صحيفة المثقف

جمال العتّابي: الدولة العقيمة.. رواية فضائحية مثيرة

جمال العتابيصورة داخلية

يتخذ الوزير السابق حسن الجنابي تجربته في حكومة حيدر العبادي، بصورتها المشوشة، المرتبكة، لينقلنا إلى تساؤلات أعمق وأدل عن معنى الدولة منذ عام 2003، ليس بوسع القارئ، إلا أن يتمالك أعصابه، ويحبس أنفاسه، وهو يتابع هذا السيناريو منذ ذاك التاريخ ولغاية صدور الكتاب عام 2021، عن دار المدى للنشر، الكتاب على صعيد التجربة، والرؤية والموقف، غني بالتناقضات، والإنتهاكات، على مستويات عدة، وهذا السبب الذي يجعل الجنابي ينظر الى تجربته كوزير للموارد المائية في حكومة العبادي عام 2016 كشاهد عيان، فيختصرها بعبارة مريرة، انها كوميديا حقيقية، ومؤشر فاضح على إدارة الدولة.

الدولة العقيمة، فكرة جديدة، وربما صادمة تعيد صياغة فهم القراء لإشكالية الدولة القائمة بعد 2003، وبين معارض له على أساس انه إشكالي، وإن كان يمثل توصيفاً واقعياً لطبيعة الدولة الحالية، ولأن العراق وبكل هذه الثروات، والطاقة البشرية، والتاريخ، لا يجب أن يوصف كدولة عقيمة، كما جاء في التوطئة التي كتبها المؤلف، ومن هنا فأن عنوان الكتاب ليس إستفزازاً للمشاعر أو إستخفافاً بالعواطف، بل تنبيهاً صادماً للخطر الداهم الذي ينتظر العراق، وواقعياً، فلا يجوز أن يكون ربع السكان أميين في بلد إخترع أبناؤه الكتابة، وثلثهم تحت خط الفقر، وهو بلد الثروات، وفيه ملايين الأيتام والأرامل، والمعوقين، والمهجرين، والنازحين، وهو كان موئلاً للهجرات المتعاقبة من أجل العيش الكريم، وفيه يختطف مواطنون، وترتكب إغتيالات، ويبقى القتلة خارج سلطة القانون، ولا يجوز حكماً أن يكون السلاح المنفلت أقوى من سلاح الدولة، إلا إذا كانت الدولة عقيمة، وهذا هو لب الموضوع.

بتقديري ان الصدمة الحقيقية التي يتعرض لها المرء، ما أن ينتهي من قراءة الكتاب، تتمثل بالسؤال عن معنى هذه الدولة، ومبررات وجودها وبقائها واستمرارها، في ظل حجم الخراب المالي والإداري، ودمار البنى التحتية بكاملها، من الصعب تصديق الروايات التي أوردها الجنابي - على قصر تجربته- كشواهد حصلت، وماتزال في بلد مثل العراق، ومن الأصعب قبول ما جرى، لوحصل هذا في بلد مجاور، أو أية بقعة في الكون.

2824 حسن الجنابيعلى مدى أكثر من (350) صفحة، وبحروف صغيرة، لم نحفل بضوء وبارقة أمل، في ذاكرة الجنابي اليقظة، وبحسه الإنساني العميق، وهو يقودنا الى النهايات المفجعة في مسيرة هذا الكيان، ان كل ما ذكره من أحداث وشواهد في أوقات عصيبة عشناها معاً، تشكل تهديداً خطيراً لأية محاولة في الأصلاح والتغيير تسعى إليه قوى أخرى خارج المنظومة السياسية، والطبقة الحاكمة، إذ تجد في ذلك مصلحة في إنقاذ العراق، وهي تدرك أن لأمل نهائي في السلطة الحاكمة، كي تتخلى عن نفوذها ومصالحها وإمتيازاتها، ونهبها للثروات.

ان كل الآمال ضاعت بغمضة عين، وطوتها الحروب بظل الشعارات،  والبلاد قضت نحبها، كل تواريخنا مُسخت، ليتهم تركوا الشعب يكتب تاريخه، يتكلم إن شاء يبني له وطناً ويسوّره، كي لا يدخل اليه الغزاة والفاسدون، فثمة من يحمل المعاول ليهدم، وآخر من يسرق، وثمة من يضحك ويسخر، حين يشاهد كيف نقتل!!

ان أهمية (الدولة العقيمة)، تكمن في كشف جانب من فضائح سلوك الدولة، بهامش من الحرية، وتجاوزها كل القيم والأعراف، وعلى وفق هذا الإتجاه، يعمد الجنابي في إزاحة الستار، عن خفايا وأسرار الصفقات المالية، والعقود والمشاريع الوهمية، ومؤامرات تقاسم السلطة، وتوزيع المناصب، وبيع عقارات الدولة، أو التجاوز عليها، تحت ضغوط الطمع والإستحواذ، والجوع التاريخي للفئات المتسلطة، بظل غياب القانون، وموت الضمير، والحس الوطني.

وحتى يمضي الكاتب في سرديته الموجعة، بفصاحة اللغة وسلامتها، وندرة الأخطاء اللغوية والطباعية، فأنه يواصل إدانة أساليب القمع، وحجب الحريات، ويقف على الضد من السلوك المذّل لقيم الإنسان، بأساليب متعددة المستويات والصور، تنمّ عن وعي في إدانة العسف والعنف، والشر، وكل ما هو لا إنساني، وإن كانت هناك ثمة ملاحظة نقدية على الكاتب، أو مؤاخذة، فأنها تأتي من جمهور غارق بالأسى والحزن، يفترش القمامة والأرصفة الساخنة، ويتطلع ان يأخذ القانون والقضاء دورهما في تقديم الطبقة السياسية إلى المحاكم لينالوا جزاء ما ارتكبوا من جرائم، ان  هذا الجمهور يعتقد ان الكشف عن فشل التجربة وخوائها جاء متأخراً من قبل السيد الجنابي، وهو مشارك فعلي في هذه المنظومة كدبلوماسي رفيع ، ومسؤول عن عدد  من الملفات السياسية، والمهنية المهمة التي تتعلق بإختصاصه كوزير للموارد المائية، منذ عام2003، لغاية إنتهاء فترة حكومة العبادي عام 2019، وحتى قبل هذا الوقت، كان الجنابي عضواً نشيطاً في معارضة السلطة الديكتاتورية، ومساهماً في أغلب المؤتمرات، والفعاليات التي نُظمت من أجل إسقاطها، ان التصدي لهذه المهام ومن موقع متقدم في الجهاز التنفيذي، لا تعفيه من تحمّل المسؤولية  في هذا المفصل أو ذاك، ورغم ذلك من الإنصاف القول ان السيد الجنابي عبّر عن محنته كوزير مستقل مكشوف الظهر، كما وصفها، وان ملاحظاته، ورصده للاحداث من وجهة نظره الشخصية، هي محاولة لما يعتقد انه جدير بالتوثيق بدوافع وطنية بحتة خدمة للصالح العام، وحرصاً على مصلحة العراق. وليس في ذلك أدنى شك، كما أكدته الوقائع.

ويبدو لي ان جانباً من هذه المحنة تتمثل في موقف شخصي ومزاجي لرئيس الوزراء من الجنابي، لا علاقة له بالكفاءة والتخصص، إنما لأن الوزير لاينتمي لكتلة، أو حزب سياسي، يحظيان بالقبول لدى العبادي، فهو لايعطيه أذناً صاغية في اجتماعات مجلس الوزراء، يتجاهله في عدد من المرات، وغير مهتم بمشاريعه .

ليس من المجدي إستعراض آلاف النماذج من التجوازات  التي مارستها الدولة العقيمة، حسب ماوردت، بإعتقاد منّا انها لن تضيف شيئاً للقارئ، سوى حزن كالملح ينغرُ في الجسد،  ولأن (الفرد) العراقي، أصبح خبيراً بما جرى ويجري، وهو ما أكدّ عليه المؤلف في خاتمة كتابه، إذ يصف الفترة التي كان فيها شاهداً ومشاركاً، انها عصيبة ومصيرية، كشفت عن عمق الأزمة الهيكلية التي يواجهها النظام ما بعد الأحتلال، بكل تراكماته، وهي الثيمة الرئيسة التي تناولها الكتاب دون إدعاء او زيف كما يذكر الجنابي.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم