صحيفة المثقف

طارق بوحالة: رواية أسير البرتغاليين.. "حكاية الناجي" ضد الموت

رواية أسير البرتغاليين، "حكاية الناجي" للروائي المغربي محسن الوكيلي الصادرة عن منشورات دار ميم بالجزائر في طبعة أولى عام 2021، وهي نص تمكن صاحبه باحترافيّة عاليّة من استدعاء لحظة تاريخية ترتبط بالوجود البرتغالي على السواحل المغربية في القرن السادس عشر، أين تدور أهم الأحداث،  بطلها هو حماد المسمى "الناجي" الذي يقع أسيرا لدى البرتغاليين.

ويعدّ " الناجي عواد" الشخصيّة الأساسية والفاعلة في تغيير وجهة المسار السردي وتنويعه، الناجي هو حماد أكناو من بلاد فاس، وهو الناجي الوحيد من شفرة سكين إبراهيم والده، حين أقدم بدم بارد على ذبح أبنائه الستة، ودفنهم في قبو المنزل. كان ذلك أيام وباء الطاعون الذي أصاب فاس.

والناجي عواد لقب أطلقه عليه الشيخ "عواد" بعدما وجده مرميّا في الطريق هاربا من حادثة الذبح، ليأخذه إلى بيته. ينجو "حماد " مرة أخرى من وباء الطاعون الذي أصاب أفراد عائلة العواد وخدمه دون استثناء، فكان بذلك الناجي الوحيد من هذا الوباء. يقول واصفا ذلك: على خلاف المصير الذي لاقاه آل العواد نجوتُ، لم يكن مرضي من عدوى الموت الأسود..' الرواية ص 103

وهو الناجي مرة أخرى من كتيبة الإعدام المسلط على رقاب كل المغاربة أسرى المستعمر البرتغالي. إذ يقع أسيرا لديهم حين كانوا يحتلون قصر البحر الموجود على سواحل مدينة أسفي المغربية، ويرجع سبب نجاته من الإعدام إلى اتخاذه من حكاياته  وسيلة  للبقاء على قيد الحياة، هذه الحكايات التي كان يرويها للضابط البرتغالي "بيدرو".

يخبر بيدرو الناجي: " هذا الكرسي لا يستقبل غير رجل واحد، ما دمتَ جالسا عليه يكون على كلّ الأسرى الذين يأتون بعدك أن يمرّوا إلى كتيبة الإعدام بلا أملّ في النجاة كرسي ثمين، أغلى من كرسي الحكم..." الرواية ص 31

كان الناجي يفرغ ما في جعبته من حكايات تتعلق بحياته وحياة والده وقصة ذبحه لأبنائه أيام الطاعون، وكيف أنه قدم لهم ذات يوم لحم قطته التي ذبحها بسبب الجوع الملازم لهم.

والمعلوم أن هدف الناجي من القتال لم يكن من أجل استرجاع الحصن من أيادي البرتغاليين، بل كان هدفه ذاتي خاص يرتبط بمحاولة الانتقام من قاتل قرده همّام، فالناجي كان يمتهن سرد الحكايات ، إذ يجوب بلاد المغرب ممارسا هذه الحرفة رفقة قرده همام وصهره بشير.

ويرتبط مصير الناجي بمصير بيدرو الضابط البرتغالي المهووس بالدم، الذي يتلذذ كل يوم بإجازة عدد من الأسرى المغاربة إلى كتيبة الإعدام،  ليصلّ به هوسه إلى تقديم قلوبهم طعاما لقطته التي لا تختلف عنه في هوسها بحب الدم، هذا الضابط المهووس هو نفسه الذي كان يشرف على عمليّة تأمين طريق التوابل والذهب والعبيد نحو بلاد البرتغال.

ويرفض بيدرو مجرد التفكير في العودة إلى بلاده البرتغال، فهو لا يزال مسكونا بذكرياته السيئة، وما وقع له هناك، إذ إنه يسترجع -كلما تذكر بلاده- صورة اغتصابه المتكرر من قبل زوج أمه، هذه الأم التي ذبحها (بيدرو) واحتفظ برأسها. كما يرى بيدرو في الحصن مستقبله ومستقبل سكانه البرتغاليين لهذا يقع بينه وبين صديقته صوفي جدال مستمر حول العودة إلى موطنهم الأصلي من عدمه.

يختار بيدرو الناجي خادما له، ويلحقه ببيته ليقوم بدور العبد الخادم لمساعدة "صوفي" ، وبدور سارد الحكايات، إذ يخبره بيدرو بأن حياته مرهونة بمدى تفانيه في ممارستها، نعم إن حياة الناجي مرتبطة أساسا بهذا الدور وبإتقانه للسرد وتنويعه للحكايات.

يقول بيدرو للناجي: " إيه يا الناجي، حكاية الرجل الذي يطعم الناس لحم صبيانهم تروقني، فيها الكثير من الخبث، وشيء من دهاء، لكنها تشبه حكايات الجدّات اللواتي يرهبن حفيدتهن كيلا يكسروا أوامرهن ويجتازوا بلا إذن عتبات أبواب البيوت."  "الرواية "ص 205

أما إبراهيم فهو والد الناجي، وهو شخصية مركبة، تجمع بين المتناقضات، يعود أصله إلى قبيلة تلظي،التي غادرها رفقة والده بعد أن قُتل أعمامه جميعا بتهمة إتباعهم لديانة البرغواطية التي ابتدعها صالح بن طريف  البوغرواطي منذ قرون.

إبراهيم هو الذي ذبح أولاده جميعا، بعد وفاة زوجته نعيمة متأثرة بوباء الطاعون، وهو نفسه الذي ذبح قبل ذلك قطته من أجل إطعام هؤلاء الأولاد. هي شخصيّة جمعت بين القلب الطيب الذي بسببه آثر غيره على نفسه وأولاده، وبين رجل يذبح أولاده دون رحمة. يقول الناجي واصفا ذلك" ذبح أبي إخوتي كلهم، واحد بعد آخر." الرواية ص 14

كان إبراهيم يعيش لوحده بين أشباح زوجته وأولاده وكل الأطفال الذين ذبحهم وفرق لحومهم على عائلات كثيرة من فاس كانت تتضور جوعا بسبب القحط والطاعون. ليقع في الأخير لدى هذه العائلات طالبة قتله. يصرخ إبراهيم قائلا: "أنا إبراهيم، أنا قاتل الأطفال وبائع لحوم البشر، أطعمتكم من لحمكم فما تحركت داخلكم نخوة الرجولة ولا اهتزت حميّة.. تا الله إن النار أولى بكم." الرواية ص 287.

لقد كانت هذه الأحداث هي المادة الخام التي يحولها الناجي  إلى حكاياته التي يرويها في كلّ مرة للقائد بيدرو، والتي تطيل في كل مرة من عمره، وتؤجل موته.

أما غيثة فهي زوجة الناجي التي تبقى وفية له، تنتظره بحرقة، تعيش رفقة أولادها الثلاثة، ترسل أخاه بشير للعودة بالناجي من الأسر، ثم تلجأ إلى زوج جارتها أم الغيث، وهو تاجر كبير يدعى العياط الذي بدوره لا يبخل عن تقديم المساعدة لتحرير الناجي.

ويستدعي محسن الوكيلي المخزون التاريخي محاولا الإمساك بلحظة تاريخيّة ترتبط بأيام التواجد البرتغالي في السواحل المغربية، الذي امتد من القرن 15 إلى القرن 18، وتختار الرواية لحظة وجود البرتغاليين في مدينة أسفي إحدى المدن الساحليّة المغربية، التي رزحت تحت نير الاحتلال حوالي 33 سنة ممتدة من 1508 إلى 1541م .

وتستحضر الرواية "حاضرة فاس" مع نهايات الحكم المريني الذي كان يواجه مقاومة ورفضا من قبل الأشراف الذين سعوا جاهدين إلى القضاء عليه بقيادة محمد الشيخ السعديّ. لا سيما وقد سيطر السعديون على مراكش وبسطوا حكمهم على أغلب مناطق المغرب. في ضوء هذا المجال الزمكاني تتحرك أبرز أحداث رواية محسن الوكيلي.

تأتي الرواية على ذكر نماذج لشخصيات تاريخيّة، نذكر منها مثلا الفقيه المالكي الشيخ "عبد الواحد الونشريسي" الذي عاش في حاضرة فاس في القرن ، وهو الذي رفض أن يخون حاكمها أحمد المريني ويخلع عنه البيعة، فتم قتله أثناء إلقاء دروسه على طلبة العلم. وهي حادثة تذكرها معظم كتب التاريخ.

غير إن محسن الوكيلي قد أعاد في أسير البرتغاليين تشكيل هذه المعلومات التاريخية في ضوء المتخيل الروائي، من خلال ممارسة عملية الحبك التاريخي، الذي يجمع فيه بين المعلومة التاريخية والتمثيل السردي. ليتم كل ذلك ضمن أسلوب لغوي ممتع، وبرنامج سردي مركب يتجاوز الخطية الزمنية في تشكيل وبناء الأحداث.

يتفاعل التاريخي والسردي ويتبادلان المواقع، ليتغلب السرد في نهاية المطاف على التاريخ وسبب ذلك هو قدرة الروائي على استدعاء التاريخ، ثم إتقانه لعملية التمثيل، وذلك بإعادة منح هذه الوقائع التاريخية روحا جديدة تتماشى والمشروع السردي الخاص بالرواية، مما يجعل القارئ لا يكتشف جليّا حدود الفرق بين الواقعة التاريخية والتمثيل السردي لها.

وقد استطاع محسن الوكيلي أن يخلق "مادة تاريخية" تم تشكيلها عن طريق ممارسة عملية السرد، لتفارق هذه المادة التاريخية المشكلة  مرجعها "الحقيقي" في كثير من التفاصيل.  فمثلا ما وقع لأحمد السبتّي أحد شخصيات الرواية وهو تلميذ عبد الحق الونشريسي الذي قتل محمد الشيخ السعدي بمساعدة الأتراك الإنكشاريين، هو عبارة عن حكاية جزئية لحكاية أكبر تمثل الصراع الذي كان سائدا بين السعديين والعثمانيين.

وبناء على استثمار الرواية للمادة التاريخية  فإنها تحاول تسجيل جملة من المواقف من بعض الأحداث التاريخيّة، مثل الصراع الذي كان قائما بين السعديين والمرنيين، وكيف تغلب محمد الشيخ السعدي وأقام الدولة السعدية ليفتح بذلك عهدا جديدا.

كما تحدثنا هذه الرواية عن أوضاع حواضر المغرب على أيام المرنيين والسعديين، إذ نقف في كثير من المواضع على نوع من المسح الثقافي والاجتماعي الذي له علاقة بطبيعة السكان وتقاليدهم وحديث عن شوارع وساحات وأسواق ومساجد هذه الحواضر. ومدى شحوب هذه المناطق في ضوء الطاعون الذي أصاب العباد والبلاد وساد لسنوات مخلفا كثيرا من الضحايا.

أخيرا يعود الناجي إلى زوجته وأولاده بعد أن سقط الحصن في يد السعديين الذين تمكنوا من طرد البرتغاليين، وتقتل صوفي بيدرو حبا في الناجي الذي يودعها ويرفض البقاء معها.

تعد رواية أسير البرتغاليين  تجربة عربية أخرى تندرج ضمن  مسمى "رواية التخيل التاريخي"، فهي تنفتح بذلك على عوالم سردية وتخييلية رحبة، تستحضر تجارب إنسانية عابرة للحدود التاريخية والجغرافية. فحكاية الناجي هي بمثابة الرد على الحكاية الإمبراطورية التي يمثلها بيدرو البرتغالي. حكاية الناجي هي حكاية محلية عن المقهورين والسكان الأصلانيين، وهي الحكاية التي تنتصر في الأخير على الحكاية الكبرى للمستعمر التي مفادها أن هؤلاء المقهورين لن ينهضوا أبدا لأنهم  يجب أن يعيشوا ضمن/تحت قيود وتعليمات الشرط الامبراطوري .

يمثل بيدرو هذا الشرط التاريخي من خلال سيطرته على وجهة  وتوقيت عملية الحكي التي يمارسها الناجي، كما إنه هو الذي كان بيده إحالة السجناء على كتيبة الإعدام أو العفو عنهم.

أما صوفي المرأة البرتغالية الجميلة والمغرية فهي تمثل وجها آخر من وجوه هذا الشرط التاريخي، إذ لا يهمها كثيرا البقاء في الحصن والسيطرة عليه والتحكم في سكانه العرب، كونها تمثل حب المغامرة والمتعة والعيش بعيدا عن السلط بأنواعها، فهي ترفض البقاء في مكان واحد وأبدي، لهذا فحلمها حلم شخصي وذاتي ضمن حلم أكبر هو الحلم الإمبراطوري.  والدليل على ذلك أنها السبب في قتل الضابط بيدرو رمز القوة والوجود والسيطرة.

 

د. طارق بوحالة - أستاذ النقد الثقافي

المركز الجامعي، ميلة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم