صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي .. قراءة نقدية لكتاب د. محمد البهي (4)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن قراءتنا النقدية لكتاب الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار للدكتور محمد البهي، وفي هذا نقول: ثم تطرق بعد الدكتور البهي للحديث عن الاصلاح الديني، ويُعنى به في مجال الإسلام محاولة رد الاعتبار للقيم الدينية، ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك، قصد التخفيف من وزنها في نفوس المسلمين ومحاولة السير بالمبادئ الإسلامية من نقطة الركود التي وقفت عندها في حياة المسلمين، إلى حياة المسلم المعاصر، حتى لا يقف مسلم اليوم موقف المتردد بين أمسه وحاضره عندما يصبح في غده. وبهذا المعنى فإن الإصلاح الديني في مجال الإسلام - حسب رأي الدكتور البهي - وثيق الصلة بالعصر الذي يتم فيه، وبالفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها الفكر. كما أن الإصلاح الديني -بوصفه محاولة فكرية- يغاير -في نظر البهي- منهج وعمل الحركات الدينية التي تعتمد على تبسيط تعاليم الإسلام وتقريبها من العقلية العامة، ويغاير كذلك المحاولات التي تسير -حسب تصور البهي- في دائرة تفسير خاص لتعاليم الدين، أو تلتزم منهاج مدرسة خاصة من مدارس الفقه أو مذاهب الكلام في العقيدة. وما يخلص إليه البهي بعد هذا الموضوع والتحديد اعتبار أن الإصلاح الديني هو منهج وتفكير يقوم على نقد وبناء، ويسعى إلى اعتبار قيمة واحدة، هي قيمة الإسلام في التوجيه الإنساني. ثم يتحدث البهي عن شخصيتين إسلاميتين فكريتين ظهرتا في مسرح الإصلاح الديني، هما: الشيخ "محمد عبده"، والدكتور "محمد إقبال". وحين يقارن البهي ويوازن بينهما يرى أن كليهما عاش في القرن التاسع عشر وأدرك القرن العشرين، وكليهما حفظ القرآن، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وموطنه ووقف على حياة الغرب وحضارته بالارتحال إليه وبالإقامة في بلدانه، وكليهما مال إلى التصوف ورأى فيه رفعة النفس الإنسانية وصفاءها، وقوة احتمالها في مواجهة الأزمات والأحداث. إلا أن الشيخ محمد عبده في تقدير البهي كان يعي من الثقافة الإسلامية بقدر ما كان يعي محمد إقبال من الثقافة الغربية، ومارس الأول الفكر الإسلامي في دراسته وتدريسه وبحثه بقدر ما مارس الثاني دراسة الفكر الغربي وتدريسه وبحثه (26).

ثم انتقل الدكتور البهي بعد ذلك للحديث عن موضوع الإسلام غدا، وفيه ناقش قضية الجامعة والازهر، حيث يربط البهي فكرة التجديد بمؤسسة الجامعة، في حين يربط فكرة الإصلاح بمؤسسة الأزهر، ويعتبر أن الجامعة المصرية هي التي تولت زعامة حركة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مصر، منذ أن دعا لهذه الحركة طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر". ولعل هذا يعني أن فكرتي التجديد والإصلاح تعكسان طبيعة النزاع بين مؤسستي الجامعة والأزهر في مصر، وما بينهما من تباين في بنية المكونات، وتفاوت في نسق التصورات، واختلاف في نوعية المسلكيات. فطه حسين الذي دافع عن مؤسسة الجامعة والانتصار لها، والإعلاء من شأنها، انتقد من جهة أخرى مؤسسة الأزهر وقلل من شأنها ومكانتها، وأوضح ذلك في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي اعتبر فيه أن "الجامعة تمثل العقل العلمي، ومناهج البحث الحديث، وتتصل اتصالاً مستمراً بالحياة العلمية الأوروبية، وتسعى إلى إقرار مناهج التفكير الحديث شيئاً فشيئاً في هذا البلد".

في حين دافع الدكتور البهي عن مؤسسة الأزهر واعتبر أن مستقبل الإسلام يتأثر قوة وضعفاً بقوة الأزهر وضعفه، وفي نظره أن الأزهر وحده وليست الجامعات الحديثة، هو الذي يمثل مركز إشعاع الوعي الإسلامي، وينفرد بهذه الرسالة، ولا يوجد له مشارك قديم أو حديث في إطار الكتلة الثالثة. ومنذ قيام الأزهر -كما يضيف الدكتور البهي - وإلى اليوم، وهو مركز الرسالة الإسلامية، سواء ما يتعلق بدراسة تعاليمها المباشرة، أو ما يتعلق بدراسة الوسائل التي تصحح فهمها وتصورها، وهي اللغة العربية وما يتصل بها من دراسات. إلى جانب هذا الدفاع عن الأزهر والتبجيل الذي لا يخلو من مبالغة، وجَّه البهي نقداً لاذعاً ولافتاً للأزهر لما آلت إليه الأمور في عصره. وقيمة وحيوية هذا النقد أنه جاء من داخله، ومن أحد المنتمين لمؤسسته. كما كشف هذا النقد عن المنحى الإصلاحي الذي كان عليه البهي في داخل مؤسسة الأزهر، ويمثل هذا النقد والمنحى الإصلاحي امتداداً لمسلكيات واتجاهات الشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر، ولمن جاء بعده من علماء يعدون من ألمع شخصيات الأزهر (27).

4- الخاتمة:

بعد هذه الإطلالة على كتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" بقيت الإشارة يمكن القول بأن الدكتور البهي قد أراد من كتابه أن يكون وثيقة إدانة شاملة للاستشراق، باعتباره رأس حربة ثقافية موجهة ضد الإسلام، له تأثيراته في نشوء تيارات فكرية في الوطن العربي والعالم الإسلامي . فطاول نقده تلك المتأثرة به، جامعاً بين أصحاب التيار الليبرالي: طه حسين، وعلي عبد الرازق، وزكي نجيب محمود، والتيار المتأثر بالشيوعية، يقوده اعتقاد جازم بأن مستقبل الإسلام مرتبط بمواجهة الصليبية والماركسية، ووصل به الأمر إلي اتهام رجال الإصلاحية الإسلامية كتجليات للاستشراق، إذ يقول:" فحركة الإسلام التي ظهرت في الشرق الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، تعتبر تقليدا للدراسات الإسلامية في تفكير المستشرقين  " (28).

ويري المؤلف أن الاستشراق حصيلة لروح الصليبية، أتي بإيحاء من الكنيسة، ومن  ورائها إرادة الدول الاستعمارية، فهو يقول: ودراسة المستشرقين للإسلام، قامت بها الكنيسة الكاثوليكية ، خاصة للانتقاص من تعاليم الإسلام .. حرصاً علي مذهب (الكثلكة) من جانب، وتعويضاً عن الهزائم  الصليبية في تحرير بيت المقدس من جانب آخر، ثم تبني هذ الدراسة في الجامعات الغربية نفسها، حتي يقوم القائمون بأمرها علي تصديرها إلي الشرق الإسلامي (29).

وألحق المؤلف التجديد العربي بأغراض الإستشراق، وخصص له فصلا  في كتابه، إذ يقول:" فالتجديد في رقعة  الشرق الأدنى منذ بداية القرن العشرين، هو محاولة  أخذ الطابع الغربي، والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين (30).

وأشار المؤلف إلى تطور آخر في الدراسات الاستشراقية فقد تحولت إلى نشاط أكاديمي يقدم البحوث والكتب العلمية، ويستقطب الطلاب المسلمين لإعادة توجيههم ليعودوا يحملون راية الاستشراق في بلدانهم، فيرى أن الاستشراق نفذ إلى المسلمين، ووجد أعوانا له من أرباب الفكر والقلم والعلم والسياسة في الشعوب الإسلامية، وهو العامل الموجه لما يسميه: الفكر الإسلامي الممالئ للاستعمار الغربي (31).

ويتحدث المؤلف عن بعض وسائل المستشرقين في كتاباتهم عن الإسلام، فأشار إلى أن كتب الرحلات الي كتبها الرحالون النصارى المتجولون في الدير الإسلامية، كتبت "بأسلوب تهكمي، وروح قصصية اختراعية، تغذي خيال الشعوب المسيحية الغربية والأمريكية، ولها أثرها السلبي في تصوير الإسلام والمسلمين -وهو أثر قوي- على هذه الشعوب(32).

ويؤكد المؤلف على أن هناك دوافع أخرى فرعية لنشأة الاستشراق كالدوافع التجارية، والسياسية، كما ذكر دافعا قلما يشير إليه وهو الدوافع الشخصية "عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال واتخذوا الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر أو في الاضلاع على ثقافات العالم القديم، ويبدو أن فريقا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكانياتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم الأخرى، أو دخلوه تَخَلصا من مسؤولياتهم الدينية المباشرة في مجتمعاتهم المسيحية. أقبل هؤلاء على الاستشراق تبرئة لذمتهم الدينية أمام إخوانهم في الدين، وتغطية لعجزهم الفكري، وأخيرا بحثا عن لقمة العيش إذ أن التنافس في هذا المجال أقل منه في غيره من  أبواب الرزق (33).

ويرى  المؤلف أن أهداف الاستشراق تركزت -مع تنوعها- في "خلق التخاذل الروحي، وإيجاد الشعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة، وحملهم من هذا الط ريق على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية (34)؛  ويشير المؤلف إلى خطر عملاء المستشرقين ويصفهم بانهم عملاء الاستعمار، وقد دربوا على إنكار المقومات التاريخية والثقافية والروحية في ماضي هذه الأمة، وعلى التنديد والاستخفاف بها، وهم الذين وجههم كُتابُ الاستشراق إلى أن يصُوغُوا هذا الإنكار  والتنديد والاستخفاف في صورة البحث، وعلى أساس من أسلوب الجدل والنقاش في الكتابة أو الإلقاء عن ريق المحاضرة أو الإذاعة (35).

وفي النهاية وإن كنت أختلف في كل ما قاله الدكتور البهي، إلا أنني لا أملك إلا أن أقول في حقه، وهو الآن بين يدي الله بأن الرجل اجتهد فيما قال، وإن كان لم يجتهد فليغفر الله .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

الهوامش

26- د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلتة بالاستعمار الغربي، من ص 393 إلي ص463.

27- المصدر نفسه، من ص 364 إلي ص477.

28-.شمس الدين الكيلاني: المرجع نفسه، ص 825.

29- المرجع نفسه، ص 826.

30- د. محمد البهي: المصدر نفسه، ص488.

31- المصدر نفسه، ص489.

32- المصدر نفسه، ص56..

33- المصدر نفسه، ص12.

34-  المصدر نفسه، ص 13.

35- المصدر نفسه، ص 15.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم