صحيفة المثقف

سامي عبد العال: النقش على الحَجر.. التَّصْحِيف الثقافي (4)

سامي عبد العالهذه شبه قاعدة: كلما كانت الطفولة معبرةً عن مستقبل إفتراضي في مجتمعاتنا العربية، جاء الخطاب الثقافي ليدمغها بطابع ماضوي صارم. طابع حجري منقوش كنقش فرعوني قديم بتاريخه الأثري. أي خطاب قائم على تبديل زمن بزمن آخر كحركة تبديل الحروف المعروفة بالتصحيف اللغوي، لتشكيل الكلمات (مثل كلمتي النبوة والبنوة). و(التّصْحِيف الثقافي) هو عملية تبديل (المفاهيم بمفاهيم أخرى) لتشكيل الوعي والتواصل على أساس التشابه والتماثل. وهذه العملية تقوم بها المجتمعات نتيجة تراجع قدرتها على مواكبة العصر والإنسانية. وفي الوقت نفسه نظراً لكون الثقافة شفاهية قائمةً على مركزية اللغة، وأنّ الأخيرةَ تصنع نماذج التفكير وتؤكد التصورات الشائعة. والمدهش أن تكون دلالة الأفعال صورة طبق الأصل من طرائق التعبير.

إنَّ المستقبل الافتراضي أشبه بالماء الذي يمد الكائنات بأكسير الحياة. وخوفاً - كما تقول العبارات المفتاحية - من أنْ يكون" التعلَّيم في الكبر كالنقش على الماء"، حاولت الثقافة العربية الهيمنة على طفولتها (كائنها القادم الذي تخشاه)، فاستبقت اللغة الأحداث مؤكدةً على أنَّ:" التعلِّيم في الصغر كالنقشِ على الحجرِ". أي تحاول الثقافة ضمان ترسيخ وجودها منذ بدايات الإنسان الأولى. ومن ثمَّ كانت العبارة السابقة متداولة كأنها مسلّمة وتستوجب التماشي مع مضمونها العام.

وربما الهوة في هذا السياق بين الحجر والماء هوة لاحدو لها، لكن حالة السيولة المخيفة التي ستحدث في قادم العمر كانت هوة مملوءة بالنقش الثقافي المشار إليه. وهذا بالتخصيص ما حدث في تاريخ الثقافة العربية، مما أصبح عليه الحالُ والمآل نتيجة ردود فعل أمام تحديات حياتنا الراهنة، وذِكرُ الحجرِ هو علامة على الثبات والصلابة التي ستبقى، فالثقافة برأي الأديب الروسي أنطون تشيكوف: هي ما يبقى في الذاكرة بعد أنْ يزول كلُّ شيء. ولئن كان قولٌّ كهذا منطبقاً على ثقافةٍ بعينها، فأولى أن ينطبق على جوانت كثيرة من الثقافة العربية ولا سيما جوانب التربية والعادات والتقاليد.

كانت الكلمات الواردة في الجملة الأولى: (التعلِّيم، الكِّبر، النقش، الماء)، وفي الجملة الثانية: (التعليم، الصغر، النقش، الحجر). التعليم والنقش كلمتان مشتركتان في الجملتين، وهما معبرتَّان عن خطاب المعرفة وآلياته ومناهجه التعليمية. والنقش كما أشرت سلفاً دال على القمع، القهر، الصورة المطبوعة بالصلصال. أرأيتم في يوم من الأيام حجراً يتقبل حفراً من تلقاء نفسه؟ أرأيتم حجراً حُراً؟! إنَّه بالضرورة خاضع لعملية الحفر (التسلُّخ المادي) بموجب ترك حروف بارزةٍ عليه. السؤال المنطقي: بأية وسيلة تحفر الثقافة العربية وجدان فاعليها؟

إنَّ الأزميل الذي تحفر ثقافتنا به هو خليط من الأخلاق وفكرة الطبيعة والحقيقة الإجتماعية. تُستعمل الأخلاقَ لأنَّ فعل الحفر يظهر كما لو كان مسؤولية غامضة وملزمة، ولا تتوفر ملامح مثل هذه المسؤولية سوى في التقاليد الأخلاقية. الأخلاق تجعل التعليم والمعرفة نقشاً له آليات الواجب والقوة، إعادةَ صهر وسبكٍ لمعدن الإنسان (العربي)، حيث يشعر المعلم بممارسة الواجبات التي تفرضه أُطر الثقافية. ولذلك ينتشر التعليم بالعقاب كما في بعض البيئات نظراً لهذا المعنى الشائع لتحصيل المعرفة.

وفي الواقع يعتبر مثل هذا التصور مناقضاً لمفهوم المعرفة جملةً وتفصيلاً، فالمعرفة متغيرة من عصر لآخر، ولها أساليبها المتطورة مع تطورات العلم والأفكار. وطالما كانت ثمة معرفة، فإنَّ القدرات الإفتراضية تبقى مهمةً، كيف نقدم معرفةً دون إمكانية التلقي بلا شروط؟! فضلاً عن أنَّ خلط الأخلاق بالمعرفة يعدُّ عملاً غير مسؤولٍ، بسبب أنَّ الأخلاق تستند إلى معايير ثابتة وإلى قيم كليةٍ، بينما تتقدم المعرفة وفق اللامعيار، بل تتقدم لأنها تنسف المعيار من أساسه. والحفر والحرف يتكونان لغوياً من الحروف نفسها، غير أنَّ العلاقةَ بينهما علاقة (تصحيف لغوي) حاضر أثناء النطق، علاقة إبدال حرف بحرف تظهر على نطاق الثقافة العربية في صورة الفكرة المأخوذة عن الموضوع (الطفولة)، فالطفل عبارة عن (حفر وحرف) لكونه حجراً تربوياً.

وإذا كان هناك ترجيح ثقافي لعبارة النقش على الحجر، فلماذا يكون الطفل حجراً؟ اللغة العربية بوصفها أساساً نقلت حركةَ التصحيف في شكل الطفولة، أرادت حياتياً أن يتحول التصحيف اللغوي إلى (تصحيف تربوي أيضاً) وقد فعلت. لقد كان التصحيفُ حركة رابطةً بين (التصور والمماثلة وعملية الحفر) من خلال التأكيد على الوسيط ( الحجر- الطفل)، وكأنها تريد القولَّ بوجوب أنْ يحتفظ الطفلَّ بكل ما يتلقاه، ويجب أن تُقلص قدراته لصالح ما ينقش عليه. فالحجر أصم، الطفل صامت، الحجر صلد، الطفل صلب أو هكذا يبدو، الحجر خاضع لقانون الحركة والجاذبية، الطفل ممتثل لنمط السلوك والأخلاق، الحجر ملق هناك، الطفل مقهور هنا وهناك. إذن النقش فعل أخلاقي معرفي تحول إلى حتمية ثقافية أيكولوجية، فالحجر كمفردة من مفردات البيئة ينقلنا مباشرةً إلى الأصول الصحراوية للذهنية العربية .

وبالتالي يأخذ التعليم الزخم الحياتي نفسَه، التعليم كما ترجح الثقافة العربية عمل طبيعي، إنه ينحت مفاهيمه، معارفه، مهاراته، قيمه بالطبيعة، على غرار الحروف البارزة التي تصاع على أسطح مصقولةٍ. وهذه هي دلالة الطبيعة موجودة في الحجر والصغر (الزمن)، وهما منوط بهما الإتيان بكل المفردات الأخرى مثل: الإنسان، الحياة، الأرض، الموجودات، فالصخور نقوش إلهية، عبارات منحوتة عبر الكتاب الكوني المكتوب بالمداد الإلهي. وبجانب ذلك تسعى الثقافة إلى جعل الحقيقة الإجتماعية، أي نمطية الأفكار كأنها لوح محفوظ، لوحاً طبيعياً يبرز كنقوش محفورة .

في الوقت عينه، لايمكن التسليم بهذه الأفكار الحجرية، فالشطر الآخر من العبارة يظل مفتوحاً على الزمن، كلماته تحفل بالتناقض: التعليم، الكبر، النقش، الماء. طبعاً لن يوجد طفل لا يمر بمرحلة الكبر، والعبارة بشطريها تتحدث عن تعليم الإنسان كأنّه خطوة خاطفة بين كائنين وهذا غير حقيقي. فالطفل الذي كان تعليمه كالنقش على الحجر هو هو الرجل الذي سيكون تعليمه كالنقش على الماء. النقش، الزمن، الماء، أشياء تفك رموز الحفريات في الطفولة، وستغير صورة العالم، صورة الحقيقة، صورة الإنسان ذاته.

ولذلك فإنَّ الثنائية التي تؤكد التناقض بين الإنسان طفلاً والإنسان رجلاً هي ثنائية تستند إلى مرجعية غير مرنة ولا تعطي الإنسان حرية التفكير والإختيارات. هي تريد ضمان التحكم في مسار حياته حتى الرمق الأخير لأنها بعد أن تنقش وعيه ستضعه في سياق آخر من الرقابة لإكمال الطريق.

في الشطر الأول كان التعليم نقشاً على حجر، بينما جاء في الشطر الثاني نقشاً على الماء. إذن الحجر نفسه هو الماء، والماء يعني تشكيل الحجر. وواضح من ذلك أنَّ طوفان نوح راسخ في الذاكرة الثقافية للغة العربية، إنه أزال كلَّ شيءٍ، ولم يترك كائناً. وفي رمزية مؤشرة تاريخياً حدث الطوفان بخاصية وجودية إلهية حين محى الكائنات والأشياء، كأنه أعاد الكونَ، الطبيعة، الحياة إلى نقطة الصفر، أرجعنا إلى بداية الخلق من جديد. والشطر القائل" إن التعليم في الكبر كالنقش على الماء" ذو وجهين يبدوان متعارضين. أولهما: أنّ التعليم يمحو (يغير) الأسس التي كونت الفرد، تماماً كما أتي ماء الطوفان على أسس الحياة في زمنه. وثانيهما: أنَّ الماء ماءُ الحياة، هو الذي خرجت منه الأشياء والكائنات. المماثلة واضحة بين أثر فعل الماء والأثر الذي يتركه التعليم. ولكن نظراً لأنّ الثقافة العربية تخشى على أسسها النافذة عبر التاريخ، فإنها تريد حفراً أزلياً وعصياً على المحُو.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم