُّ المستقبلُ زمناً، لقد غدا قدَّراً أنطولوجياً لا مفر منه. وأحياناً قد يأتى كلعنة عاصفة تجتاحنا باستفهام ملعُون[1]: ماذا فعل العرب بحاضرهم، وماذا أعدُّوا لأطفال المستقبل بينهم؟!

الميلاد: ماضياً أم مستقبلاً؟

ذلك الوضع هو ما سيُطرح يومياً بصدد هذا الجانب من الحياة ( ليذكرنا بشبح اللعنة الإجتماعية المدمرة للإنسان كما في بؤساء فيكتور هيجو ). إن ميلادُ طفلٍ ليس ميلاداً عابراً على ما نعتقد، لكنه مسؤولية ألقاها إلينا المستقبل ذاته. ميلاد إحتفى به عمرو ابن أم كلثوم بشكل طقوسي عارم دالاً على موروثات نريد التخلص منها: " إن بلغ الفطامَ لنا رضيعٌ، تخرُ الجبابرُ له ساجدينا". لأنَّ كل لحظةٍ في زمن الأطفال، أصبحت تجاوزاً للواقع، كل فعل لمشاغباتهم غدا ًكسراً للحقيقة، كل حركة مفاجئةٍ أضحت تحطيماً للإعتياد، كل تخيل لدهشتهم أمسى موتاً للتفكير وتحولاً له. هنالك تتولد الصور وأشكال الحياة والآمال والطموحات، والانتهاك للقديم وصراع الأجيال، والاختلاف بين فينةٍ وأخرى.

لا أبالغ، فإن الزمن المستقبلي غريزة في أعماق الفضول الوجودي، أي أنَّه  يقع ضمن الفضول الطفولي بالأساس، حيث لا ينقطع فضول كهذا عن السريان داخل الكائن البشري وإنْ بلغ أرذل العمر. ويجب ألّا نذهب بعيداً، فهناك مجتمعات مستقبلية بالفعل لا بالتوهم. والأغلب أنَّها تعيش بأُطر المستقبل، آلياته، خياله، علاقاته نتيجة اهتمامها الكبير بالغد. وعبر تفاصيل قضاياها الحياتية، تفسح مجالاً لإيقاع الزمن الخفي (مثل بعض المجتمعات الغربية).

وحتى في الماضي الغابر، ماذا كان يفعل الكهان والسحرة والعرافون وضاربو التمائم وقارئو النجوم إلاَّ طقوساً للزمن القادم. هذا المستقبل الغامض- الواضح بتلك الصيغة المركبة. ولذلك فإنَّ الثقافات التقليدية التي لا تتطور ستُطرح ببساطة في بورصة المتاحف كتراث إنساني عالمي، وسيشارك أصحابُها أنفسهم في حفظها، في دفنها بقدر ما سيشارك الآخرون فيه. لينطبق عليهم المثلُ القائلُ: " يقتلون القتيلَ ويمشون في جنازته "، أو كالدبة التي قتلت صاحبها بحجر بينما كانت تريد هشَّ الذُبابَ عنه!!

إذن المستقبل بكل تأكيد هو أطفالُنا على نحو ملموس، تلك البراعم الغضة التي ستجتاح هيكلَّنا القديم، هيكل ثقافي كم تعبدنا خلاله وقدسناه، فحلّ محل الزمن المتغير. ومن ثمَّ جاءت المفارقة: كيف نخاطبُ طفلاً كُنّاه يوماً ولم نعشه؟! بأية طريقة نعطيه حياةً نحن قاسيناها عَلّه يعبر عن أملٍّ جديدٍ؟ لقد أورثنا الطفولة بنيةَ الواقع الإجتماعي المهترئ وغير المتطور، واقع أثقلته تقاليد ثقافيةٌ في حاجةٍ إلى مراجعة صارمةٍ. وحتى العبارة العابرة " لعب عيال" توثِّق كخطاب شائع في موقف ساخرٍ أو آخر هذا الحطَ من شأن الطفولة. على الرغم من أنَّ هذا اللعب هو المسار الذي يجدد هواء المجتمعات وينعش الأفكار ويطور ما تكلس من أمور!!

الواضح أنَّ المجتمعات العربية تجاهلت كائناً افتراضياً كهذا مثلما تجاهلت مستقبلها نفسه. والإشارةُ سانحة إلى كونها مجتمعات قد تشاغلَّت عن صناعة المستقبل[2] كما تشاغلَّت عن إبداع جوانب الحياة قاطبةً. كانت الطفولةُ في تلك المجتمعات مستقبلاً أهملته، وأعطته ظهرها، فوجدته بالتبعية كارثةً أمامها. ولذلك كثيراً ما كان أطفالُّها هم الزمنَ المكروه، هم الزمن المنسي الشاهد على خطاياها. بدليل أننا نغتصب الطفولة حينما نعاجِّل طفلاً بأن يكون رجلاً، أو نتحدث معه على أنه كذلك بكلمات هرِّمة ضد مسار الحياة!! نحن نفعل باصرار كمن يُنْضج ثماراً في غير أوانها!!

الثقافة العربية نفسها ستنذر باحتمال أن ينكسر القِدْر الفخار في عبارة ( اقلب القدر على فمها تطلع البنت لأمها) المرموز بها إلى التقاليد. وعكس ذلك تقول عبارة أخرى" إنْ كبر إبنّكَ خاويه". لكن ألم يكُّن الإبن منذ قليل موضوعاً لقمع تربوي؟! الموضوع يحملُ الوجهين: فالقِدْر الذي هو الفخار، هذا الهش في صلابته معرَّض لخطر التحطم، إذ كيف تلعب الثقافةُ أدوارَ القولبة فيما لا قالب له إلا هشاشته؟! قطعاً كل ما تم تعبئته من ماء الحياة الإجتماعية، ماء التقاليد والقيم سينسكب، سيتسرب في لمحة عينٍ. منْ يخاوي من، الأب تجاه إبنه أم الإبن تجاه أبيه؟ لنلاحظ أنَّ" الكِّبَر" يحملُ الزمنَ القادم الذي تحدثت عنه، بينما المثل يؤشر إلى شيء عميق هو: أن الطفلَّ عندما يكبر، فسيكون في زمنٍ غير زماننا، إذن لابد أنْ نخاوي الزمنَ نفسه( أي نتحسب لتحولاته ونعمل على التهيؤ لها). لابد أن تبذل المحاولات كي نأمّن غوائل الزمن، ولكن ليس من وسيلةِ لأنْ نأمنه دون التخطيط لمستقبلٍ أفضل.

في المقابل لن يملك الأب ولا الإبن زمنهما مهما تقاربا أو تباعدا، لأنَّ الإنسانَ (بمصطلح هيدجر: الدازاينDasien) هو كائنٌ زمنى في أساسه، يخترقه الزمن، يحيطه الزمن، وتعد ماهيته زمانيةً، إنه يشعر بتناهيه في نفسه وتبادلياً يشعره الزمن بتناهي وجوده. إنَّ الموجود هناك، أي هذا الدازاين، سيكشف تناهي الثقافة والحقيقة، وبالتالي تناهي القوالب التي صاغتها لأجله حياتياً. ولئن حاولنا معرفة أهم التحديات التي تواجه هذا الكائن الآن، فإنها معطيات وأحداث تعمل عبر الثقافة عملَ ضربات حفائر اللغة ونخرِّها ( ألا نتذكَّر طيور نقار الخشب الباحثة عن يرقات العسل أو الديدان الصغيرة )، إذ تترك أثراً أو تفتح فضاءً لمعنى أو تحرِّك راسباً. يُشار بذلك أنَّ صياغة خطاب الطفولة ستظل في حاجة إلى معجم معرفي مغاير، وإلى مستويات من التعبير، وإلى أساليب جديدة في التكوين والأداء.

خطورة الطفولة

الطفولة إشارات وعلامات قابلة للتأويل داخل الثقافة، أي أن إشارات تمرُدها وتحديها لسلطة القيم وخرقها لهيمنة الأفكار والتراتب الإجتماعي يكشف طبيعة الثقافة. الطفولة رمز العبث الحر بهذه الأشياء جميعاً ومجال للتلاعب الساخر بها. وهذا الأمر من تلك الزاوية أمر ايجابي تماماً رغم آثاره الجانبية الكثيرة. إنَّ انحراف الإمكانية، الرفض، التغيُّر، الكسر، التمرد هي فراغات مستحيلة الملء داخل كيان الإنسان. ولدى الكيان الطفولي يصبح التمردُ والرفض قويين.

وما لم نواكب هذا الكيان الطفولي النزق والبريء بنظام معرفي وتربوي متطور، فإنَّه سيمثلُ تحدياً حياتياً للقولبة التربوية، ولن تكون التربيةُ هنالك إلا تجلياً للقمعِ الثقافي. والنظام المفترض يجب أن يتيح مساحة للإبداع والإبتكار، ويجب أن يحرر القدرات والمواهب من القيود المجانية. هناك مثل متأخر دال في هذا الصدد: "يا م أَمّنْ الرجالَ يا م أَمّنْ الميّه في الغربال"، ولكن لماذا الرجال تحديداً بخلاف النساء؟ لأن الرجال رموز لإمكانية الأطفال الذكور فيما بعد. الرجال كانوا شكل المستقبل فيهم، بل الرجال بمثابة المستقبل كلِّه من واقع أنَّ البنتَّ موءودة ودُفنت، وأنَّ خروجها النهائي (الطقوسي) كان تحت وصاية الرجل. وفي الحالتين (الزواج والقبر)، يعد الخروجان الأنثويان كليهما موت، وعليه لن يبقى إلاَّ الرجالُ. كما أنّ المثل بالتأكيد لم يقُله الرجال، بل قاله الجانب الصامت من المجتمع، الجانب الذي يمثل بحسب التقاليد عورة وافتضاحاً وهو النساء.

وبالطبع فإنَّ مقصود العبارة هو إمساك عنق الرجال بمقابض السلطة، وليكن قمع النساء جارياً في الخفاء. مع أنَّ العبارة السابقة تحمل الشيء ونقيضه جنباً إلى جنب، فالإغواء مزدوج وسيذهب بالطبع إلى إمرأةٍ هي نفسها تُحذّر المجتمع كله( من النساء) عن طريق الرجال. فالرجال لن يكونوا موضع ثقة تحت عين النساء إلاً بعيداً عن المرأة، وهذا مستحيل بالقطع. لأنَّ الطرف الآخر في أية علاقة ذكورية هو الأنثى بطبيعة الحال، فالرجل لعوب، لأن هناك إمرأة لعوب والعكس صحيح.

لكن النقطة الحيوية أنَّ دلالة عدم أن نأمّن للرجال هي ذاتها دلالة تغيُر الإنسان وتمردَّه. وأنَّ مكانة الرجال كأنماط مهيمنة تأكيد على أن التغيُر قد يشمل الحياةَ، المجتمعَ نفسه. والإشارة هنا ستنطوي أيضاً على تغيُر الفرد، وشخصه الإعتباري والنظرةِ إلى العالم وصورةِ الحقائق الإجتماعية. وتواتر الماء ما بين القِدْرةِ والغربال يعني استحالة إمساك سلوك الإنسان وطاقاته عبر أُطر مغلقة. فالطفولة هنا رغبة، فضول، جموح في الخيال، نشوّة لا تنتهي، سعادة وجودية، لعب وانهماك في الواقع، وذلك مما يجعل الطفولةَ مصدراً لتجديد رؤيتنا للحياة.

الوعي بالأزمات

لعل الطفل هو أكبر أزمة فعلية في الواقع. وهو جزء  فاعل من جسم الثقافة أو هكذا يجب أن يكون[3]. فالوعي يجب أن يستوعب المواقف التي تجسدها الطفولة بناء على جذور الثقافة العربية، وكيف تتسق أنسجة هذه الثقافة مع المساحات الأخرى في الحياة. كثيراً ما نرتكب خطأ نسيان الأزمات ونتجاهلها دون دراسة ولا تحديد، وبخاصة في المجالين الإجتماعي والسياسي، غير أن الأزمات تتناسل، هي تغيب بفعل جوانب الثقافة هنا أو هناك، لكنها سرعان ما تظهر أشدَّ شراسةً وفتكاً. والرأى المرجح أنَّ الثقافة تغدو أعظم تأثيراً وهيمنةً حينما لا نشعر بها، وقد لا نراها متربصة بالكيانات التي تشكلُّها، لكنها تضغط عليها وتحكم قبضتها في سرية وتكتمٍ.

والأطفال يدخلون في دائرة هذه الكيانات، هناك عادة قميئة في المجتمعات العربية أنَّ الطفل مجرد قطعةَ أثاثٍ بشري ملقاة في المنزل وهو أخر موضوع تفكّر فيه الأسرة، إنه الكائن اللا مفكَّر فيه، وربما لا تنافسه في موقعه هذا إلا المرأةُ. بمعنى أنهما فائضُ وجودٍ، هما منسيِّان مقارنة بالإهتمامات والأعمال الأخرى، ولا يُلتفت إليهما عادةً إلا لاحقاً، كأنهما قلادتان في معصم  أصحاب الذاكرة المركزية(الرجال). وهذا أبرز وجوه الأزمات الإجتماعية الطاحنة، لأن الطفلَّ، وطبعاً المرأة،  كلاهما يمتص بشكل غير مباشر كافة الصدمات والآثار ويفرزاها سُماً ثقافياً، وعلى أساس أنهما لم يكونا في بؤرة الحياة، فإنهما سيغدوان خيطاً أصيلاً من أزماتنا دون أن نعرف أحياناً!!

صناعة الحياة

هناك سؤال حقيقي حول عدم قدرة المجتمعات العربية على إبداع الحياة. فمَنْ لا يبدع نمط الحياة لا يستطيع أن يحياها. ونحن لا نهتم بالطفولة، لكوننا لا نجيد فن الحياة، ولا نفهمها في أعماقنا، في إحساسنا، في غرائزنا، ولا في الطبيعة المحيطة بنا. والحياة العربية سؤال دموي بلون الدماء التي ملأت تاريخ العرب القديم والحديث، لقد كان فخرهم دماءً، كان هجاؤهم دماءً، حتى حبهم كان دماءً وبكاءً على الأطلال، كانت غزواتهم دماء، كان صراعهم دماءً، كانت ثوراتهم دماء، كانت مشاعرهم دماءً في ماءٍ!! ومازالت الأم العربية في القرى والأرياف المصرية حين تتوعد طفلها تلاحقه قائلةً: "سأشرب من دمكَّ لو فعلتَ كذا.. وكذا"!!! هل تخيلتم إلى أي مدى يتم قتل الطفولة رمزياً داخلنا، وكيف نعطي الطفلَّ انطباعاً بأن معنى الدماء عمل تربوي. وفي الأحداث الربيعية الأخيرة التي عاشتها المجتمعات العربية، شاهد الأطفال كميات من الدماء لم تشاهدها أجيال وأجيال في مجتمعات أخرى.

لقد أضحت صورُ الدماء كأنها أمور إعتيادية، وغدت صور الأطفال المقتولين، الأطفال المشوهين، الأطفال الباكين، الأطفال الخائفين، الأطفال المشردين، الأطفال اللاجئين أشياء نمطية إعلامياً. أخطر ما فعله الإعلام المعاصر هو ترديد الشيء الإستثنائي على أنَّه شيء مألوف وقابل للتكرار سواء في الحروب أو ظواهر الأستبداد والتخلف. الخطاب الإعلامي جعل من الدماء لغةً يفهما الأطفال (ببراءة) مع اضطراب الأحوال الإجتماعية والسياسية، جعلها لغة للقتل والثأر والبتر والإستئصال. وعندما تتلقى البراءةُ مشاهدَ مروعةً تنقلب إلى سلوك عنيف، فالطفل نظراً لمخاوفه الدائمة، ولخياله القوي، يتصور نفسَّه من بين الضحايا، وعلى ذات الطريقة يتصور أقرانه وأخوته غرقى في دمائهم. ولذلك هناك جانب من التحدي كيف نجعل الأطفال يعيشوا بهجة حياتهم، كيف يلعبوا وهم في سعادة غامرةٍ دون كوابيس الدماء؟!

عالم الديجيتال

إنَّه تحدى الواقع الإفتراضي، نشاط الصورة، الأيقونات، الرموز، الأفعال الإفتراضية البديلة، الخيال التقني واسع الحركة والتخلُّق. وكلها موضوعات ترتبط بشكل أو آخر بالتقنيات والفنون الإلكترونية، وهي موضوعات أصبحت فضاءً للعب الطفولي وتجسيداً له، في الوقت نفسه تمتص كافة طاقاتهم حين تشعرهم بالسعادة، إذ ذاك ينصرفون بشحناتها تجاه الموضوعات الواقعية، وتجاه حقائق المجتمع. ليس معقولاً أن نتعامل مع أطفالِ التكنولوجيا بخطاب( قلب القِدرة على فمها )، أو بخطاب: " إبْنِّك على ما تربيه وزوجك على ما تعوديه".

ومن أسف أن التربية والعادة في المجتمع العربي هما الشيء نفسه، يتبادلان الأدوار ويتواطئان أثناء الممارسة، فإذا أرادَ الطفلُّ أن ينتقل من مرحلة الطفولة، مرحلة الزمن المفتوح والخيال الجامح والفعل المتهور، إلى الرجولة فُرض عليه الخضوع إلى التعود في الحالتين.

ليس تحدي التكنولوجيا مادياً كما قد يفهمه البعضُ من جهة التأكيد على إمداد مؤسسات الطفولة بأجهزة وتقنيات عصرية، إنما هو في الحقيقة تحدي للبقعة المفرَّغة من المجتمع، بقعة مراوغة خارج المؤسسات، هي"بقعة الخطاب العام" عندما توفر خيالاً موازياً لقدرات الطفل. في هذا الصدد لم تتسع اللغة العربية حتى الآن- من داخلها-إلى مفاهيم العالم الإفتراضي ونظرياته. كانت ومازالت لغتنا المتعلمة لغةً تراثية بإمتيازٍ، لذلك يستمد الخيالُ التقني في ضوء تعبيراتها مخزونَّه الدلالي من مفردات الصحراء وحيوانات البداوة وتهويمات الجنيات والسراب وقت القيظ، وبقايا الأطلال.

حتى أن هناك من يفسر الخيال ابتداءً بــ"رباط الخيل" الموجود في القرآن،  وهناك من يطلق على السينما " دار الخيالة". وبصرف النظر عن كون التفسير محتملاً أم لا، فإنَّ  للخيل علاقة تاريخية بالتراث أقرب من علاقته ذاتها بالحياة في عصر المعلوماتية والإتصالات الافتراضية. والطفل على الرغم من أنه يعرف (الخيول العربية الأصيلة)، إلا أنه بات أكثر درايةً بحيوانات إفتراصية غير أصيلةٍ، وبات يعْرف عنها بصورة أعمق مما يعرف عن تراثه كله. وبدا واضحاً له أن مجتمعه العربي مازال يربي الخيول العربية الأصيلة بينما يخلو المجتمع ومعارفه الراهنة من أيّة أصالةٍ راهنة. إذن على الرغم من أن الخيالَّ يمتدُ إلى مالا نهاية إلاَّ أن الثقافة تردّعه، تقهره تحت تاريخية الواقع المعيش. لأنه في بيئة تستأثر حيواناتهُا بالأصالةِ دون الإنسان، ينعدم مجتمعُ المعرفة المفترض أن يشبع الخيال الطفولي.

معرفة دون حدود

الطفل كائن مستقبلي بالطبيعة، إذن كيف يمكن إعداده نفسياً وقيمياً وسلوكياً ليعيش زمنه ضمن تلك المجالات على اختلافها؟! كيف يتسنى بناء مؤسسات وبرامج ومواد تربوية وفنون بمعايير المستقبل لا الماضي؟! وفي الوقت ذاته لا يبدو الأمرُ سهلاً، لأن التربيةَ كلٌّ لا يتجزأ عبر جوانب المجتمعات. ويفترض أنه إذ تعطينا التربية طرَّفاً من الخيط الممتد إلى الماضي، فإنها ترمي بالطرف الآخر تجاه القادِّم كحياةٍ بأكملِّها. بمعنى أننا لا نستطيع الانخراطَ في أية عملية تربوية دون تجديد الواقع وحل مشكلاته وإعادة النظر إلى القديم وترميمه، وكذلك إنْ أردنا مكانةً في التاريخ، فلابد من تصور هذا المستقبل على نحو مختلفٍ.

نحن نطرح هذا مع علمنا بافتقاد ثقافتنا العربية إلى ما نحاول إلى تقديمه مستقبلاً، فالتربية الشائعة كما قلت ببساطة لون من المحاكاة والقولبة والقمع وفقاً لما قلدناه وتقولبنا في إطاره، بينما التربية المنفتحةُ إذن تربيةٌ متطورةٌ. وبالإنفتاح على العوالم والثقافات نجدُ أن هناك رفضاً واسعاً لكل ما يقدم تربوياً ولا يناسب قدرات الأطفال ولا عالمهم( هو رفض بلسان حالهم ). ومع محاولة تقديم المناسب، سنكتشف أننا لم نعش هذه الطفولة: فمن أين سيأتي الخيال والفكر حتى نخرجهم من" أرجُوحة التاريخ" العربي عندما سنجد القديم مستقبلاً والمستقبل قديماً!! إنه التحدي بصدد الخطاب: ماهي الأساليب التي نستخدمها لإيجاد صياغات لغوية لا تلجأ للتلقين والحفظ والقولبة؟ فأنماط الخطابات التربوية السائدة في الثقافة العربية أنماط لإغتيال الطفولة ليست أكثر.

المعرفة أضحت قوةً لا قبلَّ للمجتمعات التراثية بها، فالدول المتقدمة معرفياً تعيش في عالم آخر بالحقيقة لا المجاز، المعرفة استراتيجيات للمستقبل، لتصور الغد (كأنه عالم مغاير). والتعليم يعالج هذه النظرة المنهجية لأي بناء معرفي من خلال ترجمته إلى صيغ للخطاب التربوي والثقافي. وضروري أنْ يواكب في مقرراتهِ وصياغاته وطرائق تدريسه: ما معنى أنْ يعرف الإنسان، وكيف يعرف وما هي آفاق معرفته، وكيف يغير معرفته، وكيف ينسى ما تعلَّمه بسهولة؟ والطفولة مجال حي وإفتراضي يجعلنا قادرين على التعايش مع هكذا معرفة.

إن المعرفة المتغيرة جزء من خطاب الطفولة، فلا نستطيع مخاطبة الطفل دون معرفةٍ عميقةٍ بطبيعة هذه المرحلة وتطورها، ولا نستطيع تعليمه دون تقنيات ولا مناهج جديدةٍ. واللغة حتى تصبح مؤثرةً يجب اعتمادها على بلاغة الفكرةِ، بلاغة الصورةِ لا سجع الألفاظ ومهابة النصوص. ولعلنا نلاحظ في ثقافتنا العربية أنه نظراً للبطانات البلاغية للعبارات بموازاة قهر الواقع، فقد اختفت بلاغة المفاهيم، لأنَّ الأخيرةَ تحتاج إلى رؤية وحرية ومعايير عقلانية من أجل الصياغة والتلقي والفهم. وفي حالة غياب أشياء كهذه يسود خطاب الخرافة، هكذا سنجد أنَّ معظم الحكايات التي خاطبت الأطفال كانت قصصاً مملوءةً بالعفاريت والجنيات والساحرات والأشرار وبنات السلطان ومناكيد العبيد والجواري وقصص المتسولين والظرفاء، كانت قصصاً تقدم لهم خيالاً منتفخاً في مقابل ضألة الواقع وتقزُمه، وكانت لا تعطيهم معرفة بالحياة، بل تطبع دلالة الألفاظ بسحرية الأفكار وتهويماتها. ويظهر أن هذا مكون من مكونات الخطاب العام، فقد بلورت " ألف ليلة وليلة " مثالاً تاريخياً على إنتاج الصور البلاغية والخطابية اللاعقلانية.

المجتمع المدني

إنَّ تحول لغة المعارف والتداول من لغة سلطوية، لاهوتية، لغة الأرقاء والجواري والعبيد إلى لغة الحقوق والحريات والتسامح لايعني أكثر من ضرورة تغيير الخطاب الخاص بالطفولة، وتغيير نمط الحياة السائد جذرياً. لأنَّ فائض لغة السلطة والقهر أصبحت راشحةً في كل مكان من الخيال الجمعي. كثيراً ما نُطلق على الطفل المهذب (المؤدّب) اسم الطفل (الأمير). وكلمة الأمير ذات مخزون سياسي كما هو معروف، لكن نظراً لأنَّ السياسةَ شكلَّت في النسيج الثقافي العربي النموذج الأعلى والمطلق مختلطاً فيه الديني والأخلاقي والإقتصادي والإجتماعي، فقد كانت لفظةَ (الأمير) اسقاطاً لكل هذه المحمولات على ذلك الكائن الإفتراضي. كان ذلك بالطبع اسقاطاً ثقافياً غير واعي. وبينما كان المدلول الأخلاقي في المقدمة ليناسب الحالة، فقد أصبح مدلولاً جارياً كنقطة تمويه مؤقت هو الآخر لإستعادة القمع والتسلُّط.

والمجتمع المدني يمثل تحدياً لكل ما ينتمي إلى خطاب الطفولة ومفاهيمه، لم يغب سوادُ الوجوه الذي جاء به القرآن واصفاً من يُبشْر بالأنثى: " وإذا بُشرَ أحدُهم بالأنثي ظل وجههُ مُسوداً وهو كظيم"، علامة جسدية من علامات الخطاب الثقافي، لكأن سوادُ الوجه نتيجة مولد الأنثى هو إشارة إلى التجاور الدلالي مع تدني النظرة إلى الوجوه السوداء في الواقع الإجتماعي. وإضافة إلى ذلك لم تختف عادة دفن الإناث، وأد البنات، هذه الظاهرة ( الجاهلية ) عن حق. كل ذلك أخذ اشكالاً خطابية جديدة، حتى أنَّ خطاب (قلب القُدُور) أقلُها وضوحاً، هناك تحقير دائم للمرأة وممارسة علنية وخفية للعنف اللفظي والجسدي إزائها، وهناك قتل للمرأة بسبب الفضيحة، بصمات المثل الشعبي تقول: " يا م خلِّف البنات يا م لاحقك العار حتى الممات". بجانب ذلك لا يُعترف بحقوق الأطفال إبتداء، وينتشر العنف الواقع عليهم، هم أول الضحايا وأخر الناجين من اللعنة الإجتماعية.

طفل العولمة

لم يعد وجود الطفل محلياً، بل أصبح طفلاً كونياً. أدواته الفنية وأفلامه، معارفه، المواد الغذائية التي يتناولها، ألعابه الإلكترونية، ملابسه، الصور التي تغلف مقتنياته.. كل هذه الوسائط تعكس ثقافة عولمية. إن فيلماً للرسوم المتحركة مثل توم وجيريTom and Jerry  جَسّد ثقافة خارج نطاق المعايير المحلية. ومع كونه مُعبراً عن صراع بين القط والفأر، إلاَّ أنه مثلَّ إسقاطاً عولمياً لكيفية بث نمط  من الخيال العابر للحدود. فكائنات الفيلم معروفة تمام المعرفة، غير أن الدلالة التي تُعطّى للصراع شيء آخر، إنها قابلة لأن تُحملّ بحمولات ثقافية وسياسية وإجتماعية، وربما طرح فيلم كهذا ليتجاوز الثوابت الثقافية رغم أننا لا نرى فيه من تلك الزاوية تكُّلفاً ظاهراً. ولنلاحظ أنَّ توم وجيري كان يحظى بنسبة مشاهدة عالية من الأطفال، بل كانوا يتماهون بأنفسهم ضمن مغامرات القط والفأر فتكون المشاهد والموضوعات والرموز أفعالاً بالإنابةٍ. لقد تجاوز الفيلم الأعمار بمعنى إقبال كل مراحل الطفولة على مشاهدته. ومن جهة اللغة نجده غيرَ مصحوبٍ بأي حوار أو كلمات، مكتفياً بالحركة والأفعال الافتراضية. الفيلم صامت بينما تقوم الأشكال والموسيقى والتقنيات بدور اللغة، وأخذت في صياغة الخطاب الذي يحمل الرسالَّة ليتلقاها الأطفال في الموعد والمكان الرمزيين.

المشكلة أنَّه لم تعد تجدي اللغة التقليدية التي إعتاد عليها أطفالُنا، هناك دراما الصور، صراع العلامات، اللغة ذاتها أضحت مهددة بالصمت الذي يجسد المعاني، لتغدو لغةً بمفاهيم أخرى، ولتأخذ شكلَّ كتابة تصويريةٍ أشبه بالكتابة الهيروغليفية القديمة في الحضارة الفرعونية. لنتخيل ما أحدثته العولمة، هل استوعبنا رمزيتها، هي هيروغليفية سيميائية من نوع جديد، نظراً لسيادة الحروف التصويرية أمام الأصوات والكلام المنطوق.إذ ذاك تصبح الصورةُ لغةً لها قوانينها وقواعدها الفنية، ولها تأثيراتها، ولو ركزنا على ذاكرة الأطفال لوجدناها تتأثر بالصور أكثر من الأصوات. وهذا تحدي جذري، لأن ثقافتنا العربية ترتَّدُ في أصولِّها إلى مرجعيات شفاهية، الذاكرة لدينا ذاكرة منطوقة، ذاكرة صوتية بملء الكون والحقائق والمقدسات. فالقرآن حينما يأتي على ذكر حواس الإنسان يقدّم الأُذن على كافة حواس الإنسان الآخرى: "إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُ أولئك كان عنه مسئولاً".

القرآن يؤكد شيوع الأذُن وسيادتها دلالياً في الثقافة العربية، فمازلنا نردد أثناء الحديث اليومي: "إن للحطيان آذاناً" خوفاً من إبلاغ الكلام إلى آخرين، والكلام بهذه الآذان المتنصته كان مكوناً من مكونات المؤامرات والدسائس والفتن الدينية والاجتماعية. وفي ديوان العرب كان الشعرُ يتم تناقلُه وإلقاؤه مشافهةً، لدرجة قول الشاعر العربي في سياق الحب "إنَّ الأذنَ تعشقُ قبلَّ العين أحياناً"، وكانت تقاس قدرة الشاعر الفحل بقدرته على قرض الشعر شفاهةً. لذلك إستمر تأثرنا بهذه الفحولة الشعرية أملاً في" التفحُل الإجتماعي"، فهناك ثقافة الإشاعة التي تنتشر كما تنتشر النيران في الهشيم. السياسة تدار وكم أديرت بالإشاعة، وكانت الحركة الإجتماعية تتسارع وتيرتها بالإشاعة، الزواج، الطلاق، الطقوس والمناسبات أشياء تُفعلَّ بالإشاعة، معرفة الرأي العام يُجس نبضهُ بالإشاعة، التنمية الإقتصادية، الشراء والبيوع تجري بالإشاعة، تحقيق الطموحات والأهداف الشخصية تقاس درجات قبولها أو رفضها بالإشاعة، حتى غدت الإشاعة الصوتية قانوناً من قوانين ( الفيزياء الإجتماعية ) لتأثير التربية والمعرفة على السلوك في المواقف الحياتية.

وسرعان ما ترجمت هذه الظاهرة في عالم الطفولة بتصور شعبي مؤداه أنَّ "العيال" مصدر نقل الأخبار والحكايات والخطابات الأسرية، يُقال في موقف سماع الأخبار: " خذوا فألَّكم من عيالكم". ليس المقصود بذلك التفاؤل في كل الأحول، بل عبر الأمرُ عن حديث الطفل بكل ما يسمع، فهو الأُذن الخلفية للعائلة العربية والكاميرا الخفية في المناسبات والطقوس والعلاقات. وقد وردت كلمة العيال كدال على الأطفال، وهي آتية من كونهم معِيلِّين، أي وجوهم وجود طفيلي في دائرة أولياء الأمر والنهي. ولا يعدُّ هذا حطاً من شأنهم فحسب بل يضعهم في مكانة مسلوبي الإراة والوجود.

هكذا تعبر الثقافة عن" أخذ الفأل " بواو الجمع ( خذوا فألكم ) التي ترتد إلى أصحاب القوة في العائلة، وفألكم جاء بصيغة النسب، أي أن الأمر في النهاية منكم وإليكم. والعيال في هذا السياق ما هم إلاَّ مجرد وجود سلبي مرتين: مرةً لأنهم عيالكم، فلا جديد ولا رأي لهم من جهة الرفض والقبول: ومرة تاليةً لأنهم وسطاء لنفاذ الفأل والنميمة. والقضية بصدد خطاب الطفولة كالتالي: كيف يتم تحول الإهتمام من الأذن السامعة إلى الأذن التي ترى وتحس وتتذوق وتتألم وتشم؟ الطفل كتلة من الطاقات الحية نتيجة هذا الإندماج بين الحواس، فعلى الأقل يجب أن يكون هناك خطاب يلبى قدراته واندهاشه المتنوع؟

 

د. سامي عبد العال

..........................

[1]- الأسئلة ملعونة، لأنها تفتح عمل المجهول (المفاجيء / الفاضح / غير التقليدي / الشيطاني) إذ يجري البحث عن وضوحه الخفي. ومن يطّلع على إجاباتها يلاحقه المجهول، تلاحقه الشكوك وبخاصة وسط إهمال المجتمعات العربية لقضايا معروفة كقضايا الطفولة والمستقبل والخطاب والسلطة. وإذا كان الواقع بائساً، فإن من يقاربه أو يقترب منه لا بد أن تلاحقه  اللعنات من كل حدب وصوبٍ، لعنة السياسة، لعنة الفضيحة، لعنة التقاليد. السؤال نفسه ناتج عن واقع اللعنة كما أشار هيجو، فكيف يعيشه الإنسان بلا ملاحقة؟! عليه أن يعيشه كما يوجد، عليه أن يعمل مروضاً للعنات، لو تخيلنا وظيفة جديدة للمفكر فإنه يطرح الأسئلة لإكتشاف اللعنات وتراكمها وكيفية تواطؤها مع مفاهيم اللامساس والمحرم والفضائح والعيب. لابد أن يتعلم المفكر ويتدرب ليل نهار على طرائق ترويض اللعنات وأثرها.  إن كل سؤال عما هي أسباب البؤس ومصدره، سيكون الاستفهام بتداعياته مصدراً للشقاء، مصدراً لمس مأخوذ بالشكوك واللعنات. السؤال الملعون بمثابة السؤال الذي يلاحقك وأنت تعيش في إجابته المترامية بحجم الحياة، وبفضل مراوغة اللعنة، فإن الإنسان لا يرى إجابته الضخمة موضوعاً لذات السؤال، فالأخير يحتاج إلى وعي مغاير بينما الإجابة تتقمصك في كل مكان. السؤال الملعون سؤال الأزمة المتناسلة  حين لا نعرف بدايتَّها ولا نهايتَّها. وإن كنا  ندري أنها أزمة، فهي تطرح إجابات على أية أسئلة محتملة، كما لو كانت غير متعنيةٍ بكيانها ولا بتداعياتها. السؤال الملعون سؤال نهم كالثقب الأسود لا تسد فجوته أيةُ إجابة. السؤال الملعونة لهو سؤال نعرف إجابتَّه ولكن لم نستطع تحديدها ولا تأسيسها ولا النظر خلفها مثلما تصنع الدوامات، لأننا ما أن نبادر بالإجابة عليه، حتى نفقد زخم الاستفهام، نفقد الإستفهام ذاته نتيجة الدوار الذي نصاب به.

[2]- عدم الإهتمام بالمستقبل في الثقافة العربية فعل خلفي للتأثر بالفكر الديني السلفي. وناتج عن سوء فهم حقيقي لمفاهيم القَدّر والزمن والدنيا والإرادة الإنسانية. فحينما يكون إنسانٌ بصدد الحديث عن المستقبل تقال له عبارة دالة:"لا تتأله على الله". وكأنه يحاول اغتصاب القدرة الإلهية في خلق  أحداث المستقبل، من جهة أخرى يقال في هذا الشأن أيضاً لا يجب أن تتحدث حديثاً هو من أفعال المنجمين والعرافين. في إشارة إلى أن ذلك اشتراك في انتهاك الحجب والتنبوء بما لا يصح. ولا يعني ذلك فقط عدم الخوض في المسائل الدينية بل إنغلاق العقل معرفياً أمام مسائل المعرفة والتخطيط والحقائق والتحليلات المستقبلية. لأن الثقافة تمدد دلالة المحرمات الدينية إلى أن تكون محرمات ثقافية معرفية. لنأخذ مقولة الإمام على بن أبي طالب حينما سئل عن القدر فقال " طريق مظلم فلا تسلكوه وبحر عميق فلا تلجوه وسر الله فلا تتكلفوه " (علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، جمع واختيار أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، دار العلم للملايين، بيروت لبنان 1982 صـ 489).  فقد جاءت كلمة القَدّر قريبةً من القِدْر بل الاختلاف بينهما موجود في التشكيل والنطق فحسب. كانت معالجة القِدْر الوارة في صفحات المتن بالملء من القيم والتقاليد، أي تم قلبه إلى الأرض. إي تم وضعه في حالة موت غامض أو واضح المهم أنه قد انتهى إلى الانكفاء على الماضي. أما حديث المستقبل في القَدّر، فهو طريق مظلم، موحش، غير محتمل السير فيه، والمقولة تنهي بصورة قاطعة عن السير خلاله، وهو أيضاً بحر عميق متلاطم الأمواج ولا يعدو أن يكون في الأخير سراً من أسرار الله. إذ ذاك ماذا ننتظر من الثقافة العربية في نظرتها إلى الآتي؟ إنها ستعمم هذا النهي وعدم الإقتراب حتى ولو كان على أسس معرفية واستراتيجية. وليس مصادفة أن تغيب مباحث المستقبل إلا من مؤلفات حول قيام الساعة وووصف الجنة والنار والصراط. حيث يترك من زاوية ثانية  المجال واسعاً لكتب العرافة والنبوءات وللخطاب الديني الأخروي فقط. حتى أن القارئ يظن كون الحقيقة كل الحقيقة لدى هذه المصادر حصراً. والغريب أن يفهم الخطباء والفقهاء والدعاه هذه اللمحة فكان حديثهم عن المستقبل منعدماً في غير خطاب الوعيد، خطاب العذاب والعقاب الذي أعده الله للكافرين والعصاه والمذنبين. واحتكر هؤلاء الحديث عن المستقبل وحرموه على غيرهم حتى يضمنوا  ولاء العامة وخضوع متلقي الخطاب لأفكارهم واتجاهاتهم. وبذلك مثل احتكار المستقبل رصيداً ضمنياً لصدق الخطاب على أساس أنهم يعرفون أخبار الجنة والنار رميا منهم باتجاه الغيب.

[3] - الوعي بوصفه تحدياً ولا سيما الوعي بالأزمات يعتبر معنى جديداً بالإجمال على إيقاع الثقافة العربية. نأخذ هنا قول المتنبي لشرح القضية: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم". الوعي الشقي وعي يهتم بالمشكلات وكيفية إلتقاطها وتشخيصها في نفس الوقت الذي ينعم غيره من أنماط الوعي بالحياة ولو كانت كلها جهالة في جهالةٍ. والوعي بالأزمات معناه أنه وعي مبدع لكونه يعطي المحيط الذي يجري فيه إهتماماً تساؤلياً، وهو وعي ينطوي على المبادرة والنقد والطرح  والقدرة على التجاوز وإبداع حلول مبتكرة للمشكلات التقليدية. وإذا كان المتنبي قد وضع صاحب العقل في مقابل أخو الجهالة فليس ذلك إلا نقداً للواقع الثقافي المرير، واقع شقي ومع ذلك يعد جنة بالنسبة لصاحب الجهالة، فهو أفيونه الذي لايستطيعالإبتعاد عنه، ولو خرج منه سيشعر بأعراض انسحابية مميته.

أخذ المعجم العربي الوعي بمعنى الوعاء كما ور بلسان العرب:" الوَعْيُ: حِفْظ القلبِ الشيءَ. وعَى الشيء والحديث يَعِيه وَعْياًوأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلانأَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ". الوعاء يساوي الاحتواء، الإمتلاء، ولزياة الإمعان في معطى الإحتواء أن يربط الوعي بالحفظ وهو ما يدل على الثبات وإبقاء المحفوظ قيد الرعاية والنقل. وقيل إن القلب هو وعاء الحفظ. والقلب محل عمل الشيء الثابت، وسواء أكان القلب يعني العقلَّ أم القلب كما هو معروف، فإن الوعي يظل مطبوعاً بهذا المدلول الحافظ ومهما قيل من محاولة الفهم فإنه فهم بموجب لحفظ لا التغيير أو النقد. في هذا الإطار من الصعوبة بمكان ألا تشكل فكرة الوعي بالأزمات ( وعي مأزوم ومتجاوز) تحطيماً لقيود الوعي في القلب. وأرح أن الوعي جاء بمعنى ثبات المحتوى في القلب أي بمفهوم الحفظ، لأن القلب في العربية من التقلب والتذبذب وحين يقول المعجم الحفظ في القلب كان يهف إلى الإبقاء على الشيء رغم تقلبات الأهواء والعواطف، أي الإحتواء في القلب رغم كونه متقلباً ومتأرجحاً.

ويمكن أن نتفهم ذلك  المعنى في إطار الدين على أساس الإخلاص والتطلع إلى اليقين  والإيمان كما جاء"في الحديث: نَضَّر الله امرأً سمع مَقالَتي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامِعٍ. الأَزهري: الوَعِيُّ الحافِظُ الكَيِّسُ الفَقِيه. وفي حديث أَبي أُمامة: لا يُعَذِّبُ اللهُ قَلْباً وَعَى القُرآنَ؛ قال ابن الأَثير: أَي عقَلَه إِيماناً به وعَمَلاً، فأَما من حَفِظ أَلفاظَه وضَيَّعَ حُدوده فإِنه غير واعٍ له". لكن كعادة الثقافة العربية  تطرح المفاهيم  بنوع من الخلط بين الدلالات الدينية وغيرها لعدة أسباب: 1-  يمثل الوقع الديني للألفاظ وقعاً تأسيسياً للقاموس وحركة المعاني، الأمر الذي حعل البصمة الدينية موجودة بشكل أو بآخر في لغة التداول. 2- غياب الممارسة اتاريخية لدلالات جديدة للمفاهيم بحيث يمنحها أبعاداً مختلفة كما أشار ابن الأثير  بالحفط على أنه فاعلية العقل والعمل. 3- شيوع خطابات التقليد في الثقافة تاالعربية جعلها حافظة للمفاهيم مع الإبقاء على على قوالبها الجاهزة. 4- إهتمام التعليم والتربية بالحفظ كمحتوى وأداة للكائن الإفتراضي.لأنه أي الحفظ حركة حياة ورؤية للمستقبل، ولست بعيداً عن الصواب عندما أقول إن الحفظ شكل عصوراً من التأليف والكتابة والفهم والشروح والفقه ورؤى العالم والتاريخ.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم