صحيفة المثقف

عبد العزيز قريش: أمريكا وتعدد الخطاب

عبد العزيز قريش(دوران الخطاب حسب مدار المصالح)

عجيب أمر هذه الدولة  "الكبرى" الزاعمة لكل القيم والأخلاق "النبيلة والإنسانية" و"حقوق الإنسان" و"قيم دولة الحداثة" وكل ما هو جميل في المعجم اللغوي للدول المتقدمة " المتحضرة " الذي يدغدغ المشاعر والأحاسيس ويخدر العقول، ويغشي العيون! الذي تتشدق بها على الأمم، وتقيم الحروب تحت عنوانه لنشره وبناء الدول على شاكلة ديمقراطيتها وقيمها وشروطها، وهي في حقيقتها تتستر وتتدثر بخملها لتحقيق أهدافها ومصالحها والسيطرة على منابع الثروة، كيفما كانت هذه الثروة: معرفة وعلما (القوة الناعمة) أو مادية أو مالية أو معنوية أو اعتبارية؛ فهذا المضمر في خطاب أمريكا دائما يطفو على السطح، ويعري عن وجهها الحقيقي البشع والبائس والبئيس لدى العقل المفكر القارئ لخطابها قراءة نقدية، تغربل سطحه وعمقه من مساحيق التجميل وروائع جمالية التنميق والتصفيف والإبداع الأدبي واللغوي، وتشرح مفاصله وتفاصيله وتستخلص منها حقائق النوايا والغايات والأفعال. وتثبت بالدليل والحجة ذلك مفندة خطاب هذه الدولة " العظمى " ادعاء، التي يتعدد خطابها بتعدد مصالحا حد التناقض!

فها هي تعري الوقائع والأحداث عن وجه ذلك الخطاب الملتبس بالمتناقضات؛ الذي يذهب في وجه من وجوهه إلى مناصرة الشعوب على تحقيق ذواتها، وتتحرر من التسلط والطغيان، وكثيرا ما وصفت أنظمة بالدكتاتورية وبالتمييز العنصري وانتهاك حقوق الإنسان، هذا السيف الذي تسلطه على رقاب الأنظمة وحتى الشعوب. فهي تخرق هذه القيمة الإنسانية وهذا الحق حين تطالب بإعطاء حقوق الإيغور ـ مع الاعتراف بأحقية وصوابية مطالبهم المشروعة ـ وتمنع ذلك الحق عن الفلسطينيين! أليس الجميع مسلمين؟ أم هي تستهدف مأربا لها في ذلك؟ بخلق توتر وحرب هناك لعدوتها الصين، فتعيد ما فعلته بالسوفييت في أفغانستان فعله في الصين؟! فلماذا تحارب هنا وتناصر هناك؟ أتريد توهيمنا بأنها مع قضايا المسلمين خاصة والإنسان عامة؟ فالمبدأ والحق لا يتجزأ أبدا!. فحقوق الإنسان هي هي في العالم كله بقيمة واحدة موحدة، يستهدف تحقيقها مهما كان صاحبها، لا فرق في ذلك بين الأديان والمذاهب والعقائد والإيديولوجيات، والأعراق والشعوب والمجتمعات. لكن في خطاب أمريكا الأمر مختلف؛ فالحق له عدة وجوه بل عدة تفسيرات ومضامين! فهو يحمل قيمة سلبية حين يتعلق بحقوق الفلسطينيين المشروعة، لأنهم في مواجهة الطفلة المدللة لأمريكا الكيان الصهيوني الفاشي النازي، ويفشلون مشاريعها في " الشرق الأوسط "، ويضربون مصالحها. لذا نجدها ضد هذه الحقوق المشروعة والمعترف لهم بها دوليا! وهو الحق يحمل قيمة إيجابية عندما يحقق مصالحها ومآربها مباشرة من خلال جيشها وطغيانها أو غير مباشرة عبر بيادقها وأذرعها الناعمة والخشنة؛ فتجدها تساند جبابرة العصر وطغاته وماريقه ومتقمميه، وتفشي في الشعوب الشقاق والضغائن، وتنشر الحروب بين مكوناته لتتسيد هي على المشهد، وتنهب وتسرق خيرات الدول وأموالها، وتنقض عهودها وتغط حتى على حلفائها، وتخرج من المنظمات الدولية، ولا تسمح بمحاكمة أفراد جيشها مهما كانوا من مجرمي الحرب؟! ... وقس على ذلك الكثير من الأفعال التي تتخذ أكثر من مبرر واه إلى حد التناقض والتضاد والتداعي، وتدعي حقوق الإنسان؟!

كيف لدولة تعددت قيم خطابها بين الإيجاب والسلب الادعاء أنها مثال العالم والقدوة في منظومة القيم؟ نعم؛ هي أسوء مثال على الاطلاق للعالم في هدر حقوق الإنسان وتحطيم منظومة القيم الإنسانية، وهي قدوته السيئة في الكيل بمكاييل مختلفة حسب مصالحها وأغراضها، فهي التي رمت بأزلامها البارحة من الطائرة على أرضية مطار كابل ومنازلها، ولم تعرهم أدنى اعتبار، ولم تمكنهم من حقوق خدمتهم لها لعقدين من الزمن. هي هكذا الدولة التي ثقبوا لنا طبول أذاننا بمحاسن ديمقراطيتها وحقوق الإنسان فيها وبحضارتها وقيمها ... وأغرقونا في الوهم، وصدقتهم عقولنا المريضة، ونفوسنا المعقدة لضعفنا وقلة حيلتها، بل لعجز عقولنا عن التفكير في واقعنا وتشريحه وتحديه طلبا للعزة والتقدم والحضارة كما فعل غيرنا. لكن العاجز لا يصنع وجودا، ولا يبدع علما، ولا يبني حضارة؛ لأنه ميت أصلا ولو كان حيا ...

هي أمريكا تجيش أتباعها وأضباعها للترويج لمحاسنها، في حين هي دولة القتل والجرائم والاستعمار والمافيا العالمية، التي تفعل ما تشاء في الدول والشعوب ـ إلا ما ندر وشذ ـ فتحاصرهم  في معيشتهم وتقتر أرزاقهم، وتهدم آمالهم، وتسحق أمعاءهم وعظامهم، وتشتت شملهم، وتيتم أطفالهم وترمل نساءهم ... وتدعي القيم! أي قيم هذه التي نلمسها عمليا في واقع سلوكها وأفعالها مع الحكومات والشعوب؟ فليس واردا عند أحرار العالم تصديق أمريكا في زعمها وادعائها مساعدة الدول والشعوب في بناء ديمقراطياتها وقيمها على النهج الأمريكي، ومساعدتها في التنمية والبناء الاجتماعي على ثقافة حقوق الإنسان. فذلك يكون من الخبل العقلي إن اعتقد أحد في صدق ادعائها وزعمها، ويكون من الحمق والبلادة تصديق أن الذئب يحرس الغنم! لذا؛ الواجب عقلا عدم الاعتقاد في صدق خطاب أمريكا لأنه خطاب متهافت ومتناقض في ذاته، وحقيقته أنه يدور حسب دوران عقارب ساعة مصلحتها؛ فأمريكا أم المصائب والمتاعب والرذائل. فعلى العاقل أن لا يركن إلى أمريكا؛ فاليوم هي معك وغدا ضدك. ومن يركن إليها فهو يسند ظهره إلى السراب، والسراب يصور للعاطش الحرارة على الإسفلت ماء، لكنه فراغ في فراغ.

 

عبد العزيز قريش

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم