صحيفة المثقف

سامي عبد العال: النقش على الحَجر.. الوسيلة والكائن (5)

سامي عبد العالواضح أنَّ الثقافة العربية بصدد الطفولة قد طابقت بين الوسيط (الوسيلة) والكائن (الإنسان) في مجالات المعرفة والتعليم. بمعنى أنَّها لم تركز على الإنسان كإنسان ولا على قدراته المتطورة، لكنها أرادت تثبيت كيان الفرد (الساكن) كحجرٍ هو الوسيط، ضاربةً صفحاً عن كيانه المائي السائل (المتغير). لقد أعطت عناية للصلصال داخل الإنسان، للسمع والطاعة، للموت، للحقيقة الكاملة عبره. وفي الوقت ذاته حاولت تحجيم إمكانية التغيير الزمني أمامه: فليأتِ التغيير مصادفةً أو حتى عُنوةً أو قدراً إلهياً كالطوفان أو كارثة محققة، لكنه لا يجب أنْ يأتي تخطيطاً حُرّاً لأناسٍ أحرار!!

وبناءً عليه، يبدو أنَّ هناك وظيفة محددة للغة، الصياغة، الخطاب، وهي وظيفة معروفة في مثل هذه الحالات .. أنْ تكون اللغةُ بكل صياغاتها وصفية descriptive، أي تحاول وصفَ المعارف لا إنتاجها، نقلها لا إبداعها، تكرارها لا الإتيان بشيء مختلفٍ والتحليق حولها لا الدخول إلى منطقها. فالتعليم عموماً له خاصية أنْ يُغير الاتجاهات نحو العالم والحقيقة والحياة والقيم السائدة، بينما تجعله اللغة العربية، النصوص والخطابات المستعملة في المجال العام ذا (طبيعة سلفية محافظة)، إنَّه لا يفتأ يلخص المبادئ التي تسربها الثقافة التقليدية في مجالاتها المتباينة.

التعليم وما ينتمي إليه، أصبح أمراً ملحقاً، هامشياً على متن حياة ملؤها الفقر والاستبداد، إذ ذاك لايؤثر التعليم في الصغر ولا في الكبر. كيف يؤثر في هكذا مرحلتين وهو لا يؤثر في المجتمع أصلاً؟! فالثقافةَ العربيةَ لا تضع الزمنَ في سلم أولويتها وإلاَّ لأخذت بالتغير وبالمستقبل الإفتراضي، إنما وضعت الإنسانَ داخل كتلة عُمريّة ضبابية لا تهتم بتفاصيلها.

أولاً: المفاهيم والتصورات الهلامية تحكم صياغات الخطاب الثقافي، وبخاصة تجاه المستقبل الافتراضي. هنا لابد من القول إنَّ الهلاميات أُسس وأركان ومؤسسات وقوانين في المجتمع العربي لا مجرد أفكار فقط. مثل كلمات الصباح، الظهر، العصر، المساء، الليل، إذ تُطلَّق من فاعلى الثقافة حينما يضربون موعداً، ولم تكن هناك دقة محددة للزمن إرتباطاً بالأعمال. الزمن بنية خطابية تُعدُّ دلالة الطفولة إحدى مفرداتها الغائمة. ومع كون مشكلة الزمن لغويةً نجدها بذات الوضع، بل بجذورها مشكلة ثقافيةً، وينسحب الوضع الهلامي إلى السلطة، السلطان، الحاكم، القبيلة، الأسرة، الدولة، مكونات عربية ترفلُّ في إهاب واسع من الضبابية التصورية. وحتى إذا كان ثمة ممثل لها، فإنَّه ينال ذات القَدْر والقُدْرَة معاً إن لم يكن أوسع من مكانته الرمزية.

المثال البارز على ذلك (أهمية الزمن)، ولاسيما من جانب علاقته بالفعل. فعلى الرغم من أن علماء العربية خاضوا بحثاً وجدلاً في دقائق اللغة، وعلى الرغم من ورود صيغ المشرق والمغرب بالقرآن في صورة الجمع (ربُّ المشارق والمغارب[1])، إلاَّ أنّهم لم يكترثوا بهذه المسألة. ومع أنهم فطنوا إلى الفروق بين معاني الفعل الخالي من القيود الزمانية، وبين الفعل المقيد بها مثل (طلّبَ) و(سبقَ أن طلّبَ) و(يكونُ قد طلّبَ) و(لولاه لمِا طلّبَ)، غير أنهم لم يدخلوا في تفاصيلها، ولم يجعلو من الصيغ الزمنية باباً خاصاً كما تم ذلك في كثير من اللغات الحية[2].

لكن الأغرب من تجاهل مسألة الزمن هو تبرير تجاهلها: " يغلب أنْ يكون هذا ناشئاً من عدم علمهم (أي العلماء) بلغات أجنبية، إذ أن كثيراً من المفاهيم والحالات والمقتنيات لا يتبادر إلى الذهن تلقائياً وبسهولة إلاَّ بعد ظهور سبب ذكره أو ضرورة تستدعيه. فهذه المنجزات الحضارية والتقنية الضخمة التي نلمسها في مجالات مختلفةٍ من حياتنا تبرهن على هذه الحقيقة "[3].

عدم اطلاع علماء العرب على اللغات الأجنبية لا يجعل اللغة (هذا الكيان الوجودي، التاريخي) تُسقِط علاقةَ أفعالها بالزمن. اللغة باعتبارها تاريخية الثقافة، أي تعبير عن العمق الحياتي للإنسان، تؤكد هذا " العمى " الزمني، هذا الانزلاق على سطح الزمن دون تحديد. الثقافة العربية لا تلتفت إلى الوحدات الزمنية بوصفها جوهراً حياتياً، إنما بوصفها معطى طبيعياً. وعربياً كان الزمن في عموميته تهويماً نهارياً أو ليلياً. فالليل على سبيل الشرح سيمر كما هو في شكله الشامل، في حركته الكلية، عبر غشيانه للنهار وللكائنات، وللأحداث. في الشعر العربي يرد الليل على نحو شبيه بالوضع الإنساني، ليل ثقيل، ليل بهيم يسرِّب إليك لونا من الملل، إنه ليل ناء بكلكله كما يقول إمرؤُ القيس.

وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه .. عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه .. وأردف أعجازًا وناء بكلكل

ألَاَ أيها الليل الطويلُ أَلاَ انجلي .. بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ

يأتي الليلُ في" لسان العرب " كتحول زمنى كوني، أشار اللسان إليه بوصفه مرحلةً عقب النهار، ومبدؤه من غروب الشمس حتى الفجر. لقد عرِّف المعجمُ العربي ظاهرة طبيعيةً كالليل بظاهرة طبيعيةٍ أخرى هي غروب وشروق الشمس،فاللغة من خلال بصماتها الدلالية دائرية محدودة بحدود البيئة. لم يكن الحدث الإنساني، أي حدث، ولم يكن الفعل الإنساني، أي فعل شاغلاً لفكرة الزمن في أذهاننا، إنما كان انعكاسه جارياً على نقيضه. يقول معجم " تهذيب اللغة " الليل ضد النهار، والليل ظلام الليل، والنهار ضياء اليوم، فإذا أفردت أحدهما من الآخر قلت ليلةَ يومٍ، أليس ذلك مثالاً على المفاهيم الهلامية؟! ماذا ستكون صياغة الخطاب الموجه إلى الطفل؟

بالتأكيد لايدرك أطفالُنا ما معنى الزمن سوى معاني الشروق والغروب. ولو حاولنا تحديد الزمن، فلن نجد إحداثيات مهمة، ستكون صياغة العبارات، الجمل، الكلمات في الحياة العامة فضفاضةً ومتزحزحة. إننا نمتلك لغةً من أكثر اللغات انطواءً على الزمن، ولكنها هي الأكثر تفرداً في تضييعه. وبذلك نسرب إليهم عدم الإلتزام بأي عمل ممكن. والأخطر برمجة عقلية الطفل على أن الجهدَّ أمر غير مهم، طالماً انعدمت الفروق الزمنية. فالجهد هو حاصل ضرب الطاقة في الزمن، وإذا كان الزمن هائماً، فستهدر الطاقة بالتبعية، لأن الطاقةَ تحتاج إلى فاعلية الزمن المقنن بجانب الشعور بأهميته وإنجاز الأعمال خلاله.

ثانياً: أفكار التمثيل والمحاكاة تهيمن على خيال الطفل. والتمثيل في اللغة يرجع إلى ربط المعاني بمحددات بيئية (مكانية وزمانية). وهو مشكلة تثار على خلفية العلاقة بين اللغة الواقع. الملاحظ في هذا الجانب أن الصياغات المقدمة للأطفال لها أبلغ التأثير على تشكيل الإدراك وطرق التفكير، فتقديم صور للحيوانات والأشجار والأماكن مقرونةً بالمعاني المطروحة إثبات لصحة المعاني على نحو تطابقي. بينما الأجدر أنْ يقرأ الطفل هذه الصور مع عمليات تمثيل بديل، أي لا بد أنْ يتدخل الطفل بنفسه للتعليق أو للرفض أو للتغيير. إضافةً إلى أنَّ عرضَ المعرفة بتلك الطريقة يجعلُ من الطفل ذاكرةً حافظةً فقط، وكأنَّه سيصبحُ في نهاية العمر ماكينةً للحفظ والترديد، ولعلَّ هذه القضية تُعرَف بالتلقين والاستظهار!!

ومع أنها قضية تبدأ بفكرة التلقين، إلاَّ أنها تنتهي إلى الميراث الثقافي العام، ميراث الإحتفاظ بالأطُر المعرفية وبأنماط التقاليد المعوِّقة للحرية الفكرية والسياسية. طبعاً تمثل عملية الصياغة اللبنة الأولى تاريخياً لهذه الطقوس الثقافية. وليس من مفرٍ إزاء هذا الوضع إلاَّ التعمق في التحولات المعرفية واللغوية التي تتخفى بها المفاهيم والأفعال. لنضرب مثالاً: قد يقدم للإطفال نصٌ قصصي يعالج أهمية القيم والأخلاقيات على الصعيد الإجتماعي، وقد يكون هذا النص مكوناً من مرحلتين: أولاً الترابط الاجتماعي والأسري من خلال إحترام الأكبر سناً والأكبر مقاماً (الأب أو الجد أو الأستاذ). وثانياً التمسك بالسلوكيات التي تدعو إلى تقدير الآخر والحفاظ على كيانه التواصلي.

هنا يبدو أن نصاً لغوياً يدعم حركة الفعل الإجتماعي بشكل كامل. لكن لوتساءلنا إلى أي مدى يكون الفردُ فاعلاً؟ لكان الجواب أنه يكون كذلك حينما يسهم في الحفاظ على القيم الفرعية المؤدية إلى الفعل العام. بالتالي من الخطأ الاعتقاد بأنَّ التلقين التربوي والمعرفي يذهب هباءً، إنه يُفرِّغ طاقته الجزئية في هذا المجرى أوذاك ليلتقي مع غيره، والتراكم الثقافي المؤيد لحالة الخطاب الإجتماعي عبارة عن تراكمات جزئية ملتصقة بالأعصبة الحية للتعبير باللغة في مواقف فردية. الأفراد منتشرون ظاهرياً عبر المجال الثقافي، ويصبحون منجذبين إليه بحكم الرؤية والقيم ونسق المفاهيم، سوى أنهم يردُون إليه هذه الأشياء أضعافاً مضاعفةً، والمجال الثقافي نفسه يمتصُ معاني عباراتهم ليعيد دمجها في حركة الخطاب الموجه إليهم مرةً تاليةً.

يتشكل خيالُّ الطفل في أتون تلك العملية، وما لم نأخذ بتحرير الصيغ التقليدية للعلوم والمعارف والتواصل من القيود والأطر، فسيتجمد هذا الخيال الخصيب والمبدع، سيتسرب إلي أشياء جانبية. هناك على سبيل التوضيح القول الشائع: " يعملُّوها الصغارُ ويقع فيها الكبار"، كإشارة إلى أهمية الفعل الأتي من هؤلاء الصغار إلاَّ إنه قول يقصد بهم صغار العمر مرةً وصغار النفوس مرةً أخرى. ولو كان ثمة مناخٍ حي في المجتمعات العربية لكانت الحياة مزرعة لأعمال هؤلاء الأطفال، وما كانت دلالةُ القول لتنحرف ثقافياً تجاه  وصف مايصدر عن الأطفال بــــ"العيب" في نظر الكبار!!

ثالثاً: تقوم صياغة المعارف وأفكار النظريات الحديثة والمعاصرة على "منطق تراثي تفريغي". قبل توضيح ذلك لا يمكن تجاهل أن اللغة منطق ورؤية على الرغم من أنها وسيلة ومن أقوى الوسائل للفهم. بيد أن الثقافة العربية أثبتت إمكانية استعمالها كــ" أداة تفريغ ". فصيغ المعارف المقدمةً للأطفال قوالب مفرغة من ثقافتها العلمية والفكرية، وقد تم إعاة حشوها بالزخم التراثي المفقود، زخم متعلق بالاعتقاد الشائع أنَّ العلماء العرب هم آباء الحضارة العالمية، وهم الذين قدَّموا للعالم نموذجاً يحتذي وأنه ما زال العالم كله ينهل من علمهم المديد!! فيقال مثلاً حيال النظريات العلمية: " هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا "، ثمَّ ما نلبث أنْ نتناولها بأدوات ومفاهيم تراثية، كأن نتحدث عن نظرية النسبية ونظريات الكم الفيزيائية فيى حين نتجاهل تماماً التفكير المنهجي الذي أدي إليهما ولا نناقش بنية الثقافة التي أنتجتهما.

وبفضل أن النظريات العلمية المعاصرة لم تُبدّع في ضوء طرائق التفكير داخل البيئات العربية، نسرِّب إلى أطفالنا كونِّها بضائع مستوردة فقط، ولا نلامس مضامينها الثورية في العقل والتاريخ، بسبب أن الثقافة التقليدية تحاصر الصيغ اللغوية وتخترقها من خلال المنطق الذي تقوم عليه، وتلك الممارسة التربوية إنما هي ممارسة للجمود الفكري الذي نعاني منه. وإذا كان الأمر مع التكنولوجيا والبضائع أمراً مفهوماً مع مظاهر العولمة وأنماط الإقتصاد المفتوح إلاَّ أنه أمر لا مبرر له تجاه المعرفة والنظريات على الإطلاق.

أؤكد أنَّ تلك الآلية في مداها البعيد لا تربي أطفالاً، بل تجاراً للبضائع المعرفية علاوة على البضائع المادية، وتدخل بنا مدرجات المشاهدين إزاء التطورات المعرفية والسياسية دون إسهام، كأن الموضوع لا يعنينا من قريب أو بعيدٍ، جاعلةً العقل، الوعي وعياً إرتدادياً لأن التعبير باللغة عملية تفريغ واسعة الإنتشار للمضامين. وهنا تُرْسَّم سلسلةُ التفريغات: الآباء يفرّغون محتويّات أفكارِّهم لصالح الأجداد، والأبناء يفرِّغون محتويات معارفهم تبعاً لتوجهات آباء المعرفة(الأساتذة) والمرأة تفرِّغ مضمون سخصيتها وفقاً لتقاليد المجتمع الذكوري، وفاعلو المجتمع الذكوري يفرِّغون إرادتهم وفقاً لهيمنة السلطة. وفي الإطار العام تفرغنا الثقافة نحن أنطولوجياً، وفكرياً، وسلوكياً لتلقي بنا في زمن ليس زماننا، وبين رجال كانوا فاعلين يوماً ونفتقدهم الآن، ووسط أحداث وتواريخ إنطفأ بريقُها المعاصرة. القضية أن تلك السلسلة لا تنتهي، فاللغة تهامس المتحدثين، تخاتل الكاتبين،  تغرر بالمخاطبين على إعادة إنتاجها مراراً، واللافت أنها سلسلة دلالية تجتاح كافة المجالات، كافة المعارف، كافة الخطابات.

رابعاً: اللغة أداة عقابيةـ، أداة ردع رمزي عنيف. تُستعمل الألفاظ، والمقولات والنصوص كأنها في محل عقاب تنزله الثقافة بأطفالها. وبطبيعة الحال ليس هذا العقاب جارياً بشكل مباشر، هناك الكم الكبير من الموضوعات والنصوص المحتمتدريسها لهم، هناك النصوص الجافة، الأشعار الكلاسيكية (الشعر الجاهلي)، القصص المملة وغير الإبداعية، أشياء تعبر بصورةٍ أو بأخرى عن كونها لطمات للطفولة.

في ظني يرجع هذا إلى عدم الإهتمام بالإبداع من قبل الخطاب الموجه للطفل، الشيء الآخر أن هناك تشوهاً أنطولوجياً في الثقافة العربية، تلخصه فكرة طرح العقاب قبل المعرفة بحجة التربية، بدليل العطف المنطقي في المصطلح العام"التربية والتعليم". ولتوضيح ذلك نقف على مقولة:" الأدب فضلُّوه على العلم "، من هؤلاء اللذين يفضلون الأدب على العلم؟ لا نعرف ولم يقل لنا شخصٌ من هم هؤلاء. الأدب هنا بمعنى القيم التلقينية، بمعنى النقش الحجري لأخلاقيات الضبط والمراقبة الإجتماعيين، النقش في وجدان ومشاعر وسلوكيات وأجساد وعلاقات الأطفال بمحيطهم. وغياب الملامح في "فضلوه"، يعني غياب الهوية، غياب الفعل، ومعناه بالنسبة لهؤلاء اللذين فضلوا الأدب إيقاع التخويف، إضافة الفراغ الذي يتركه المجهول في شكل إلزام قسري بالأثر المترتب عليه.

أكبر تزييف للوعي أن نرى فعلاً رمزياً يقوم به المجهول، بينما تتخفى في تفاصيله عصا الثقافة الغليظة. عصا تهوى على رؤوس الأطفال في كل عملٍ، في كل فصل دراسي، في كل مقرر معرفي، والأنكي أنْ يقوم بالعقاب من بإمكانه حمل العصا. لأنه أصبح مأخوذاً بوصية هؤلاء المجهولين، ومنفذاً لتفضيلهم. التفضيل في الثقافة العربية عقاب جماعي لمن هم دونه أو في مرماه التربوي، والفعل(فضلوه) بضميره الجمعي اشتراك في جريمة قتل المواهب والقدرات، وليس هناك مجال(بحكم المجهول أيضاً) لتحديد من المسؤول. وهاء الغائب مثل العفاريت والجان والشياطين التي تسكن مناطقنا الثقافية المظلمة، غرفنا الخطابية المهجورة، وجداننا الأخلاقي الجاهلي[4]. وينطوي الأدب كدال مفضلٍ على مدلولين، الأدب بمضمون التربية والأدب بمعنى الإنتاج القصصي والشعري والفني. إذن المراوحة تجعل الأدبَ كتربية تمتد إلى تربية الوجدان  والعواطف، إلى عقاب المشاعر.

خامساً: الإستناد إلى لغة إنفصاميةٍ، لغة تُرسخ شيزوفرنيا الفكر، الفعل. هناك فكر شائع حول المثل المفارقة، إذ تدعو في عين الوقت إلى إزدراء الحياة، وتدور معه الخطاب الديني والإجتماعي. إنه الفكر ذاته الذي يسلب حياة الإنسان، حياة الأطفال باسم النعيم مع أن الدين أخبرنا أن الدنيا مزرعةُ الآخرة. الواقع العربي مغطى بطباق هائلةٍ من التحديدات الإنفصامية، أحياناً نظن أنَّ للأطفال عالمَهم الخالص سوى أن الواقع، اللغة، تبتلع كل هذه الأقوال وتكرس التناقض. ولا تكون ثمة تربية ولا معرفة دون المرور بتحولاتهما التي تفرز هيمنة متبادلة الأدوار مع الخطاب المنتشر، أي هما(التربية والمعرفة) يعطيانه البراهين على الولاء الكامل للإنفصام.

وسط هذه الشفرات يتحدث خطاب الطفولة إلى الأطفال بكلمات يجب وينبغي ولابد، ومن الضروري، بينما الواقع مغاير تماماً، الواقع مراوغ كليةً. إنها كلمات الأمر والنهي، إفعل ولا تفعل، بينما نجد اللغة مترسبة بازدواجيتها في المناسبات والشعائر والخطب السياسية والخطب الدينية، مترسبة بكم مهولٍ من أخلاقيات الواجب والضرورة الموعودَّتين. ومن ثم فالخطاب الثقافي بتعبير نزار قباني " مستنقع كلام"، خطاب يستعمل اللغةَ بألف وجه، بألف معنى، بألف تحول في مواقف الإنجاز والتقرير لا التأويل. فالتأويل كما نعرف يُثري فهم اللغة، فهم النصوص، فهم الحقائق، غير أنَّ المستنقع يجعله، في الحياة، ناتجاً عن تراكم العمليات والاحالات الإنفصامية، إنه تعبير عن حال يستغرق فيه الإنسان محاولاً الخروج، التحرر فلا يجد إلى الإلتصاق باللغة والتقلب مع دورانها.

وفجأة يتوارى المتحدث على طريقة " فضلُّوه " لتظهر اللغة في الشارع، وفي التواصل، وفي التربية بنفس المنطق الإنفصامي. ويضطر الطفل أن يتلقى الكلمات بالطريقة ذاتها، خطاب كهذا يعدُّ أقوى تأثيراً من الواقع، لأنه حالة تحمل واقعها، وتعبر عن زمنها المنقسم كما لو كان حقيقةً. إنه حالة اللعبة التي تستولي على الكائن الإفتراضي، ونجده حين يتلهى بها، تعيد دمجه في حالات مماثلة إثباتاً لنفسها بشكل مستمر[5]. حتى أنَّ الطفل مع التكرار لا يستطيع العيش دون استعادة الوضعية السابقة. وكلام الطفل هو ألصق تعبير عن أثر اللغة في تنميط الخطاب ومعانيه، فنظراً لقدرته على التكيف فإنه يخضع بسهوله لمقتضى الحال إذ يشعره بإرضاء واسعاد الآخرين كما يريدون.

سادساً: إشباع الأطفال وأخيلتهم وحواسهم بلغة السلطة الأبوية حتى التخمة. السلطة الأبوية بمثابة غطاء الرأس لكل الأقانيم الموجودة في المجتمع العربي، وبهذا المقتضى تقوم هذه السلطة بدور المُرضعة الإجتماعية، لدرجة أن أى سلوك، أى فكر يمر ثقافياً إلى الأطفال لا يمر إلا عبر مصفاة تلك السلطة، هي توازي لدى الطفل الرغبة والرهبة، الخوف والسعادة، الوهم والحقيقة. وحين يمارس حياته يضع سلطة الأب نصب عينيه، فماذا تفعل الثقافة من الخلف بهذا المعنى؟

إنها تخلق لدى الطفل بذرة الإنفصام المدعم للنقطة الأولى، لأنه في نهاية الأمر سيحاول الموازنة بين رغباته وتفضيلاته وبين نواهي الأب الممثلة لحدود الثقافة. بطريقة أخرى  تتسلل إلى الطفل من خلال قناع أبوي براق. لهذا نقول عن الأب في لهجتنا العربية الدراجة "سيدي"، لكونه يعبر عن السيادة العائلية ويحمل رمزيةً غير مباشرة لسيادة الثقافة المهيمنة، كما أنه قرين شعار الحياة، إذ يلبي إحتياجات الأبناء ورعايتهم مادياً وإجتماعياً. السلطة الأبوية في هذا الإطار قانون الوجود الإجتماعي الذي يصارعه الأبناءُ ويرغبون فيه، يتقاتلون معه ويحتاجون إليه، إنها التناقض في محل وجود مزدوج بين الحب والكراهية.

ومكانة الأب في طريقه السلطوي إنما تعبد الطريق لفكرة المحرمات الإجتماعية إذ تتخذ من المحرمات الدينية مثالاً لها. الثلاثة (الأبوة، المجتمع، الدين) أي (السلطة، الأخلاق، المقدس) يتركزون في لفظة سيدي. مرة الأب سيداً للبيت، أي طوبغرافي العادات والعائلة، ومرة المجتمع إقليماً ثقافياً أخلاقياً، ومرة الدين علاقةً للسماء بالأرض واسقاطاً للمثال علي الواقع. والأب بهذه السلطة (القابلة للتسلط) ينزع إرادة الطفل من جذورها، وقد لا يترك له مساحة للتنفس الطفولي الحر. لأن الأب وفي حالة غيابه مكانياً يترك للثقافة مهمة مراقبة الأبناء وملاحقتهم. والتعاليم التربوية خيرُ دليلٍ على عملية النسخ  copy processالممارَّسةِ على الكيان الإفتراضي. نسخ لا يترك إحتمالاً واحداً لأن يخرج من قبضة الأبوة، ولعل هذا السر وراء ضعف الشخصية لدى الشباب، بل لدى الرجال في المجتمعات العربية. فنحن نفرّغ المجتمعَ بإسم الوصاية الأبوية من مستقبله، من إمكانية بناء كوادر بشرية. الأبوة لا ينبغي أن تكون هيكلاً سلطوياً يلتهم ما سواه. ولكنها إن جسدَّت قيداً، فهي انفتاح من جهة أخرى، فلم نر شجرة ً كبيرةً تقتل أخرى صغيرةً، بل الحياة النباتية تكشف أن هذه البذرة تشق طريقَها دون عائق وتتعملق إلى أبعد مدى نحو السماء.

سابعاً: صيغ الفشل تدخل إلى الخطاب المتداول من خلال رؤية القضايا الحياتية، الفشل في العلاقات الإجتماعية والإنسانية، الفشل في التعليم، الفشل في تحقيق الطموحات والأهداف. كثيراً ما نتصور أن الطفل بمنأى عن الحياة العامة المليئة بالإحباطات أو أنه كائن سعيد، وهذا تصور غير دقيق، فالطفل كائن حساس لكل ما يجري حوله صغُر أم كبُر. وربما يتأثر أكثر من غيره من أفراد المجتمع على نحو أسرع. رأينا في جميع الأحداث والصراعات التي تشهدها الخريطة العربية أن الأطفال يقعون في منزلقات ومشكلات الحياة السياسية، لينطبق على حالهم عكس المثل الذي أشرت إليه في صفحة سابقة: "يعملوها الصغار ويقع فيها الكبار" فيصير كالتالي " يعملوها الكبار ويقع فيها الصغار"!!

الأطفال يدركون كل ما يجري حولهم بالتفاصيل الجزئية على نحو ممل، وجميع الكلمات التي تعبر عن الفشل، التخلف تترسب لديهم وتشكل جهازهم النفسي والمعرفي. نحن نكوِّن أجيالاً فاشلة، لأننا نشركهم في صناعة الفشل اليومي بتكرار العبارات التي تحض عليه، والأطفال يتعاملون مع القضيا المعقدة بأكثر التصرفات تلقائية وبراءة غير أنهم يدخلون في دوامة الواقع المتخلف بمجرد أن يتلقوا معطياته الخطابية والقصصية.

هنا يهمني التذكير بأن النظام الإجتماعي الحياتي مستند أثناء حركته إلى"بنية سردية"، مثله تماماً مثل الحكي القصصي. الأطفال جزء من حبكته الدرامية، لذلك نجدهم ملتصقين بالحكايات اليومية في المناسبات والطقوس والأعياد. وهم كأطفال يحفظون عن ظهر قلب العلاقات بين أفراد العائلة ناهيك عن درجات التقدير أو التحقير التي ينالونها في حياتهم الإجتماعية. ويجدون متعة خيالية في سماع الخطاب اليومي، تغيراته وتناقضاته وعلاقاته الصراعية، وبخاصة أنهم يخلطون ذلك بتجسيد الصور ويترجمونها إلى عواطف ومشاعر، الأجهزة النفسية للأطفال "معامل ترجمة فورية" للأحداث والعلاقات. فإن كانت أحداثاً سلبية كانت الصور النفسية سلبية، ولذلك بنفس براءة التلقي والكلام تكون براءة الترجمة والتأثُر.

ثامناً: تعبيرات الخطاب الثقافي ترَّسب قيماً سلبيةً لدى الأطفال، على وجه الدقة قيم الخنوع، قيم الطاعة العمياء وملحقاتها(تلّقِي الأوامرَ والنواهي، التصديق دون تفكير، خفة العقل، الهذيان الفكري)، قيم عدم تقدير الآخرين، قيم الإساءة السلوكية والكلامية، قيم إضاعة الوقت والفرص في الحياة، أساليب النفاق الإجتماعي. إليك حكاية إجتماعية توضح المعنى المقصود: " يُحكى أنَّ إمرأة في إحدى المناسبات قد ذهبت إلى جارتها لتتبادل أطراف الحديث، وأثناء الحديث كان طفلُ الجارة جالساً بالقرب منهما. وظلت المرأتان مستغرقتين في الكلام واستعراض أحوال العيش والجيران، بينما كان الطفل يسمع كلَّ ما يدور، وبعد أن استأذنت المرأة للانصراف إلى بيتها، قالت أمُ الطفل لزوجها حسناً أن غادرت، "فهذه المرأة بوجهين"، في إشارة إلى أنها تقول كلاماً يخالف تصرفاتها في مواقف أخرى. ولكن حدث أن جاءت هذه المرأة الزائرةُ ثانيةً إلى أم الطفل في بيتها. وإذ هي جالسة هذه المرة ظل الطفلُ يدور حولها ويحوم متفحصاً إياها عن كثب، فقالت له المرأة: ما بك ياحبيبي: لماذا تنظر إليّ مندهشاً هكذا؟، فرد الطفل هامساً: أريدُ أن أرى وجهك الآخر، أنت لك وجه واحد فقط!! ضحكت المرأة متساءلةً.. أيُّ وجه يا صغيري الذي يتريد رؤيته، فقال مباشرة: وجهك الثاني، لأن ماما قالت لبابا بعد أنْ غادرت البيت المرةَ السابقةَ إنك بوجهين".

هذا الموقف يمثل الخطاب الذي يرسّب قيماً سلبيةً، إذ أن عبارة " هذه المرأة بوجهين " دفعت الطفل للبحث عن الوجه الآخر. كان يمكن أن يمر الموقف تلقائياً غير أن الدال الإجتماعي (الوجه النفاقي) تحول في مخيلة الطفل إلى دال طبيعي (الوجه الجسدي)، وبالتالي حدث لدي الطفل رد فعل في صورة قبول واندهاش من الموقف، قبول لأنه صدَّقَ الوصف النفاقي بشكل جسدي، واندهاش لأنه لم يره في الحقيقة.

حينئذ ستكون النتيجة بالنسبة إلى الطفل: إما أن أمَّه تعلمه الكذبَ لأن عدم وجود الوجه الآخر للمرأة يثبت أنَّ كلامها غير صحيح، وإمَّا أن يترك حيرته معلقةً إننظاراً لتوضيح الأم لهذا الموقف، وفي هذه الحالة ستشرح له الأم: لماذا قالت ذلك، فيكون إدراكه راميّاً إلى أن هذا الوصف كان في غياب الجارة. وبالتالي فإن أمه أيضاً بوجهين، لأنها قالت وصفاً للجارة حين ذهبت بينما لم تستطع قوله في حضورها. إذن نحن نعلم الأطفال النفاقَ في أبسط أشكاله ومن خلال  ممارسات الحياة العادية. وتعد الحكاية تدريباً عائلياً(أمومياً أبوياً) على الكذب والنفاق، وتدربه كذلك على أن اللغة لا طائل من ورائها، إذ حينما بحث عن الوجه الآخر لم يجده، ومن ثمَّ لا ينطبق الكلام على الواقع، إنه مجرد كلام في الهواء!!

 

د. سامي عبد العال

.......................

[1]- ورود الشروق والغروب بصيغة الجمع يعني إحتواء الزمن على مستويات عديده من التحول. والإشارة واضحة إلى عنصرالتغير الزماني والمكاني، وهذا ما يظهر في علوم الفلك نظراً لإحداثيات دوران الأرض حول الشمس. وربط القرآن المشارق والمغارب بمصطلح الرب معناه الحساب الإلهي للفعل الإنساني، وأن الفعل مرهون بالزمن والعالم من حوله. وبالتالي كان يتعين على الإنسان الإهتمام بالحساب الزمني للأفعال. وكلمة الرب تتضمن العناية والمرجعية والحاجة إلى التدقيق، بمعنى أن لا يوجد كائن بشري غير مربوب لله، والربوبية سقف لطلب الغايات وانجاز الإعمال. الأمر الذي يحتم التدقيق في مكان وزمان أي فعل مهما صغر. وإذا كان الرب يطلب عبادته فلا تتم دون تنوع الشروق والغروب بتنوع الأزمنة ومن ثم الأفعال، فهناك مواقيت للعبادة وللأيام والشهور والسنيين. ويشير تجاهل علماء اللغة لتلك الدلالات إلى أن صياغة اللغة، الخطاب تتم بتواطؤ القوالب الثقافية مع تصورات المكان والزمن دون أدنى إهتمام بالقرآن وهو النص المؤسس في المجتمعات العربية!!

[2] - فريد الدين آيدن، الأزمنة في اللغة العربية، دار العبر للطباعة والنشر، إسطنبول تركيا 1997، ص2.

[3]- المرجع السابق، ص2.

[4]- يقول نزار قباني معريَّاً بأدوات الشعر " نحن شعوب من الجاهلية ونحن التقلب، نحن التذبذب والباطنية، نبايع أربابنا في الصباح ونأكلهم في العشية". هذه ظاهرة ثقافية لا تنفصل عن الموضوع الذي أتحدث عنه، لأن اللغة العقابية ممتلئىة بانعكاس قهرى نمارسه على أي موضوع حتى ولو كان طفلاً. وقوله نحن لا يشير إلى فرد عيني بل يلتقي مع (هاء) الجمع في الفعل فضلوه، ألم يكن هؤلاء اللذين فضلوا الأدب على العلم هم أنفسهم من أكلوا أربابهم وقت العشية وسيأكلونهم في أي وقت. الظواهر الثقافية تتجاور وتتبادل الأفعال والترميز. إن اللغة التي تتقلب، تتذبذب أنما تصبح عقابية بإسم الأدب. بمناسبة المجهول المخيف وراء دلالة(فضلوه) يحدده نزار ولعب على نفس الصيغة، وأغلب الظن أنه لم يعرف هذا، لكن بإبداعه يكشف كيف يفكر، كيف يشعر هؤلاء مصدر التفضيل.

[5]- يُوصِّف نزار قباني هذه الظاهرة في قصيدة بعنوان مورفين: " اللفظة طابة مطاط.. يقذفها الحاكم من شرفته للشارع .. وراء الطابة يجري الشعبُ ويلهثُ .. كالكلبِ الجائعِ .. اللفظةُ في الشرقِ العربي أرجواز بارع يتكلم سبعة ألسن، ويطل بقبعة حمراء، ويبيع الجنة للبسطاء وأساور من خرز لامع، ويبيع لهم فئرانا بيضاً.. وضفادع، اللفظةُ جسد مهترئ ضاجعه كتاب والصحفيُّ وضاجعه شيخُ الجامع، اللفظةُ إبرة مورفين يحقنُها الحاكمُ للجمهور من القرن السابع، اللفظة في بلدي إمرأة تحترف الفحش من القرن السابع".

نزار قباني، روائع نزار قباني(موقع أوراق أدبية) WWW.AwraG.com ص ص114-115.

يوثق نزار برؤيته الشعرية هذا التكوين التاريخي للكلمة، هي مزيج من نبض اللغة والثقافة ونبوءة الشعر وحركة التاريخ. أدرج عنوان القصيدة كدواء، كعقار يخفف الألم ولا يقضي على المرض، بل وجود العقار الحقيقي يكمن في المحافظة على وجود المرض، هما يتبادلان الوجود والعوَّز، في تنويه إلى أن اللغة في الثقافة العربية مسكنة للهواجس، للآلام ومهيجه للأحلام دون جدوى . علينا أن نعيش فقط على أجنحة الكلمات ولا نلامس واقعاً ، والتاريخ يقول ذلك. إنها لا تقدم حلولاً ولا خبزاً و لا صدقاً بل تقدم وهماً في وهم. الكلمة تعبر عن حالة إنفصام وجودي، لا مجرد تعبير في مواقف. وكم كان نزار دقيقاً عندما ذكر الحاكم  بلا تحديد كرمز للسلطة، والتقاليد والمركزية الثقافية. فالحاكم كلمة مهملة المرجع، ملقاة في فضاء النص الشعري غير أن لها كل المراجع بحسب مواصفات الحاكمية في التاريخ العربي. هي تأتي من هنالك حيث فعل"فضلوه"على ما ذكرت في المتن، أي أن السلوك السائد حاكم، الفكر الديني المهيمن حاكم، سلطة النص تعد حاكماً، السلطة الأبوية تعتبر حاكماً، فجميع تلك الأنماط بمثابة شرفات للعلو والقمع، هي شرفات تنطلق منها اللغة. ولا ننسى أن كلمة النص في العربية مأخودة من الإقرار والعلو ومنها جاءت المنصة التي يقف عليها الخطيب لإلقاء كلامه. إذن اللغة العربية تحمل في بنيتها هذه الشرفات المقدسة، وعلى متلقيها، بلا استثناء الركض خلف الكلمات، لأن الكلمة تراوغ واقعاً آسناً فلا مقابل دلالي لها.

والجري حالة من العشوائية بحثاً عن تفسير للواقع الذي بُصقت عليه الكلمات. كلمات الحاكم تبصق لا تنطق، تقذف مثل كرة المطاط لا تحط على مضمونٍ. إنها تقدم وعوداً وراء وعود بينما الشعب كل الشعب يلاحق مسيرتها بلا طائل. الشعب كما يؤشر نزار  كلب جائع، والمثل الشعبي يقول"جوع كلبك يتبعك". وعلى الرغم من أن الكلمات تشبع الجوع الرمزي إلا أنها لا تجدي فتيلاً بالنسبة للجوع الكلبي. وتباعاً لا يغني الواقع نفسه الذي تدثر حتى أطرافه باللغة، لا يغني عن المعنى. الشعب بدون معنى لهو شعب محروم من الغذاء، من الروح. وهذا ناتج عن ألعوبة الكلمة تاريخياً في التراث العربي. الكلمة القامعة والمتسلطة تفعل بالواقع ما لا يستطيع الواقع فعله بنفسه. هكذا نرى تحول الكلمة إلى بهلوان يتكلم بسبعة ألسن، ويبيع النعيم للبسطاء ويخرج الفئران والضفادع من القبعة. وفي مستنقع الكلام تنبت سيقان الكلمات خادعة وهي تطلق أصواتها كنقيق الضفادع. اللفظة جسد إغوائي منتهك، مهترئ من كثرة إستعماله وتعريه  الإباحي. عبَّر بمضاجعته الكتابُ والصحفيون. الخطاب فاحش، مدنس منذ القرن السابع الهجري. حتى غدا كأنه إمرأة تحترف بيع جسدها للآخرين،  تمنح حروفها لكل من هب ودب ليقف على شرفتها. لكن الحاكم هو الذي انتهك عذريتها وظل يبتاع انحرافها، يبتاع شرفها دون إي بادرة للتغيير.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم