صحيفة المثقف

محمود محمد علي: فرج فودة.. مُؤسساً لتنظيم الجهاد العلماني (1)

محمود محمد عليعزيزي القاري اسمح لي أن أكتب عن رجل وعالم ومفكر، اختلف الناس في أمره، ما بين متفق ومختلف معه، قد نراه سطحياً أحياناً، عميقا في بعض الأحيان، قد نتهمه بالرأسمالية ومعاداة الشيوعية، أو أنه لم يكن منظراً فلسفياُ، ربما نختلف معه إلي أقصي مناحي الاختلاف، إلا أن أحدنا لا يستطيع إتهامه بالكفر والخيانة، أو العداء للإسلام (1).

وفرج فودة كذلك (سواء اتفقنا معه أو أختلفنا معه أيضا) إلا أننا لا ننكر أنه أحد مفكري التيار العلماني العقلاني في مصر والعالم العربي وأكثرهم نشاطاً وديناميكية، وشهيدا من شهداء الحرية، وواحداً من مفكرينا الذين نعتز بهم بأنهم وقفوا في مواجهة الإرهاب بالكلمة، والرصاص بالفكرة، ولا يمكن أن ننسي أنه الوحيد – بلا تزيد أو مزايدة – الذي دفع عنا ضريبة الموت دفاعاً عن الفكرة .

قال عنه الكاتب الفلسطيني "شاكر فريد حسن" :" فرج فودة داعية للتجديد والعقل والوجه العقلي، استطاع أن يخاطب العقل والوجدان العربي ويؤسس بالفكر، حالة عربية مميزة بواقعها المادي وصراعاتها الفكرية العقيدية، فأعطى عمره وحياته كلها واستشهد في سبيل أسمى قضية ؛ قضية الحرية والاعتقاد، وتميز بشخصيته الصلبة الجريئة المثيرة للجدل (1).

ولذلك عندما ندخل في عالم "فرج فودة" ، علينا ألا ننسي أنه مفكر سياسي بالأساس، أفزعته الدعوة للدولة الدينية، وتنامي التيارات الإرهابية، فترك حزب الوفد (بعد أن كان أحد قياداته) – اعتراضاً علي تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين، وعلى خلط الأوراق فيما هو ديني وسياسي، ولا يمكن تأويل كلماته على أنها كفر صريح أو باطن، لقد كان يخوص معركة سياسية لمصلحة الوطن أولاً وأخيراً حتي إنه يقول :" لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خزلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبادئ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، أتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وحسبي أيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، والله والوطن من وراء القصد (2).

نعم لقد كان "فرج فودة" واحدا من المفكرين أصحاب القضية، وكانت قضيته هي كيف يمكن للوطن، الذي عشقه فعلاً، أن يتخطى محنته التي وضعته فيها جماعات العنف الديني بما تحمله من أفكار معادية للتقدم، وللقيم الإنسانية الحديثة، ومناصرة للسلفية الدينية، وللفهم المنغلق علي الذات المنافي لكل معطيات العصر الذي نعيشه، كانت المسألة إذن بالنسبة إليه هي مسألة نقد وتفنيد الأسس الفكرية والمفاهيمية التي تقوم عليها المنظومة الكفرية والسيكولوجية لجماعات العنف الديني، والتي كانت تشكل خطرً عظيماً، في ذلك الوقت على كل مكتسبات العلم والمعرفة، وعلى نمط منظومة الحداثة بكاملها، وكانت تهدد بتحويل الوطن إلى نمط الحياة الخاص بالعصور الوسطي، حيث الدولة الثيوقراطية (الدينية) التي تحكمها أو تتحكم في توجهاتها نخبة من رجال الدين الذين لهم صلاحيات واسعة في تحديد ما هو متفق مع الشرع، وما لا يتفق معه في جميع شؤون المجتمع العامة والخاصة . وهي صلاحيات لم يكتسبوها بأي نوع من أنواع الانتخاب الحر مما سجعلها مشروطه نسبية، بل هي مفوضة إليهم باسم مرجعية إلهية عليا لا يملك البشر فيها حلاً ولا عقدا، ومثل هذه النخبة التي تدير شئون المجتمع لها هي وحدها دون سواها أن تفرض ما تتصور هي أنه متفق مع صحيح الدين ـ وما خالف ذلك من فكر، أو سلوك، أو حتي تصورات ليس مدانا فحسب، بل هو كفر صراح يستوجب تطبيق حدود الله التي تصل غالباً عقوبات بدنية متفاوتة الشدة قد تصل – قد تصل في حدودها – إلى تقطيع الأيدي والأرجل من خلال كما هو في نظام حكم طالبان (3) .

ويمكن القول إن تلك القضية هي التي كانت تشغل "فرج فودة" ، إذ كان صعود نجمه المفاجئ في ثمانينيات القرن العشرين قد ارتبط بها مباشرة، لكن يبدو أنه كانت ثمة فترة إعداد طويلة تمرس فيها على أساليب الكتابة من ناحية، وعلى اكتساب خبرات معرفية وتاريخية خاصة بتلك النوعية من الموضوعات من ناحية أخري ؛ ذلك أنه كان ذا أسلوب متميز، يتسم بالفصاحة والبلاغة والدقة في آن واحد، وهو شئ من الصعب اكتسابه في زمن يسير . ولعله قد تأثر فيه بأسلوب "طه حسين" فهو أقرب الأساليب إليه ؛ إذ أن فيه عذوبة وفيه إيقاع جميل وسلاسة وطلاقة لا نجدها إلا عند القليل من الكتاب خاصة من أجيال سابقة، من أمثال طه حسين (4)... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

الهوامش

1- شاكر فريد حسن: الدكتور فرج فودة..ضحية الارهاب الديني المتطرف، الحوار المتمدن-العدد: 2835 - 2009 / 11 / 20 - 13:20.

2- أحمد عاطف : فرج فودة : الغائب الحاضر، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 240، 2005، ص 82.

3- المرجع نفسه، ص 83.

4- المرجع نفسه، ص 85.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم