صحيفة المثقف

مصدق الحبيب: عن الجمال وفلسفة الجمال

مصدق الحبيبمفهوم الجمـال ونطاق دراستـه

يتمحور مفهوم الجمال Aesthetics في الدراسات الفلسفية حول كل ما يثير الحواس ويلهب المشاعر الانسانية، وهو بالتالي مفهوم ينبثق من صلب الادراك والتصوّر ليمثل عنصرا مهما من عناصر الرؤية الفنية للكون. وغالبا ما تؤلف جوانب الشكل والصياغة والبناء والعرض الحصة العظمى فيما يتعلق بإثارة الحواس من الاشياء والموجودات التي نراها ونتحسسها، بضمنها الاعمال الفنية والادبية وما تجود به الطبيعة وما ينتجه الانسان. ولاريب في ان هذه الجوانب الظاهرية تختلف اختلافا نوعيا عن الجوانب الداخلية المتعلقة بمحتوى تلك الاشياء ودلالاتها الضمنية وقيمها الاستعمالية. على ان تسمية علم الجمال، التي تُعرّب احيانا بـ "الاستطيقا" مشتقة من الكلمة الالمانية asthetisch المستعارة بدورها من الاصل الاغريقي الذي يعني "الشخص الحساس". اما حصة الفلسفة من الجمال فهي مهمة الاضطلاع بتقصي نشوء هذه الظاهرة (أي ما يعتبره ومالا يعتبره الانسان جميلا) وتفسير تغييراتها وحصر العوامل التي تؤثر في نشوئها وتطورها.

كان اول من استخدم مفهوم الجمال بمعناه الحالي هو الفيلسوف الالماني الكساندر بومكَارتن في كتابه الموسوم بنفس الكلمة والمنشور عام1750 . اما استخدام الكلمة في اللغة الانكليزية فقد جاء متأخراً نسبياً، وذلك عندما نشر جي برنارد ترجمته لكتاب الفيلسوف كانت Kant  الموسوم "نقد قوة الاحكام" عام 1892. كما يشمل المنهج الفلسفي للجمال دراسة طبيعة وعمل قوانين الظاهرة وتمحيص الاسباب المتعلقة بما يقرر ما هو جميل في الفن والطبيعة، اضافة الى دراسة الملكات الانسانية والاستعدادات الشخصية لتذوق الجمال ومديات التمتع به.

ولهذا ينقسم نطاق دراسة مفهوم الجمال الى قسمين رئيسين:

-الجانب الاستهلاكي: وهو الجانب المتعلق بالمتلقي، والذي يتركز على قضايا تذوق الجمهور وتقديره للقيمة الجمالية في الاعمال الفنية والادبية وفي الاشياء والموجودات الاخرى.

-الجانب الانتاجي: المتعلق بإمكانيات خلق وصناعة ما يدور حوله الجدل الجمالي، وهو الجانب الذي يضطلع به المبدعون من الفنانين والادباء والموسيقيين وغيرهم، بافتراض اقتصارنا على مفهوم الجمال في الفن والادب. ويتشعب هذان القسمان بدورهما الى اجزاء فرعية مترابطة من الدراسة والبحث: فيتفرع على سبيل المثال قسم المتلقي الى دراسة موضوع الذائقة وعملية التذوق وميكانيكية استلام التاثيرات الحسية والاستجابة لها، والانعكاسات النفسية المتعلقة بها، والذي بدوره يدرس من جانبين مختلفين:

- الجانب السايكولوجي المتعلق بطبيعة وأصل المشاعر و وتغير الاحاسيس وحالات الادراك، و

- الجانب الميتافيزيقي المتعلق بتحليل الشكل والمحتوى وعلاقة الجمال بالنوعية والجودة ومدى تمثيلهما للحقيقة وانطباقهما على الواقع.

اما القسم المتعلق بحقل الانتاج فيتفرع الى دراسة ظواهر الخلق والابداع والعبقرية والكفاءة والمهارات والتدريب والممارسة، ولابد ان يقود ذلك الى دراسة طبيعة ووظيفة الفن والادب، ومقومات ما هو مثالي او حقيقي أو زائف من الانتاج الفني والادبي. وتتعدى تلك الدراسات هذه الميادين لتصل الى تحليل الاخلاق والالتزام، فضلا عن دراسة اتجاهات ومدارس الفن وفلسفة التربية والتعليم في حقول الابداع، وفي مجالات تطوير الكفاءات والتنظيم والتدريب.

تطور الجدل الفلسفي حول مفهوم الجمال

تعتبر مساهمات الفلاسفة الاغريق من اولى المساهمات المسجلة تاريخيا في مناقشة موضوع الجمال ومعاييره. ولاتزال اغلب طروحاتهم تمثل مصدرا اساسيا للكثير من الافكار والنظريات في علم الجمال حتى يومنا هذا. كان سقراط اول من سبر اغوار هذا الموضوع بأفكاره القاضية بتطابق وتماثل وتزامن مفهومي "الجمال" و"الجودة"، فكل جميل يجب ان يكون جيدا، وكل جيد لابد ان يكون جميلا، على ان كليهما ينضوي تحت مظلة "الفائدة والقيمة". وبهذا يكون سقراط قد ربط الجمال بالقيمة الاستعمالية للاشياء واشترط فيه الاستجابة الى الحاجة العقلانية التي يسعى الانسان ابدا الى اشباعها. أضافة الى ان سقراط كان يؤمن بنسبية الجمال ، اذ ليس هناك جمالاً ذاتياً لديه من دون تدخل العقل المدرك.

أما افلاطون فقد كان يؤمن بالجمال المطلق المتأصل في الاشياء بشكل ضمني. وكان قد حدد عناصر الجمال الاولية بمجموعة من الصفات شملت التناسب والتناغم والانسجام والاتحاد والتكامل التي قد تجتمع وتتظافر معا، على سبيل المثال، في ظاهرة بسيطة مثل استقامة وسلاسة وانسياب خطوط شكل ما ونقاء لونه.

وقد مثل أرسطو مرحلة اكثر جدية في التحليل العلمي للجمال حين اختلف مع سابقيه في منطلق اساسي هو فصل الجميل عن الجيد وإبطال العلاقة المشروطة بينهما، ذلك انه لم يجد اية ضرورة لهذين المفهومين ان يلتقيا أو يشير احدهما الى الاخر. فالجيد لدى ارسطو يتطلب الفعل وغالبا ما يكون مقرونا بالعمل الوظيفي. وقد يكون الجميل جمادا لا فعل له ولا يمكن ان يناط به عمل ما. وبالنسبة لترتيب الاولويات، يضع أرسطو الجميل قبل الجيد، كما يضع كليهما قبل قيمة الاشياء وضروراتها. أما العناصر العامة للجمال فكانت تتمثل له في النظام والتناسق والتماثل والتحديد والوضوح اضافة الى نسبية حجوم الاشياء واولويات اهميتها. وقد مثل أرسطو قفزة نوعية عن سابقيه في صياغته لفلسفة الفن، إذ اعتبر وظيفة الفن الاساسية هي تزويد الناس بالمتعة الصافية دون اعتبار القيمة الاستعمالية، وصنف مجالات الابداع الفني حسب اهميتها واضعا الشعر في مقدمة القائمة ومعتبرا اياه اكثر جدية، بل حتى اكثر تفلسفا من الفلسفة. وقد رأى بلوتينس الجمال المطلق متركزا في مجالات الخلق والابداع، فهو الذي تصور بان الاشياء التي لا تطالها يد المبدع لا يمكن ان تكون جميلة بالمرة. وكان قد حدد ثلاثة مجالات لتجسيد الجمال: الجمال الانساني المادي الذي منحه أعلى الدرجات، والجمال الانساني غير المادي أو الروحي، وجمال الجماد المادي الذي أعطاه أدنى الدرجات. أما معياره الجمالي الاساسي فيكمن في بساطة وتماسك وتمامية الاشياء وعدم نزوعها الى التجزؤ والتقسيم.

القفزة النوعية الاخرى في فلسفة الجمال تحققت في افكار كانت الثورية التي رفض بموجبها الوجود الموضوعي للجمال معتبرا اياه مفهوما ذاتيا بالدرجة الاولى.  يعتقد كانت ان وعي المرء بجمال ما من حوله يتأتى اولا من تأمله الدقيق للاشياء، وثانيا من حصول التوافق والانسجام بين ادراكه وتصوره من ناحية وبين ميزات تلك الاشياء المادية وغير المادية من ناحية اخرى. فحين نتأمل الاشياء التي من حولنا ونقرّ بأنها جميلة او قبيحة، فإن مثل تلك الاحكام تترتب تبعا لما تقتضي طبيعة فهمنا لهذه الاشياء واتجاهات تصوراتنا لها. وعندئذٍ، يمكن التأكيد بأن مصدر الجمال ليس في الاشياء التي نرى بذواتها انما في انعكاس شأن تلك الاشياء في اذهاننا وبناءً على تصوراتنا. وأول مايترتب على ذلك هو ان الاحكام لابد ان تكون فردية شخصية لتمثل اختلافات تلك الانعكاسات تبعا لاختلافات الاشخاص. فما يراه فلان جميلا قد يراه علان اقل او أكثر جمالا، وبالإمكان ايضا ان يبدو ذلك الشيء نفسه قبيحا لشخص ثالث. ويتفق كانت مع بومگارتن في اعطاء اولوية الجمال الى الطبيعة التي تجسد عندهما اسمى آيات الابداع، فيما يأتي الفن في المرتبة الثانية باعتباره تقليدا للطبيعة. واستنادا الى هذه النظرة، يصبح، على سبيل المثال، مدى فوتوغرافية العمل التشكيلي المعيار الجمالي الاسمى في التشكيل. كما يصبح بنفس التحليل مدى تطابق احداث وشخوص الرواية او القصيدة على احداث الواقع هو المعيار الجمالي الامثل في الادب.

وكان المعيار الجمالي الاساسي عند هيگل هو معيار "المثالية" المتجسد عبر الوسائل الحسية. فالجميل هو الكامل التام المتحد. وهذه هي المرة الاخرى التي يتم فيها التأكيد على وحدة الاجزاء وتكاملها كمقياس لماهو جيد وجميل. فلا يمكن للمتجزئ والمتعدد والمتباين ان يكتسب صفة الجمال الا بالاتحاد والالتصاق والشمول الانسجامي باتجاه الصيغة النهائية المثلى التي تضفي على النتيجة النهائية صفتي الروعة والجودة. واذا كان هذا معيار المثالية، فان معيار الواقعية سيكون متمثلا بتعدد واختلاف وتباين الاجزاء وعدم ارتباطها او توافقها مع بعضها او انصهارها في وحدة واحدة. ويختلف هيگل عن سابقيه في موضوعة اسبقية الطبيعة على الفن وذلك بإعطاء المقام الاكبر للجمال الفني واعتبار جمال الواقع المستمد من الطبيعة تجسيدا فائقا للوحدة والتكامل بين الافكار والحقائق الواقعية.  وبالإضافة الى احاطة الفن بقدسية خاصة واعتباره اول مراحل الروحانية، فان هيگل يقدم الفن بموجب منهجه الدايلكتيكي باعتباره الحقل الذي يضطلع بمهام تعويض ما تفتقر اليه الطبيعة من جمال، الامر الذي يناط بالدرجة الاولى الى دور الافكار في الفن، وعلى وجه التحديد، دور الترابط بين المحتوى والشكل، ذلك الترابط الذي يأخذ درجات مختلفة يصنفها هيگل من أوطأها، كتلك المتجسدة في فن العمارة، الى أعلاها، المتمثلة في الشعر.

اما شوبنهاور فقد وضع ذاتية الجمال الكانتية على حدة، وركز على تأمل ظاهرة الجمال التي اعتبرها بمثابة الانعتاق التام للفكر من قيود الرغبة الذاتية ومحددات الاهواء الشخصية. وكان متحمسا لمسألة ان العقل النير غالبا ما يعج بالأفكار الجريئة النقية التي اطلق عليها تعبير "الهواجس الافلاطونية" والتي اذا شاء لها ان تتحرر من مداخلات الذات، فسيكون بالإمكان التمهيد للإطاحة بشقاء الحياة واطلاق العنان لأجنحة البهجة ان تسمو بانتصار باهر. وبذا يكون شوبنهاور قد اعتبر كل الاشياء في الوجود جميلة مالم تحتبس الافكار في صندوق الذات او تنطلق منه جريحة او مشوهة، وهذا ما يعرّف القبح لديه، كونه التجسيد الصادق لارتباط الافكار بالذات بطريقة مشوهة.

وبمنهج مشابه لكنه اقل بلاغة، عبر شيلر عن المعيار الجمالي كونه حالة التوفيق بين الحسي والعقلاني، طالما ان هناك ارتباطٌ مباشرٌ بين الجمال الفني وثقافة المجتمع.

وبخصوص المدرسة الفرنسية في الفلسفة، فقد نشأ الجدل حول الجمال وتطوّر عبر الحوار الطويل والمناقشة المستمرة بين الشعراء والفنانين والنقاد اضافة الى الفلاسفة. ذلك الجدل الذي احتدم اكثر فأكثر ابتداءً من نهاية القرن السابع عشر. وكان من أبرز اقطاب تلك المساجلات بوفييه وبيرو وفولتير وديدرو. ومن ابرز ماطرح في تفسير طبيعة الجمال كان من قبل الروحانيين الذين اعتقدوا بأن الجمال ظاهرة روحية لايمكن حصرها في الوجود المادي. ورغم انهم أقروا المعايير المادية مثل الحجم المناسب ووحدة البناء والتكامل وقوة تأثير اللون والمرونة الانسيابية في الشكل، الا انهم أصروا بانه لا يمكن لهذه العناصر ان تتظافر لإنتاج ما هو جميل الا اذا كانت تحت تأثير وسيطرة قوة عليا سامية غير مادية، الامر الذي أسبغ على كل طروحاتهم صفة الروحانية.

وبخلاف المدرسة الفرنسية، انصب اهتمام مفكري الجمال من المدرسة الانگليزية في الفلسفة على العملية السايكولوجية التي يتم بموجبها تفسير الجمال، فانقسم اولئك المفكرون الى قسمين:

- الحدسيون: اولئك الذين اعتبروا الجمال ظاهرة موضوعية يتم ادراكها بالبداهة.

- التحليليون، الذين اعتبروا الجمال ظاهرة اعقد بكثيرمما يمكن ان تعالج بالحدس والبديهة، بل يتطلب ادراكها الكامل التحليل العلمي الدقيق.

وكان اول الحدسيين شافتسبري الذي عرّف لنا الجمال بمفهومه العام الذي يكمن في دواخل الاشياء ويرتبط بأسس انظمتها، وذلك انطلاقا من ايمانه بأن للجمال مصدرا باطنيا، ذاتيا وروحانيا ومستقلا عما يوفره المظهر الخارجي للاشياء.  ولم ير شافتسبري في المادة اي جمال مالم تكن قد تكونت بموجب نظام دقيق محدد، وذلك على غرار الهيكل الكوني الذي يسير بنظام دقيق وتتجسد فيه الحركة والحياة بطاقة روحانية عليا، والذي اعتبره شافتسبري مصدرا أسمى للإلهام. ويتفق ريد مع شافتسبري في موضوعية الجمال غير المادية التي ترمز الى الجمال الروحاني للكون ونظامه المعقد المنسجم وتشير الى قدرة وحكمة خالقه. ويعتقد ريد ايضا بان القيمة الجمالية تتقرر باستقلالية وبمعزل عما تريد لها العقول البشرية، ذلك ان الجمال موجود من حولنا، شئنا ام ابينا، والسبب الاول في ذلك الحضور المستقل للجمال هو انعدام سيطرتنا على القوة الروحية الفوقية التي تخلقه. أما رسكن فقد ميز بين الجمال التقليدي الذي يخص المظهر الخارجي للأشياء ويمتاز بطبيعة سماوية قدسية، والجمال الحيوي النسبي الدنيوي الذي يعكس الانجاز الوظيفي الانساني. واختلف هجسن في هذا التقسيم، فصنف الجمال الى مطلق، وهو جمال المصادر الاصلية التي غالبا ما تكون مقرونة بالطبيعة، والجمال النسبي، الذي تقاس قيمته بمدى تشابه وتماثل وتقليد الاصول.

أما التحليليون فكان ابرزهم أدسن الذي اعتقد ان تأمل الاشياء بصريا هو المصدر الاساسي لمتعة التصور، تلك المتعة التي صنفها الى صنفين:

- الاستمتاع الاولي، الذي يُستحصل من التأمل المباشر للأشياء.

- والاستمتاع الثانوي، الذي يُستحصل من الافكار والخلجات والتصورات المستنبطة من جراء تأمل الاشياء.

وفي معرض تحديد ميزات الجمال المرئي يؤكد هوكارث مرة اخرى ومثل سابقيه على ضرورة انتماء الجزء الى الكل عن طريق اتساق الاجزاء المختلفة وتوافقها في إطار الكيان العام. وذلك بالإضافة الى تثمينه لمزايا الانتظام والتماثل والبساطة والتمايز والدقة، خاصة في معرض تعليقه على القيمة التشكيلية في رسم الخطوط. وكان بُرك قد أدرج هو الاخر معاييره في الجمال التشكيلي مثل صغر الحجم والنعومة والصقل والتدرج اللوني المنساب، وكذلك رقة الخطوط والنقاء والنصاعة جنبا الى جنب مع اعتدال وهدوء الدرجات اللونية.

الجمال والمتعة وقيمة الفن:

في صدد تقصي مصدر قيمة الفن ، اعتقد العديد من الفلاسفة ان ما يجعل الفن ذا قيمة هو المتعة التي يوفرها الفن للجمهور. وكان أبرز من تبنى هذا التفسير الفيلسوف الاسكتلندي ديفد هيوم في القرن الثامن عشر. على ان اقوى ما عزز هذا الاتجاه جاء بعد ظهور نظرية المنفعة في القرن التاسع عشر على يد اقطابها الاوائل جيرمي بنثم، اولا، وما تلا ذلك من تطوير تفصيلي من قبل الفيلسوف والاقتصادي الشهير جان ستيوارت مِل. وقد انطلق هذان الفيلسوفان من مسلمة ان الطبيعة وضعت الانسان بين قوتين مطلقتين متضادتين هما المتعة والالم، وفرضت عليه ان يكون باستمرار في مأزق المقارنة والخيار. وبذلك فان مبدأ المنفعة يقضي بأن" جودة ونزاهة الافعال تقاس طبقا لمديات المنفعة التي تسديها للناس وعدد المستفيدين منها". ومن هذا المنطلق توجب على الانسان النبيل والمواطن الصالح ان يسعى لتحقيق الهدف الأسمى وهو تعظيم منافع الخير للبشرية جمعاء. وكان مِل قد تفوق على بنثم بتوسيع تعريف المتعة من المعنى الفيزيائي الجسدي الى ما هو اشمل واعمق، من خلال تضمين الجوانب النفسية والروحية والثقافية والاجتماعية. كما انه صنف المتعة بحسب قيمتها الى درجات، فأعطى المتعة الذهنية والاخلاقية درجة أعلى مما اعطاه الى المتعة الجسدية الفيزيائية.

ومايهمنا في هذا المجال هو ان المتعة التي نستمدها من الفن والادب تختلف نوعيا عن المتع التي نستحصلها من اشباع حاجات الجسد والعقل مثل الجوع والحب والصداقة والامن والحرية والسلام وما الى ذلك. وإذا سلمنا بأن هذا الاختلاف يجعل متعة الفن والادب ان تكون أقرب الى متع التسلية واللهو، فهل يمكن ان نعتبر زيارة معرض تشكيلي او شراء لوحة أو قراءة رواية او قصيدة او الاستماع الى معزوفة موسيقية مساويا الى، او مقارنا مع المتعة المستحصلة من نزهة نهرية او لعبة شطرنج او مباراة بكرة القدم؟ وهذا ما دعا بعض المنظرين الى حل الاشكال بتقسيم مصادر المتعة الى خفيفة وثقيلة وتحديد مديات جديتها. وذهب بعضهم الى تدريج المتعة بتمييز العالية منها عن المتعة الواطئة، وهذا ما حفز مِل الى التركيز بأن مايحدد مدى المتعة المستمدة من الفن والادب هو النوعية وليس الكمية، الامر الذي يفسّر اختلاف التمتع المستمد مثلا من قراءة رواية لتولستوي او الاصغاء الى مقطع من سمفونيات هايدن عن التمتع الحاصل من قراءة تقرير صحفي او مشاهدة برنامج تلفزيوني. والسؤال الملح هنا هو: من ذا الذي يقرر بأن رواية تولستوي او سمفونية هايدن قادرة على تزويد القارئ بمستوى أكثر جدية او أرقي نوعية من المتعة المستحصلة من قراءة تقرير صحفي او متابعة برنامج تلفزيوني؟ وهنا يقدم مِل تفسيره لتفوق النوعية المستند على قبول الاغلبية، خاصة تلك الاغلبية المتمثلة بأولئك الذين يتمتعون بمعرفة وخبرة واطلاع في الموضوع قيد التقويم. وبموجب هذا التحليل، فأن بإمکان الرأي الجمعي أن يقرر إن كانت موسيقى چايكوفسكي أفخم وأرقى من موسيقى احمد عدوية أو أغاني سعدي الحلي لدى اكثرية الناس، خاصة اولئك الذين يمتلكون آذانا موسيقية حساسة ويواصلون سماع الموسيقى!! ولرب معترض منصف يقول ان الاغلبية في صعيد مصر أو في ريف العراق ممن لديهم آذانا موسيقية ممتازة سيفضلون عدوية والحلي على چايكوفسكي! وعندئذٍ يصعب الحكم على اي من الخيارين في ان يكون أحسن من الاخر بشكل مطلق، تماما مثلما يصعب التصريح في ان الشاي افضل من القهوة! وذلك بسبب نسبية الحكم واعتماده على من يشرب وفي أي وقت ومن أي نوعية. وفي هذا المفترق تدخل موضوعة نسبية وذاتية الاحكام الجمالية. فغالبا ما تختلف احكام الجمال، كما اشار هيوم، طبقا لاختلاف اذواق الناس وميولهم ومزاجاتهم وظروفهم. وقد تظهر هذه الاختلافات جلية في ثلاثة مجالات:

1) عبر البعد العمودي: أي ضمن مجموعة او مجتمع او ثقافة معينة

2) عبر البعد الافقي: أي فيما بين التجمعات المتعددة والمجتمعات والثقافات المختلفة، وكذلك عبر الزمن والظروف الاخرى

3) عبر البعد المتصالب: أي في مجال تطبيقات المعايير التي تضعها تلك التجمعات او الثقافات وفي تطابقها او انصافها وعدالتها لحقيقة تلك المعايير.

لنأخذ على سبيل المثال المجتمع العراقي والثقافة العراقية: يدرك المرء العاقل المطلع في ان هناك معيار جمالي ثقافي عام للتشكيل والادب يشيع في وسط المثقفين العراقيين ويتم بموجبه الحكم بصفة عامة على ما هو جيد او رديء من لوحات فنية وسط مجتمع الرسامين والنقاد التشكيليين، وما هو صالح او طالح من القصائد والقصص في وسط الشعراء والكتاب والناشرين. ومثل هذا المعيار كان قد تشكل عبر الزمن والظروف المتوالية والتجربة الطويلة والتعايش الاجتماعي والثقافي المتواصل فتناقلت الاجيال هذا المعيار وأصبح وثيق الصلة بهذه الثقافة وهذا المجتمع. ولكن إذا نظرنا الى نفس الثقافة ونفس المجموعات عبر امتداد الزمن فسوف نرى بعض الاختلافات البينة في تلك المعايير. فالنظرة على سبيل المثال لأعمال اسماعيل الشيخلي أو كاظم حيدر في الستينيات مثلا هي ليست نفسها الان، ومن الممكن جدا ان يكون تقییم هذان الفنانان لأعمالهما الستينية مختلفا تماما عن تقیيمهما لأعمالهما المتأخرة. وبنفس التحليل فأننا نشهد ظهور معايير جمالية جديدة للقصيدة النثرية مثلا ونقرّ باختلافها عن معايير قصيدة الشعر العمودي. ومن جانب الاختلافات التطبيقية في الحياة العامة فالمثال هو اختلاف تقییمات ثلاثة گاليريهات لأعمال فنان ما، او تباين تقييمات ثلاثة دور للنشر في بغداد على قصائد شاعر ما، أو اختلافها بين الموصل وبغداد والبصرة. ومن هنا ندرك بأن المعيار الجمالي لا يتغير فقط مع الاشخاص والثقافة والمكان والزمان، انما يتغير ايضا مع تغير مفهوم الفن وفلسفته والنظرة الى دوره واغراضه. ويمكننا القول بأمان بأن الزمن الحالي يشهد تراجع الفن التشخيصي والشعر العمودي والرواية السردية امام اساليب حديثة اخرى، بل انه يشهد تقادم وضمور المعايير الجمالية المتعلقة بتلك الفنون امام استحداث معايير جمالية اخرى. فلم تعد على سبيل المثال نظافة وسلاسة وهندسة الخطوط في العمل التشكيلي مهمة او مرغوبة بعد الان! بل ليس من المستغرب ان تعد من معايير النوعية الواطئة وحتى معايير القبح لدى بعض الاوساط المتطرفة! وليس غريبا ايضا ان توصف بالرداءة او الرجعية او السكونية أو التخلف عن مواكبة روح العصر كل القصائد ذات القوافي !! وهذا ما يشير الى دينامية المعايير الجمالية ويستلزم استخدامها في الظرف المناسب. كما يستلزم حظر خلط الموازين كاستعمال المعيار الاقدم مع الاسلوب الاحدث، وبالعكس. على ان تقرير اي معيار جمالي عام يكون معتمدا على الاغلبية الخاصة اكثر من اعتماده على الاغلبية العامة من الناس، بمعنى انه لابد وان تلعب الفئة المتعلمة العارفة والمتمرسة والمزودة بالفطنة والتجربة الدور الاول في رسم حدود تلك المعايير. فالفنانون ونقاد الفن التشكيلي والعارفون بالفن ومنظمو المعارض وامناء المتاحف ووكلاء العروض هم الفئة التي تقرر جمعيا وضمنيا وبشكل غير مباشر المعيار الجمالي التشكيلي في مكان وزمن ما، وليس عامة الناس. وهذه الفئات المتخصصة تكتسب وتبتكر وتحوّر عبر الزمن ادواتها الخاصة للتقييم والتي قد لا يستوعبها الجمهور العام الا في ظرف يكون فيه المستوى الثقافي والتعليمي متطورا ومنفتحا للحد الذي يسمح فيه بردم الفجوة الثقافية بين النخبة المتعلمة والسواد الاعظم. وغالبا ما تكون الاعتبارات التكنيكية هي المواد الاولية لمثل تلك الادوات الخاصة التي لا يتعامل معها الجمهور العام في معرض تمتعه بالفن.

ويستخدم حقل التشكيل، على سبيل المثال، عناصر الخط والكتلة والفراغ والتوازن الفضائي وتوزيع النور واللون بقوامه ودرجاته ودلالاته والايحاء والفنطازيا البصرية. اما الادب فقد يستعمل الادوات العروضية كالتفعيلة والوزن والقافية وموسيقى الكلام اضافة الى الصور الشعرية والتشويق واحادية اوثنائية الحوار والاشارة والاستعارة والتورية والتناص والبلاغة والبيان وتوظيف الفضاء الزمني والمكاني والسخرية والتهكم. كما يتسع تقييم النص الادبي الى تكنيكات اكثر تقدما واقل مباشرة مثل:

- تكنيك التفكير المسموع: الذي يمكّن القارئ من معرفة ما يدور في ضمير الشخوص دون الاستناد الى تصريحاتهم وحواراتهم المباشرة.

- تكنيك الكاثارسز: وهو التنفيس الفني او ما سماه ارسطو بالتطهير العاطفي والذي يحدث عندما يحسم الصراع الدرامي في النص بنفس الطريقة والتواتر التي يتمناها القارئ، وبذا يكون العمل الفني قد عبر خير تعبير عن احاسيس وهموم المتلقي وساهم في التخفيف من اعباء القارئ النفسية وازماته الداخلية.

- تكنيك الكيروسز: الذي يعبر عن حالة تكامل شخوص الرواية أو القصيدة خلال الافق الزمني المرسوم لتصبح اكثر كفاءة وفاعلية

- تكنيك الكينوسز: الذي يمكّن النص من تعظيم تأثير الغنائية الشعرية في خلق الفراغ الزمني واحداث الشعور بالسرمدية والخلود.

هناك اتجاه آخر لتصنيف المتعة المستقاة من مختلف النشاطات وهو تقسيمها الى المتعة التي تتطلب استخدام مستوىً عالٍ من الطاقات والكفاءات الذهنية، وهذه هي متعة الفن والادب, وتلك التي لا تتطلب سوى مستوىً اوطأ من التشغيل الذهني، وهي متعة الاسترخاء على شاطئ البحر مثلا. والانتقاد هنا هو: هل نساوي او نقارن قيمة الفن بقيمة لعبة الشطرنج او حل الالغاز اللتين تتطلبان طاقات ذهنية عالية؟

وبالرغم من الانتقادات العديدة التي توجه لكل جانب من جوانب هذه التفسيرات فإن طروحات نظرية المنفعة حول اقتران قيمة الفن بمستويات عليا من المتعة له ما يؤيده في نطاق واسع وعلى المدى البعيد، كما يرى كَوردن كَرام الاستاذ في كلية الملك البريطانية في ابردين في كتابه "فلسفة الفن" المنشور عام 1997، والذي يورد فيه ثلاثة هواجس حول إعتبار المتعة معياراً لقيمة العمل الفني، وعليه فإن الاغلبية من الناس عبر العصور والاجيال قد:

1) اصبح من العرف والعادة لديها اقران قيمة الفنون والآداب بمديات الاستمتاع بها.

2) وجدت بأن قيمة الفنون والآداب الجدية ذات الوزن الثقيل اعلى من قيمة الفنون والآداب العرضية ذات الوقع الاخف.

3) لاتزال غير قادرة على الحسم في ان ما يفسر قيمة الفنون والآداب العليا هو مجرد ارتفاع مستوى المتعة المستمدة منها.

ولهذا فان كَرام يستنتج بأن ما يفسر قيمة الفن الحقيقية لابد ان يكمن في مبرر آخر غير المتعة ومستوياتها.

نسبية وذاتية الجمال

دأب العديد من المنظرين على توصيف المتعة المستقاة من الفن بصفات خاصة تميزها عن سواها من ضروب الاستمتاع وتجعلها "متعة جمالية متفردة" كما يقول الفيلسوف البولندي رومن انكاردن في مقاله الموسوم "القيم الفنية والجمالية" المنشور عام 1972. وهذه الصفات الخاصة غالبا ما تكون متعلقة بالفتنة والسحرالاخاذ اللذين تشع بهما الاعمال الفنية الجادة والرصينة، مقارنة بسواها من الاعمال الفنية والأشياء والنشاطات الاخرى. وكان كانت قد اشار الى ان القيمة الجمالية للفن تتأتى من احتوائه على الفتنة وقابليته على افتتان وسحر الجمهور. وحيث ان حضور هذه الفتنة وذلك السحر يتعلق اصلا بالقدرة على التأمل والخلق والابداع من الجانب الانتاجي، فهو في نهاية المطاف يستلزم التصور والاستيعاب والادراك من الجانب الاستهلاكي. ولذا فإن الجمال، عند كانت، يتضمن صفات الذوق الرفيع والتفوق والسمو، وكل ما يسر العين والقلب والضمير، وهو بذلك لابد ان يكون خاضعا لأحكام فردية لا تقبل التعميم. فعندما نحكم على عمل ما بأنه عملٌ رائعٌ، فإنما نكون قد عبرنا عن مشاعرنا الذاتية المتبلورة عادة من تجاربنا الشخصية. على ان ايجابية الحكم غالبا ما تجسد الشعور بالمتعة والارتياح من ذلك العمل والاستجابة المرضية لانعكاساته النفسية على دواخلنا. وطبقا لكانت فإننا غالبا ما نتصرف وكأن تلك الاستجابة الشخصية للعمل الفني هي الحقيقة المطلقة، وهذا ما يحملنا على الاعتقاد بأن العمل جميل ليس لأننا نراه كذلك انما لأنه يحمل صفات الجمال والروعة الموضوعية المتأصلة فيه ولابد لكل فرد آخر ان يراه بنفس العين التي نراه فيها!

وهكذا فان مثل هذه الظاهرة العامة في تقدير القيم الجمالية قد تؤول الى اننا سنضفي دون وعي، صفة الموضوعية على الاشياء عبر احاسيسنا الشخصية. وليس ذلك هو عين الازدواجية في الحكم حسب، انما قد يقوم مثل هذا المنطق بتحويل الجدل من حيز المشاعر الى حيز الجوانب المادية ومن حدود الذات الى أبعاد المنتوج وخواصه الفيزيائية. ولنضرب مثلا بسيطا على ذلك: تصور ان رجلين يلتقيان إمرأه ما، فيعتقد احدهما بأنها في غاية الجمال الى حدٍ تسلب فيه عقله وتهز كيانه، فيما لا يرى الاخر انها جميلة الى ذلك الحد! التفسير الاكثر معقولية لمثل هذه الواقعة التي تحدث مرارا وتكرارا هو ان العامل الثابت هو شكل المرأة ومواصفاتها لكن العامل المتغير هو انعكاس ذلك الشكل وتلك المواصفات على دواخل شخصين مختلفين في العديد من ميزاتهما. وذلك ما يؤكد بأن جمال تلك المرأة يتقرر بموجب مشاعرالآخرين إزاءها وبشكل أدق مما يتقرر بموجب مقاسات جسدها ولون بشرتها وشكل شعرها! أو تصرفها أو ذكاءها أو إمكاناتها أو طريقة حديثها او نبرة صوتها.

وبالرغم من ان الجمال يمثل التقييم النسبي الذي يعكس ذوق المتلقي، فان ذلك لا يعني ان يكون الجمال عبارة عن مفهوم ذاتي مطلق! فطبقا لـ هيوم، لابد من وجود معيار قياسي عام ترجع اليه الاغلبية من المعايير الفردية والمقاسات الشخصية في مكان وزمان محددين. ولذا فهو يعتقد ان اهم ما يميز قيمة الفنون هي قبولها الاجتماعي وكونها سائغة بشكل عام ومثيرة لمتعة الاغلبية ، ذلك ان الناس وبحكم طبيعتهم البشرية يشتركون في الكثير من الميزات عبر الازمنة والامكنة، الامر الذي يفسر اعجاب وتقدير الاغلبية من الجمهور في مجتمعات وعصور مختلفة للاعمال الكلاسيكية الخالدة في الفن والادب. وكان كانت ايضا قد رفض الذاتية المطلقة في الحكم الجمالي رغم تأكيده على دور الرأي الفردي والتجربة الشخصية في تقرير جمالية الاشياء. وهو بذلك يكون قد وضع التقييم والحكم الجمالي في منتصف الطريق بين التحليل المنطقي العلمي، كما هو حاصل في البراهين الرياضية، وبين التفسير الذاتي البحت كما هو حاصل في تكوين الميول الشخصية. ولذا فان حكم الجمال لدى كانت يستند إلى خليط منسجم بين الموضوعية والذاتية، الامر الذي يجعل تقييم جمال تلك المرأة، على سبيل المثال، مختلفا عن تقييم صفات طولها اوعمرها. فحين نقول ان عمر فلانة اربع وثلاثون سنة فإننا نشير الى حقيقة فيزيائية لا تقبل الجدل. وحين نقول انها طويلة القد، فإننا نشير بالمنطق الى انها تتمتع بقامة اطول من المعدل العام لطول النساء، رغم ان مثل هذا الحكم يعتبر اقل ثباتا وتماسكا من حكم العمر. على ان حكم الطول هو الاخر اكثر عينية وصلادة من حكم الجمال. فحين نحكم بأنها جميلة فإننا لا نصف الخواص الفيزيائية بحياد تام، وذلك بسبب امتزاج الميزات الفنية في شكل المرأة مع البناء النفسي والتربوي والاجتماعي لذوي الرأي والذي يتعلق بخلفيات كثيرة ومعقدة مثل النشأة والتعليم والعمر والثقافة والتجربة وغيرها. وهذا هو السبب في ان يرى أحدنا صفة جمالية معينة في خاصية ما، كالصدر الكاعب أو الورك العريض أو الشعر الطويل، مثلا، ولا يرى الاخر منا في ذلك أي جمال! ومن هنا يأتي تصريح كانت بان الحكم الفني الجمالي ينبثق من النشاط العقلي المستقل الذي يسميه "الفعل الحر للتصور".

لقد اعتبر كادمر، الفيلسوف الالماني المعاصر، موضوعة "الفعل الحر للتصور" على انها اهم ما جاء به كانت في تفسير الجمال الى جانب رفضه للذاتية الصرفة للجمال، وربط القابلية على اتخاذ الموقف الحر بعبقرية وتفرد وخصوصية الرؤية الفنية التي يجب عليها ان ترتقي بالجمال الفني الى مثالية الجمال الطبيعي الذي اعتبره كانت النموذج الاسمى والامثل لكل ضروب الجمال. ويضيف كادمر بانه طالما كانت مبررات خلق العمل الفني تكمن وراء حاجة الناس اليه، فأن بإمكاننا التوسع في تعميم العبقرية والنبوغ من خالق العمل الفني الى المتلقي، الذي يفترض ان يمتلك التصور الكافي لاستيعاب جمالية واهمية العمل الفني. وهذا ما يؤكد حقيقة ان اعظم الاثار الابداعية في الادب والفن هي تلك التي تستحوذ على مشاعر الجمهور وتحفز مخيلته وتوسع من دائرة تصوراته، وربما تؤثر في اعادة ترتيب هيكل مفاهيمه. وبالمقابل فان فشل الاعمال الفنية والادبية واندحارها متحقق بعدم قابليتها على شد انتباه الجمهور واشعال حماسه وتحفيز تطلعه. وهذا التحليل هو الذي حمل كادمر الى الاعتقاد بان العلاقة بين الفنان والمتلقي تنبثق من الطبيعة البشرية الامر الذي يجعلها على العموم مسألة ذات جذور انثروبولوجية. وقد ذهب الى وصف هذه العلاقة ب "اللعبة" ، التي اشترط فيها ان تكون مفهوما بعيدا عن سياق الهزل والتسلية بل اراد لها ان تكون ضمن الاطار الفكري الجدي الذي ينطوي على انها اللعبة المنظمة ذات البناء الرصين، والتي ترفض ان تكون عفوية او لا غرض لها. وقد اشار بان من اهم مقومات هذه اللعبة هو التنافس والتحدي المتبادل بين الفنان والجمهور وكذلك التحدي الذاتي الذي يحفز كل منهما الى ان يرتقي إلى ما يرسمه الاخر من حدود عليا ومايحدده من مواصفات. ذلك السباق او الحرب الباردة التي تسفر في نهاية المطاف الى ان تكون مهمة الفن هي تقريب مسعى الانسان الى كل مالهُ معنىً واهمية، بل الى ما هو امثل في حياة الناس وتصوراتهم الجمعية.

وفي هذا السياق، يعلق كندل والتن الاستاذ في جامعة هارفرد في كتابه المعنون “المحاكاة والتظاهر" المنشور عام 1990، بأنه اذا قدر لنا ان نصف العلاقة بين الفن والجمهور باللعبة او المسرحية، فان من المنطق ان تتحدد قيمة الفن بقيمة تقمص الادوار ويتقرر جماله بروعة الاداء. فالفن يوفر فرصة "التظاهر" بمعنى تجسيد ما يصعب حصوله او ما لا يمكن تحقيقه في الواقع وذلك بالاستعانة في استخدام الخيال، كأن نرى حصانا طائرا او نشهد نجاة وانتصار بطل القصة رغم المصاعب والاهوال المستحيلة. او نقرأ الابيات الشعرية التي تجعل من عيون المرأة بحرا ومن شعرها ليلا. على ان اكبر مردود لتمثيل الحقيقة بالخيال هو اختزال الكلفة.. كلفة الالم والعزلة والفراق والتحطم والموت. ففي الخيال وحده نميت الاحياء ونحيي الموتى ونتخطى الحواجز ونمسك الآمال ونحقق الاحلام ونعمل ما نشاء دون دفع الكلفة الحقيقية. وبهذا فان الفن يوفر هذه الفرص الثمينة لاستحضار الوقائع الخيالية والتعامل معها كما لو كانت حقيقة. وهنا تكمن عبقرية الفن، ومن هنا ايضا يتوجب إعتبار اهميته وتقدير قيمته الجمالية. وبذلك يكون المعيار الجمالي معرّفا بمدى حصد المنافع دون دفع الكلف.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم