صحيفة المثقف

سامي عبد العال: النقش على الحَجر.. الكائن الافتراضي (6)

سامي عبد العاللو وصلنا إلى المستقبل، فإنه يستحيل العودة منه ثانيةً. ونحن الآن في المستقبل بالنسبة لماضينا ولماضي غيرنا من الشعوب والأمم. والمستقبل دوماً يتساءل عن خطاب (طفلنا الافتراضي)، حتى يواكب وجودُنا مستوى الاستفهام، وحتى نعرف: كيف نتحدث إليه وفقاً لزمنه لا زماننا نحن. ذلك بالرغم من أن ميلادَ الأطفال سيتمُ فوق أجنحة الكلام وعلى فراش تُراثنا الممتد. والمسألة حينئذ ليست أقل من ترك الحياة كي تأخذُ مجراها. وبخاصة أنّ دلالة الطفولة هي رسالة الحياة الخالدة حين تأتينا يومياً مع كل مولُّودٍ جديدٍ.

الحياة المتجددة

الطفلُ الإفتراضي هو الوجود الإنساني الذي سيحل طبقاً لمواصفات الحياة المتجددة. وليس هذا الأمر شيئاً غامضاً، لأننا بإيعاز منه- أو هكذا يفترض- سنقدمُ للأطفال خطاباً نحسبه مغايراً، ونحاول تجنب مشكلاتنا الآسنة طامحين إلى إسعادهم. فلو سألنا شخصّاً: ماذا تتمنى لأطفالك، لكان جوابُه أُريد أنْ أوفر لهم ما افتقدته وحُرمت منه. ولئن وجهنا سؤالاً لشخص آخر: ماذا يعني الأطفال في حياتك؟ سيقول هم ابتسامة الحياة، وإنني لم أكن لأعيش إلاَّ من أجلهم!!

تلك الأقوال ممارسات افتراضية رابطةً للفعل بالخيال، مما يجعل أصحابها على إتصالٍّ دائمٍ بالكائن المختلف. وكم يستغرق الآباء أوقاتاً ليرسموا خريطةً لشخصيات أطفالِّهم، إضافةً إلى ذلك يعانون من تفاصيلها يومياً، وقد يلونون مساحاتها بألوان الحياة. عندئذ لا مناص منطقياً من رؤية مختلفة للطفولةِ، وبحجم المسؤولية، سيكون الحرص على التعبير عنها للمجتمع والثقافة، وأنْ نجعلها جزءًا حيّاً من التاريخ، حتى ولو كانت أحداثُه مليئةً بالمعضلات الإجتماعية.

الخطاب سيصُوغ (على أثر وعينا بالتشوهات السابقة) الرسالة بكلمات ومفاهيم الحياة وتطوراتها فكراً ومعرفةً. إنه خطاب يوازي إمكانيةً خصيبة نضعها في معنى الطفولة. وكل إمكانية هي خارج المكان والزمان الآن، خارج التوقعات، إذ ينبغي أنْ نطمح إلى مجتمع جديدٍ؟! خلال هذا المصير، على الصياغة المنتظرة أنْ تحبط أيَ توقعٍ من شأنه الإتساق المراوغ مع الثقافة السائدة، لأنها ستكون تعبيراً عن حدود أخرى بالوجود والإرادة. ومن هنا فالطفل حين يكون إفتراضياً، لن يكون إذن كما نعيشه، ولا كما تريد الجذور الثقافية تربيته وتوريثه لمجتمع على حافة الإنهيار. إنه بطبيعته الافتراضية يتمتع بمعايير غير محسومة، فمَنْ يستطيع وسط تطور التكنولوجيا والمعارف والفكر أن يمسك بخيال أطفاله؟ مَنْ ذا الذي باحتماله أنْ يضع معايير لنمو المواهب واستثمارها؟ الطفل- قَبلنا أم لم نقبل- يتجاوزنا كل يوم، ففرص التعليم والتعلم أمامه أكثر خلال الفضاء المعرفي المفتوح، أمامة وسائط  متنوعة للإبداع، وسائط مستقبلية التأثير والتشكل دون حدود.

يجب أن نواكِّب هذا الكائن ولنحاول رسم خطوط وإشارات لخطابه المنتظر. ومع الاحتفاظ بالتحديات الآنفة، لانزعم لأنفسنا- ولا يستطيع أحد إتيان- تلك المقدرة على صياغة خطاب الطفوله بدلالتها الافتراضية، نظراً لأن الشروع في صياغة كهذه لن يزيدنا إلا تورطاً في قيود الثقافة العربية مرة تاليةً، وستحكم قبضتها علينا بواسطة اللغة. نحن لا نملك إلاَّ تهيئة الأجواء والظروف وتغيير المفاهيم وشق المسارات الحرة والإنسانية فقط. لهذا أتصور أنَّ قضية من يصوغ خطاب الطفولة، قضية مفتوحة ويستحيل تحديد القائم بها، ذلك بفضل التغير الذي أصاب كل شيء: اللغة، العالم، الثقافة، التربية، المعرفة في عالمنا المعاصر. هل سيصدق القارئُ: إذا ما أكدت له أنَّ من سيصوغ الخطاب هو هذه الأطراف جميعاً بشكل متزايد؟!! وسأناقش ذلك في نقطة مستقلةٍ، لكنني أعرض الآن بعض الإشارات التي تقارب خلفية الصياغة وأسسها.

في الإنسان طفلٌ دائمٌ

لم أقل إنَّ الطفل إنسان، لأنَّ هذا تحصيل حاصل، أمّا الأولّى فهو الإشارة إلى سريان الطفل في البنية الزمنية والنفسية للإنسان إجمالاً. الطُفولة مرحلة لا تنتهي، ولن تتوقف عن الحركة داخلنا بشكلٍّ ما، ومن ينظر إليها كموضوعٍ بعيداً عنه بلغة شيئية إنما يغتال نفسه قبل أي شيء آخر. والإعتقاد بأنَّ الطفل الذي كنَّاه قد مات هو اعتقاد يجعلنا نرميه بخطاب حجرى. الإشارة هنا ستخلِّص الموروث الثقافي العربي من التربية بالعصا والجزرة " الترهيب والترغيب "، ستجعلنا نخرج طفولتنا من سلة المهملات ونحيي وجودَّها مرة أخرى. أليس المبدعون أطفالاً مهما بلغوا من أزمنة؟! ولأن الطفولة هي إبداع الطبيعة وتلقائيتها، فإنَّ تجاهل مرحلة كهذه والمساهمة في تحطيمها لهو مناقض للطبيعة، مناقض للحياة!!

إن الإهتمام بالكائن الإفتراضي معناه مرونة اللغة، وأكثر ما يجفف نبض الإحساس الطفولي ذلك التمسك بكلمات جامدة. فإذا قلت لطفل تعالْ يا "ولد"، فقد يأتي، ولكنه لن يأتي سعيداً كالطفل الذي تناديه بــ "حبيبي" مثلاً. النداء هو النداء في الحالين، غير أنَّ اللغة ليست هي اللغة. ففي الأولى يطرح التواصل الطفلَّ كولدٍ يشبه كل الأولاد ويضعه كائناً محل نداع بلا إحساس، والطفل المنادى عليه يفهم هذا جيداً، ويشعر كأنك في برهٍة ما منفصل أنطولوجياً عنه. وفجأة  أنت تحوله إلى شيءٍ يتلقى صدمةَ النداء ويتوتر مترقباً ماذا تريد وماذا ستتصرف معه وماذا ينتظره؟

لأنَّ الولد، (هذا المنادّى)، داخله لم يحدد ما إذا كنت ستقابله بحنوٍ أم لا، ولم يتبين ما إذا كنت تطلق شعوراً يلامسكما معاً أم لا، وفي الأخير سيعطيه انطباعاً بأنك توجه إليه نداءً كما تنادي أيَّ طفل آخر. أما كلمة "حبيبي"، فيصلُ إحساسُها الحاني قبلَّ بلوغ المعنى المطروح، ويتجلى الموقف الذي يعطيكما وجوداً يجعلك وإياه جُزءاً واحداً لا جزئين منعزلين وأنّك تخُصه هو دون سواه حباً ولطفاً. وكلمة حبيبي بتلك الحمولة الشعورية تجعله(كائناً في سرّه entity in its secret)، كائناً عبر حقيقته المحبوبة، وبالتالي ففي الشعور بالطفولة، تكمن حساسية اللغة التي تفتح عالمها للتواصل الحميم.

لا يستطع التواصل مع أي طفل مَنْ لم يستطع التواصل مع الطفولة داخله. وسيكولوجياً تظل خيوط الطفولة باقيةً مع الإنسان إلى نهاية حياتهِ، وتمثل بالنسبة إليه عوداً على بدءٍ. ومع تقدم العمر، تعد الطفولة صوراً حيةً لا يفارقها، وتبقى عالقةً بذاكرته العقلية والحسية. وأكاد أقول إنها حيوات منفتحة في متصل حياته. ولابد بهذا الإلزام الوجودي من التأكيد على مفهوم الطفولة الممتدة، ولعلَّ أهميته كامنة في تعديل تصوراتنا تجاه تلك المرحلة. ففي الطفولة يتمكن الإنسان من أن يكون إنساناً حقيقياً. إنه سيخاطب معنى الحياة، ويلا مس عمقها الذي لا يصل إلى مداه الأخير بالطبع. فهل هناك شخص، مُرّبٍ بإمكانه أنْ يصوغ فكرةً تامةً حول الطفل، حول سلوكه، حول ماهيته؟ في الواقع الأطفال هم الذين يغيرون اتجاهاتنا في الحياة، إنهم يمنحوننا طاقة بديلة حين نعاني شظفَ العيش، وأي خطاب " محنّط " في أوراق تراثية إنما يرتكب جرماً فعلياً في اختزال ثراء هذه المرحلة.

الطفولة لغة كونية

يُفهم لفظ الكون الوارد هنا بدلالته الطبيعية والثقافية والافتراضية. فالطفل يعبر عن أحاسيسه ومشاعره بلغة الصمت أو البكاء أو الإبتسامة، أو السعاة أو اللعب أوالنشوة، وهي لغة من الممكن فك شفراتها. فالطفل لا يلجأ للتعبيرات المصطنعة، إنه يوظف قدراته التلقائية في شكل معجم صوتي وحركي وعلاماتي وإشاري للتواصل مع محيطه. وهذا طبيعياً يعني أنَّ الطفولة قدرةٌ على ممارسة الوجود بطاقته المحتملة، وأنَّ الطفل يجسد حالة تعبير بكيانه المتصل مع الموجودات والظواهر، حتى أنه يدرك نفسه متماهياً معهاً شاعراً بها. وارتباطاً بذلك، تتبلور صورته الجسدية، فهي الأخرى- كما يقول موريس ميرلوبونتي- صورة يجب أنْ تتكامل شيئاً فشيئاً خلال الطفولة. وكلما ترابطت فيما بينها تلك المحتويات اللمسية والحسية والحركية والمفصلية أو ترابطت مع المحتويات الحسية، أضحت الصورةُ واضحةً[1].

ليس ذلك المظهر التعبيري عبثاً، لكنه يرجع إلى الوظيفة الأولية للغة، وظيفتها الخالقة التي تجعلها طاقةً للتفتح. وبينما كانت اللغة في تاريخ العرب الثقافي أداة للهجاء والفخر والحماسة والبكاء على الأطلال، تعدُّ لدى الطفل فعلاً من أفعال الحركة، نمواً نفسياً وكونياً حراً. وتلتقي اللغة الطفولية في هذا الشوط مع دورها في الأساطير والروايات والحكي، والملاحم والأحلام وأجناس الأدب. ونفي العبث السابق معناه أننا في أمّس الحاجة إلى صياغة اللغة العربية كل الصياغة خلال خطابات التربية والثقافة والتعليم، بحيث يأخذها الوضع الدلالي الجديد إلى لإظهار فكرة الطاقة الخالقة. مازالت اللغة التي نتحدث بها يومياً لغة مشبعة بالنبرات الأخلاقية والمعيارية (لغة الأمر والنهي والعقاب). أي تم تقليص عمل اللغة إلى وصفٍ ذوقي حسي عادةً، وصف مرهون بحالة الفرد النفسية والسلوكية. وليس هذا أمراً عادياً إزاء الطفل، لأننا بهذا المنطق سنشكلّه أخلاقياً فقط، ليعود من فوره مستعملاً الكلمات بالدلالة السطحية للتفضيل والنفور والغريزة ولا يستطيع تكوين شخصيته[2].

إن خطاباً يُستعمَّل تحت ضغط التفضيل إنما يعطي اللغةَ مجالاً لتسطيح القدرات البشرية، والقضاء على الإبداع ويجعل منها مستنقعاً ثقافياً. الاستعمال الإخلاقي والقيمى للغة ينتح كائنات تائهة لا تستطيع التفكير ولا الإنتاج. في النهاية تتوفر لغة مخنثة تنضم في تاريخ العرب إلى خطاب الخصيان، الخطاب الذي تمت صياغتُه في قصور السلاطين والملوك لقتل فاعلية الرجال (الخدم والحاشية) وتدمير طاقاتهم الجنسية خوفاً على شرف السلطة، غير أنَّ دلالتها العميقة كالتالي: أنَّ السلاطين برمزيتهم السياسية كانوا يخشون ذكورية " فاعلية " الألفاظ عموماً، ألفاظ الرفض والخلق والتمرد والنقد، يستأصلون فحُولة اللغة التي تناطح التقاليد السياسية الآسنة. إنه استئصال يتواطأ مع تصفية خطابات الطفولة من الفاعلية والإبداع، ويستهدف إخضاع أية طاقات بشرية إلى المعانى الثابتة القابلة للتدجين.

في الحقيقة مع عبث الأطفال بالكلمات يظهرون شيئاً خطيراً: أنَّ كلماتَّهم خالقةٌ، فهم يصدقون مضمون الكلمات ويجعلُّون دلالتها كائناً مدهشاً ويتقاذفونها كأنها كُرة الحقيقة لا بعضها. لو قلت لطفل أنت جميل، فإنَّه سيصدق بملء يقينه كونه أجمل من جميع أقرانهِ، والشيء نفسه إذا أطلَّقت عبارة وصفيةً أمامه على شخصٍ أو على إحدي ألعابه ستخلق العبارةُ وجودَ الشخصِ ومتعةَ لعبهِ. الحدسُ الخالقُ نوع من الرابطة بين الكلمات والموضوعات، كأن المعنى بمثابة الإمكانية الكونية التي تتجسد موضوعياً- لغوياً. واللغة بالنسبة للطفل تسير وفق اللعب الجَدّي، كأنه ظاهرة وجودية يستولي عليه كليةً، ولا يجد منه تفلُّتاً ولا خروجاً دون إنجاز الأشياء.

كلُّ كلامٍ مؤثر يحمل الطريقةِ السابقة في أداء المعنى، قد يري البعضُ أن براءةَ الأطفال تجعلهم حالمين بالكلمات وعارفين بحياتِّهم من خلالها. القضيةُ ليست في هذا الإتجاه، القضية أن مفهومَ الطفل عن اللغة يعطينا مفتاحاً لإطلاق قدراته، ولإعادة صياغة حياته. هذا يتطلب"فكراً جديداً"، "معجماً جديداً"، "نشاطاً جديداً"، "أداءً جديداً" لكل كلمة يلهو بها الطفل ويرددها، ويبقي الموقفالإفتراضي ناشطاً: كيف سنواكب الإمكانيات الدلالية للغة الطفولة؟

الطفولة أرشيف الغد

إذا كانت ثقافتنا تنحو نحو الاستهلاك المباشر وغير المباشر، فإنَّ الطفولة إدخار وجودي لحياة آتية في الغد. من الضروري تأكيد هذا المعنى داخل لغة الخطاب وعباراته ورسالته. الإستهلاك وجه من وجوه الجمود المعرفي والفكري، وهو يدعم نمطَ القولبة الثقافيةِ التي تشمل التربية والسلوك والتفكير. فحينما أُقولب طفلاً بواسطة خطاب نمطي إنما استهلك وجوده، استنزف كل إمكانيةٍ يتمتعُ بها. وأسوأ أنواع الاستهلاك ذاك الواقع على ما ليس مطروحاً الآن، على ما هو مدّخر للمستقبل. واستهلاك الطفولة انتهاك لجوهرِ الحياة فينا، وهي المرحلة التي تتلخص في أهمية أنْ يعيش الطفل حياته بملء الكلمة.

وإذا أردنا معرفة أثر هذه الظاهرة يجب الإلتفات إلى استهلاك رصيد الطفولة في عمالة الأطفال، وفي استغلالهم جسدياً، وفي قتل حريتهم، وفي توريثهم تقاليد كئيبةٍ، وفي فرض أفكار تجبرهم على تغيير جهازهم العصبي والنفسي. يجري استهلاك رصيد الطفولة في محاولة لنقش وجدانهم، حَفرّه على حساب طاقتهم الإبداعية. بينما في المقابل يفهرّس الخطاب الإيجابيُ هذا الأرشيف بإمكانياته الإفتراضية، فهي ليس أرشيفاً للماضي ولا يجب أنْ يكون، بل لابد أن نغيره- دون تناقض- بمعطيات المستقبل وتطوراته. ومثلما أنَّ الأشكال، الأدوات، الصور، الألعاب الإفتراضية لها إدهاشها وإبتكاريتها، فيجب كذلك أنْ يكون تعاملنا مع الأطفال بالطريقة ذاتها. ولو قيل بضرورة إحتاجنا إلى إثارة وعي الطفل بعالمه وبماذا يتمنى أنْ يكونّه مستقبلاً، فهذا حقيقي، ولكن الأمر غير الحقيقي أننا لا نستطيع  مواصلة خلق عالمهم بالصور القديمةِ نفسها.

لنتصور أنَّ شخصاً يأمل في تحقيق طموح مستقبلي بعينه، حينئذ لن ينقطع عن التفكير فيه، وسيواصل تخيلَّه، وكم سيكون طموحاً رائعاً حال تجسده. الطفل يعيش هكذا في لغته طوال الوقت،  يبني بيتاً  من حروفها، يبني عالماً في صورهِ الخيالية أكثر مما يعيش في واقعه. وبالنسبة إليه لا مفر من الهروب إلى المستقبل وفقاً لمقتضياته. ولذلك فعلى الخطاب المنتظر أن يتسع إلى رسم ما يريده الأطفالُ لا ما نريده نحن. نحن - بتوضيح سابق -  نفكر ونرى العالم من خلال ماكُنّاه، أمَّا هم فنظراً لخيالهم المبدع وإحساسهم الوجودي المرهف، فكل الأشياء ممكنة الحدوث، كل الأشياء قابلة للتغير، لأنها أشياء لا تنطبق على حقيقتها. لنلاحظ أن أطفالاً في رسوماتهم قد يظهرون الخطوط والأشكال كاريكاتوريةً أو مشوشةً. وليس ذلك من قبيل عدم النضج كما قد ينظر الكبار، لكنها تلقائية ثرية في تشكيل العالم والحياة.

الطفولة خيال خلّاق

الطفل أمام قيود الواقع دوماً لديه قدرات على الإنطلاق والتحليق. ربما أنَّ كونه لا يعبأ بما يمثله الواقعُ من ثقلٍ، يعطيه طاقةً على الذهاب بعيداً. إلاَّ أنَّ نظرتنا السلبية لهذا الإبداع وتأخُر اكتشافه وعدم تنميته وغياب رعايته أشياء ولدت خطاباً تربوياً قمعياً. فلا نعطي الأطفال مساحةً للتعبير الحي عن مواهبهم ولا خيالهم. وبفضل اللغة والألعاب يظهرون فقط مراوغةً لكافة أشكال القهر، مع أنَّه قهر يلاحقهم في أي مكان. فالخيال الثر لا يتوقف عن الحركة، هو يحتاج إلى التشكُّل. وليس غريباً ضمن - هذا الإتجاه - ذلك الإبداع الذي يمارسونه في الألعاب وتكوين وتفكيك الأشكال، وخلط المواد وإعادة تصوير الأحداث.

إن خطاباً سينمي ذلك التخييل أمرٌ ملحٌ لا يقل عن فكرة الطفولة نفسها عبر الحياة. وهو خطاب سيتطرق إلى أهمية الإبداع مثلما أن الطفولة لم تُوجد إعتباطاً، ويرعى المواهب التي تؤديه. وإذا كان القهر وأشكاله يسكن خيال الأطفال، فلابد من تحريره بكافة أنواع اللعب وأدواته ومكوناته. فبعض جوانب الثقافة العربية -إذا أجيزت دلالة المفارقة- مبدعةٌ في تدمير الإبداع!! حيث ترسخ النمط الغالب وتعممه على حساب التغيير والإبتكار. وفي الفكر تتمسح بالأفكار الموجهة إذ تختزل طاقة الوقائع في صورة معينة على أنها كل الواقع، على سبيل المثال أخذ الفكر الديني نزوعاً شكلياً في الجوانب النظرية والسلوكية[3]، وتجمد الفكر السياسي باستبداد صولجان السلطة الشكلية، وحتى الفكر العلمي فمازال خاضعاً لشكلانية التراتب الوظيفي للمعارف والأشخاص والمناهج والمؤسسات.

أمّا الطفل، فوحده هو من يبدع إزاء الأشكال ويتلاعب بها، لأن خياله الخلاق يواصل نشاطه عبر المضامين، في عمق الأنماط السائدة. وأدنى شيء واضح على ذلك كونه ينهمك بألعاب صغيرة محطماً إياها من جذورها، ومفككاً لبنيتها إلى مفردات أولية، ولئن كان بإمكانه بإمكانه أن يلعق أصابعه الغضة، فالكبار رغم شيخوختهم يلعقول تمائم السلطان طوال الوقت. السيارة الكبيرة يستمتع لعباً بها في نسخة صغيرة، وهي أساساً تحطيمٌ للشكل، الحديقة الممتدة يلهو بنموذج مصغر لها بينما يعدل في تشكيلها ويتصور شجيرات وينابيع مياة أخرى. وعلى شاطئ البحر قد يبني الأطفال بيوتاً وكائنات من رمالٍ كأنهم  يهدمون عالمهم البيئي ويشكلونه من جديد، ويبدعون على صعيد المعاني، في الداخل من الأشياء، بينما تتلاعب الثقافة السائدةُ بأثار الشكل داعيةً إلى رواجه.

الطفولة فنون افتراضية

ما يتخيله الطفل في إطار فني له بالغ التأثير على تقريب تكوينه الافتراضي والشخصي. إذ أنَّ الفنون والألعاب لها وفرة الإمكانيات والاختيارات والصيغ اللامتناهية. والطفل عندما ينهمك في محاولاته المستمرة مع هذه الفنون والأدوات إنما يعبر عن ماهية مرحلته، وفكرته عن الواقع. بدليل أن الأطفال لا ينتهون عن أخطاء وقعوا فيها، لدرجة إننا حينما نعرف إرتكابهم الأخطاء نفسها بعد أن حذرناهم منها نقول: " لا ضير.. فهم أطفال".

كأننا لا نأسى على أية أشياءٍ ونمحو الأثر بموجب الطفولة، بينما يعدُّ هذا السلوك سلوكاً ينتمي إلى مساحة افتراضيةٍ لديهم. وهناك إمكانية لتحويل كلَّ الأشياء والموضوعات بالطريقة ذاتها. ومن المهم في خطاب الطفولة الاعتماد على معالم النصوص الافتراصية التي توفرها برامج الكمبيوتر وشبكة المعلومات والبيئات الافتراضية، من جهة الأشكال المبهرة، والتحولات المرنة، وتوليد الدلالات، وتكوين الأخيلة البديلة وبناء النماذج وتدميرها.

وعلاوة على ذلك من المهم التركيز على الجوانب الافتراضية لطرق التدريس، وفي مقررات الأطفال التعليمية. ولعلَّ أبرز شيء في هذا الشأن أنَّ الوسائط المعرفية والإلكترونية تعطيهم المجال كاملاً في القيام بمهام التعلم كأنهم مبدعوها، كأنهم مؤدوها بكل حريةٍ ومشاركةٍ، لأنه بتلك الحالة غدا التعلمُ نمطاً من أنماط اللعب الافتراضي. إذن مع دخول الوسائط الإلكترونية سيقلُ- إن لم يختفِ- المللُ الطُفولي، لأنه أصبح لعباً لا فرضاً محتوماً. فالعالم الإفتراضي كسّر الحواجز بين الواقع والخيال وجعل الإهتمام منصباً على الإبداع لا الإجراء وحسب، وهو أيضاً أسهم في تقليص الفوارق بين البيئات التعليمية مع تنشيط وصقل المهارات.

والفنون الإفتراضية تمثل لعباً بالفعل، وبدلا من أنْ يفْصل الأطفال بين ألعابِّهم ومقرراتِّهم، فبالإمكان إدماج الإثنينمعاً بواسطة البدائل الإفتراضية، والمهارات المركبة، وتجسيد الخيال، وهذا يتكئ على طاقات الإبداع والخيال لدى الأطفال[4]. وفي هذا المجال نحن نهتم بإطعامهم وتنميتهم جسدياً حتى غدت التربية مقابلاً لتوفير الغذاء والشراب متناسين أن جوع الخيالي اللعبي أخطر أنواع الجوع، وأعظم أنواع الجوع تدميراً للواقع وغياباً عن أحداثه. وربما يحتاج إلى عالم قائم بذاته كي يغذِيه. والألعاب الإلكترونية استطاعت إشباع خيال الأطفال عن طريق الإمكانيات والأفكار التي يفتقرون إليها في واقعهم.

أشرت- في هذه النقطة- إلى أنَّ الطفولة فنون ونصوص إفتراصية، لأوضحَ الشق الأول منها، أما الشق الثاني فكانت فكرتي الضمنية إعتبارَ الطفل نفسه فناً ونصاً افتراضيين للمجتمع، الثقافة. فالخطابات الشائعة حول الطفولة لا تتوانى عن تشكيلها معتبرة إياها خيطاً ضمن ألعابها الثقافية. الطفل بكيانه، بمدلولاته، بحقائقه، بتحولاته هو نص من نصوص الحياة الجارية. وذلك بموجب تحديد المعاني التي تترسب إزاء الطفوله في الخطاب العام، وطرائق التعبير به في حركة الثقافة. كثيراً ما يُعتقد أنَّ الطفل كائنٌ ككل أفراد المجتمع، غير أن الجديد الذي أنوه إليه كون الطفل ذاته نصاً، أليس موضوعاً للكلمات، أليس فضاءً للحقائق الإجتماعية، أليس يغيب كياناً بينما تحضُر معانيه؟ إذن تشكل حياته قضية لغوية على الأصالة، والتربويونينبغي أن يتعاملوا معها بطرائق الفهم التأويل وإعادة الصياغة تماماً كما نتعامل مع أي نص أثناء القراءة، ومن أقصر السبل هذا ما يفعله علم نفس الطفل، لكن يقتضي الحال تعميمَ التجربة.

الطفل يعلِّم أباه

الأبُوة إذ تَرد بمعنى التقاليد والأنماط والتصورات، تجعل الطفل مسرحاً لأدوارها، فمع بزوغ وعيه يبدي الطفلَّ رفضاً للسيناريو والحوار الجاريين حوله على مسرح الأسرة. وبخاصة أن الرفض وسيلة لردع الأدوار الهامشية التي ترسم له. وبحكم خياله وألعابه الإيهامية يمتلك الطفل سيناريو آخر، وفي التفاصيل الحياتية يعرفُ الأبُّ جيداً- رغم حبه لأبنائه- مدى الخطورة التي يمثلونها على موقعه من المسرحيات الجارية، وإذا كان مؤلِّفاً لتوزيع الأدوار، فإنه يضطر إلى افساح مشاهد ظهورهم تحت وصايته.

الأولادُ لا يخضعُون للمطلوب منهم، الأولادُ لا يحفلون هنا أو هناك بالنواهي والأوامر، الأولاد يتمردون بينما يزجرهم الأب الذي هو لوغوس الأسرة، الأولاد يفهمون خطاب الأب بطريقة مغايرة. وهنا المشكلة كل المشكلة حينما تُمس (لغة الأب) كأنَّ المحتمع بأكمله سينهار. والتهمة الموجهة للأطفال:" أنهم لا يسمعون الكلام "، وتوصي الأم أولادَّها بوصفها حافظةً لسر الأب: " اسمعوا كلام أبيكم، وعَيبٌ أن تشيحوا بوجوهكم جانباً عما يقول "، وبطريقة أخرى تهمس قائلةً: "سأعطيكم هدايا لو سمعتم الكلام ". والكارثة في تكسير اللغة الأبوية أنَّها محط نظر الثقافة وسلطتها، والأب يشعر بتلك الردود الطفولية الخاصة بالرفض كأنَّه يشعر بكيانه يُدّمر، وأنَّ مملكته ومملكة الثقافة تتلاشيان، كأنَّ هيكل الأبوة بمكوناته يذهبُ أدراجَ الرياحِ. وإذا كان الطفلُّ في مرحلته المبكرة لا يمتلك إلاَّ الكلام، فإنَّ الكلام لهو الحقيقة من وجهة نظر الأب، وهو ميدان الصراع وحسم النزاع في المجتمعات.

ومع أنَّ التمرد الطفولي يحتوى على دلالة سلبية بالمعنى السالف، غير أن الأطفال يلفتون نظر الآباء إلى مراجعة الكلام ولو تم ترديده مرة ثانية وثالثة، وحين يأخذون مواقف ولو صغيرة تبقى مؤثرةً في مسيرة التربية والثقافة. فكل محاولة للرفض، للتمرد إنما تمثل درساً لأبٍ يتحدث بإسم صولجان التقاليد، تكشف أنه يستعمل خطاباً لا يملكه لكائن خرج تواً إلى الحياة وأصبح إبناً افتراضياً لها. وربما لن يدرك الأب هذا المعنى البسيط، بيد أنه سيدرك بالتأكيد أنه لم يعد المالك الوحيد للغة. إن خطاباً تربوياً خالياً من مساحة لرفض الأبناء إنما هو خطاب لا يعطيهم قدرة على النمو الصحيح. الرفض حرية، الرفض قدرة على رؤية الحياة بمنطق الحياة، ويجب ألا نخاف على تآكل القيم كما قد يقال، لأن الطفل لن ينظر إلى القيم في كل الأحوال إلاَّ  من منظوره، المهم أن نجعل نظرتهم واعيةً وفاهمةً لا أن نربي أحجاراً.

الطفلُّ يربيه عصرُه

العبارة الدارجة تقول: " مَنْ لم يُربه أبواه، ستربيه الأيامُ والليالي". ويمكن أنْ أقرأ الأيّام والليالي بوصفهما فترتين هما العصر، الزمن، بمعنى المصادر الثقافية التاريخية المتاحة خلاله. وهي ليست مصادر واحدة، بل مصادر مختلفة وتمارس تأثيراً كبيراً. وسواء أشاءت الأسرةُ أم أبَّتْ، سيشاركُّها العصر في تربية أولاهِم وسيشاركها أيضاً من هم خارج منطقها التربوي والثقافي. فهؤلاء لا يستأذنون ولم يعد بالإمكان الإستئذان وسط التنوع غير المحدود للتربويات والمعارف والثقافات والفاعلين الرمزيين على الصعيد الإجتماعي. التصور الواضح عندئذ: أننا نختزل الطفولَّة في إتجاه الأبوين فقط، وهما بدورهما مجرد فاعلين رمزيين بأمر الثقافةِ ليس أكثر.

إذن الحقيقة أن الطفل هو من يربي والديه في بعض المواقف، لأنه بمثابة الطاقة المرنة في حياتهما، هو العين المندهشه، الباسمة، المنتشية، الحزينة، الآملة بصدق والطموحة بصدق والمراقبة بصدق والمستغرقة في وجودها بصدق.. كيف نصوغ خطاباً ملائماً لهذا الوضع؟! ولو تأملنا المشاهد حولنا، لوجدنا الأقران يشاركون الأبوين التربية، والأصدقاء يشاركونهما التربية، ومنتجي الثقافة يشاركونهما التربية، ورجال السياسة يشاركونهما التربية، الفنانيين يشاركونهما التربية، لاعبي الرياضة يشاركونهما التربية، الأشرار والأخيار يشاركونهما التربية، الرموز الدينية يشاركونهما التربية، الأحداث والوقائع تشاركهما التربية، شبكة المعلومات تشاركهما التربية، الفضائيات تشاركهما التربية، الخطابات المتداولة تشاركهما التربية... وكل هذه الأشياء وغيرها تترصد تربية الأطفال عبر النصوص والعلامات والصور المرئية والمسموعة والمقروءة.

وهي موضوعات قيد الطرح التربوي والمعرفي، لأنها نتاجات عصر يستحيل تجنب تداعياته، وإنسان واهم من يعتقد إمكانية عزل الأطفال خارج حدود عصرهم، لأنهم بأنفسهم وبتكوينهم وبفنونهم يمثلون تلك الحدود. وإن استطعنا عزلهم جزئياً، لن نستطيع عزلهم كلياً، وستكون نتيجةُ العزلة اجتياحاً كاملاً من قِبلّ تحولات العصر لهياكلنا القديمة. وليس أمام الخطاب المنتظر إلاَّ التأكيد على هذه النقطة، وليس أمامه إلاَّ الانفتاح على القادم والمختلف والمتداخل. ولم يعد خطابنا الأبوي ليجدي، لأننا في لحظة ما سنعرف من يربي أبناءنا. وبعد أن كنا نظن في هيمنتنا على كيانهم، سيتضح انفلاتهم الكامل من قبضة المجتمع والثقافة. وحالما نتصور انفرادنا حصرياً بمفاهيم التربية والأخلاق، سنستفيق يوماً على تعددية الفاعلين الثقافيين بجوارنا وفي مواجهتنا و في أعماقنا!!

 

د. سامي عبد العال

...........................

[1]-Maurice Merleau-Ponty, Phenomenology of Perception, Translated by Colin Smith, Routledge & Kegan Paul,  London and New York, 1958, PP 94-112.

ربما تسهم تلك الصورة الجسية المترابطة بين الوعي بها كظاهرة و بين إرتداد الوعي خلال إدراك شبه تكاملي، أقول ربما يسهم ذلك في تعمم صورة الجسد كلغة تواصلية مع العالم إذ يحتوي الطفل. والكلمات التي أتحدث عن طبيعتها الوجودية تأخذ مغزاها لدىه من خلال هذه الصورة الجسدية. لا أمانع القول بأنها تماثلها في الطاقة وتخلق الشحنات أثناء الكلام، فالجسد الطفولى عبارة عن قدرة إبداعية على الحركة والإنطلاق، واللغة تمثل عنصراً فاعلاً ضمن هذه القدرة. فكما أن الطفل يدرك جسدَّه كجسد للعالم، للأشياء فكذلك تأتي اللغة جسداً تعبيراً يحركه ويربط بين تمفصلاته بذات الحركة. وحينما نحاول صياغة خطاب الطفولة ولا سيما النصوص المقدمة لهم لابد من الإعتماد على خاصيتي الأداء، متعة الأداء، فاعليته، انتاجيته، لعبيته. لا يكون الأداء صورياً بل تصويرياً(دون تطابق) وتوليدياً (دون جمود) بحيث يصبح الطفل قادراً على إنتاج المعاني والاستغراق في تشكيلها، تماماً مثلما يشكل الأشياء من حوله و يقوم بالاستمتاع الحياتي بأفعاله ولو كانت صغيرة. فاللغة جسده الدلالي، لها نفس مواضعات التعبير الحسي، من جهة التبدي والفاعلية، اللغة  لدي الأطفال نشاط لعبي يتفلت من الأطر التقليدية الصارمة.

[2]-  من أكبر الملاحظات أثراً في  كتب الدراسات اللغوية تقديم اللغة بوصفها (ذوقاً جمالياً) ليس أكثر. الوصف يردُ عادةً بمنطوق" لغتنا العربية الجميلة " في معظم المجتمعات العربية. هذا المنطوق يذهب مباشرة إلى ملكة الحكم بتعبير كانط لا  إلى ملكة التفكير العملى ولا المنطقي. كأنه يقول للطفل عليك أن تتلقى الكلمات والنصوص شعورياً متراوحة بين الجميل والجليل، وليس لك أدنى علاقة بما تفعله اللغة،  ولا بما تتركه من أثر، وكأنه يؤكد أيضاً أن اللغة لا قيمة لها، بإشارة عامة: استقبل ما تقرأه واسمعه بآلية" أذن من طين وأذن من عجين". وفي الحقيقة هذا التدريب النصي  تدريب ينضاف إلى تراث من إهمال علاقة اللغة العربية بالواقع وعدم تطويرها حضارياً، وينضاف إيضاً إلى أننا ثقافياً نسمع الكلمات وهي جوفاء ولا نتفاعل معها. وفي الحياة العامة نقول إزاء الخطاب المترهل والثرثار" وهل الكلام يباع ويشترى؟ فلنتكلم كيفما نشاء"، ونقول أيضاً في الكلام الذي لا طائل من ورائه: "إنه كلام ابن حديث"، وعليه سيكون المتكلم فوهة لطاحونة كلام، جعجعة فارغة ولا دقيق. وفي الخطاب الثقافي العربي اللغةُ لا تُقابل بالفهم العميق بذات الدرجة التي نخاطب بها دون دراية ولا فاعلية. هناك بالمثل تمثل سياسي إعلامي لمقولة لغتنا الجميل، تمثل يدفع السياسيين لإطلاق العبارات البراقة والوعود اللامعة دون إلتزام، لأن الخطاب العام خطاب جميل، خطاب بلاغي مؤثر، هكذا يجب أن يجرى المعنى، أليس  الكلام جميلاً؟ إنه السؤال الذي يطرح بعد أن نتلقاه، ولايجب أن نسأل بتاتاً أليس قابلاً للتنفيذ، هل كان دقيقاً، هل كان محدداً؟ هي ظاهرة "خطاب الثعالب" كما يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي" يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب".

وفي الكتب الدراسية للتلاميذ ستجد هذا المعنى منتشراً، لندقق في أي منها حول اللغة العربية، سنجد أن مؤلفيها عادة هم نخبة من الأساتذة. ومصطلح النخبة يحضر بديلاً عن الثقافة السائد، ثقافة إطلاق الكلمات في الهواء كالرصاص للتخويف وإيقاظ الآخرين، لأن هناك صوتاً لابد من سماعه وأنه يمثل المجموع، فهل يخطئ المجموع؟! طبعاً الصوت الهامس المقابل سيجيب بالنفي. بدليل أن المصطلح نفسه تكرر في أكثر من حقل دلالي: " نخبة سياسية، نخبة فكرية، نخبة إقتصادية، نخبة إجتماعية"، وهم أنفسهم  يعبرون عن ميراث ثقافي يجب نقده وفحصه.

والأخطر أنَّ هذا الوضع يظهر نتائج ومقدمات صياغة الخطاب النخبوي المتداول في أغلب المجالات. أولاً: ستكون كلمات الخطاب هوائية بنفس المنطق لا تباع ولا تشترى، أي قل ما تريد فلا ضابط ولا رقيب. ولا يخفى علينا أنَّ غوغائية الخطابات تلعب لعبها في الإكثار اللامتناهي من العبارات الفضفاضة والغامضة التي تطلق مثلاً حول الديمقراطية والعدالة والأخلاق والحكمة والأوصاف الإجتماعية والأسماء العامة. وهي بمنطق الفكر مجرد عملات ورقية زائفة لا قيمة لها في أسواق اللغة والمجتمع. ثانياً: يؤدي الوضع النخبوي إلى اللامعيارية في فهم الخطابات، فيمكن أن نردد الكلام كالببغاوات دون دلالة. وهذا ما نعاني منه بالتحديد بصدد الجوانب الثقافية والتقارير الإعلامية والسياسية. ثالثاً: يتقارب هذا الوضع من كون الخطاب الفكري العربي خطاباً شعاراتياً، لاستمالة المتلقي والإستحواذ عليه فقط، حتى ولو كان الثمن سرقة الواقع واختزاله في المقابل. ولقد تسربت تلك الآلية من الخطاب الديني إلى باقي الخطابات الأخرى، فالخطاب الديني خطاب شعاراتي يوهمك بالحقيقة وبأداء المعنى الإنجازي بينما هو يسرق منك الزمن والحقيقة والوقائع. ويبيع لك الصدق التأثيري بتمثيل الشعارات مصحوبةً بالذهول والإيهام والتخييل والبكاء. وحيث يدفعك إلى الإيمان واليقن، يجعلك ممسكاً بأطراف العبارات وفجأة ستكتشف أنك معلق في الهواء!! رابعاً: يرجعنا إلى التراث الشفاهي للغة العربية، الذي طبعها بأثار الحفظ والتلقين فقط. والكلام الشفاهي كلام طيار، كلام روحاني كالمشروبات الروحانية الكحولية، تتلاعب برؤوسنا لكننا لا نستفيق منها باصطدامها بالأحداث.

[3]- المتنبي بإسمه الدال تاريخياً يخاطب الجموع من المسلمين، يخاطبهم بلغة الشكل  داخل الزمان والمكان: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ...يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ". لماذا إسم المتنبي دال في سياقنا؟  لأن وَقْع المتنبي يجري دلالياً على نحو زمني ثقافي، إنه يرمي بحقيقة وجود السلوك إلى المستقبل، إلى كشفه ومعرفة تحولاته المصيرية (أي مآله). و اسم المتنبي يرتبط بالنبأ، أي الإخبار عن زمن ما، عن حدث  أثر ما، لقد قال في شعره: " السيف أصدق أنباءً من الكتب " وهو يشير في سياق الثقافة العربية إلى نفاذ السلطة زمنياً وأن الحقيقة مرهونة بها أكثر مما ترتهن بالصحائف، ومازالت هذه النبوءة سارية حتى لحظتنا تلك. فالوقع المبدئي لأخبار السلطة، ورموزها، ومؤسساتها، و رجالاتها عن شئ لو كان تافهاً أهم مما لو جاء في أوراق،  في الواقع العربي قوة الإخبار من قوة قائله لا من قوة حقيقته. واستعمل المتنبي أفعل التفضيل كي يكون مفتوحاً على زمنه القادم ضمن عصور العرب المتوالية.  من جهة أخرى يرتبط اسم المتنبي كذلك بالنبوءة، والنبوءة دوما واقعة في مستقبل الأيام. النبؤءة بحسبانها حدثاً سواء أكان حفَ الشوارب وما يتضامن معه من وقائع أم نمطاً للحياة. لذلك فإن لإشاراته الشعرية أهميتها في معرفة الطابع التاريخي لتكوين النزوع الشكلي المشار إليه متناً بالأعلى، حيث ربط الغاية بالشكل على خلفية سلوك ديني يتخذ كعلامة على جوهر ما،  إن حف الشوارب شكل لخصَّ واختزل بنية الدين عملاً وفكراً. والمهم في كلام المتنبي أنه يرصد نبض التاريخ، يرصد التحول للعميق الذي يجري شكلياً  على مستواه البنائي. والدليل على تحول الشكل إلى مضمون هو اقتران حف الشوارب بالغاية في مقابل ضحك الأمم من الأمة العربية. الجوهر(حضارة الأمم) يسخر من الشكل، ويبدو التمسك به موضوعاً لسخرية التاريخ أيضاً. فكلمة الأمم يعني أنها مرت ببناء وجودها الحضاري والثقافي. وعلى الرغم مما تقدم إلا أن المتنبي أشار إلى إنحراف الغايات في المجتمع العربي باتجاه التسطيح، وهو ينحرف لا في فراغ إنما بحجم الأمة ذاتها. حتى أننا نري في الصيغة الاستفهامية التي حملت الفكرة قابلية للإنطلاق في وجه جميع الأشكال، وفي وجه أي نزوع شكلي قادم، كان المتنبي مفكراً حينما رصد هذه الظاهرة من خلال الاستفهام، فالأخير لديه المقدرة على الطرح أمام أسماء الجموع، لينتهي إلا الطرح في مواقف الأمة، والموازاة تدل على أنه يدرك غايات الدين، وجوهر السلوك الديني، والحضارة، وبناء الأمم. فليس من المعقول أن تبنى الأمم بحف الشوارب وإطلاق اللحى. ويدرك أيضاً مكانة أمة العرب بين الأمم الأخرى على خلفية الضحك كموقف تاريخي وليس شخصياً.

[4]- يستثمر الفن الإفتراضي صور اللعب الإيهامي. فهذا الفن يقوم على غياب الموضوع الأصلي، تصفيته لصالح موضوع رمزي يمثل وسيطاً لعمليات تشكيلية. وا وإذا كان هذا الفن مهماً للأطفال فإنَّ التعليم والمعرفة عموماً يعبران عن فاعليتيهما بواسطة بدائل شارحة، بدائل تعمل بطريقة أشبه بعمل اللغة. فاللغة نحتاج إليها بالتزامن مع فقدان الموضوع، ونجرب صيغاً متعددة لتقريب صور معانيه  المتتابعة. إذن تشمل اللغة بنية إفتراضية لصياغة الفكر. ولا أغالي إن أشرت إلى هناك أبنية متنوعة تسربها اللغة عبر الإستعمال من خلال التواصل باشاراتها وتعبيراتها. واللعب الإيهامي دال على النمو العقلي، لأنه يعبر عن عمليات رمزية تختلف من شخص إلى آخر وتتغير مع المراحل العمرية للطفل كما يقول جان بياجيه في كتابه " اللعب، الأحلام والمحاكاة في مرحلة لطفولة ".

Jean Piaget, Play, Dreams, and Imitation in Childhood, Heinemann,1951, PP30-43.

والمؤكد أن اللعب الإيهامي يعمل علة مجموعة من القدر ات لدى الطفل، منها الخيال، الأحلام، المحاكاة، التمثل، مهارات التركيب والتفكيك، وهي جميعها تتشكل معاً في المواقف اللعبية. ومع أن هناك موضوعاً أساسياً قد أثار اللعب وأعطاه مساحة للحركة، والطفل يحاكيه بالآثار التي تتشكل في صور رمزية وإشارية إلا أن التكرار الحادث إذ ينخرط فيه الطفل يكون لديه تعميماته الفكرية. والمنطقي أن تبلور هذه التعميمات أفكاره وطريقة تأثيرها داخل عقله، كما أنها تعمل عمل اللغة  من جانب أنها تحل محل الأشياء، وتصبح في الخطاب حدثاً بديلاً ومعبراً. فالكلمات ليست سوى ساحة لإحلال ولإنتاج المعاني. لهذا عندما يسمع الطفل كلمة أو إسماً فإنما يستدعي معه تخييلاً لمدلولاته والأفكار التي تدور حوله.

Jean Piaget, The Language and Thought of the Child, Routledge& Kegan Paul,1948, Chapter one

المتوقع  بناء على ذلك أن تكون النصوص لها الحركة نفسها في تاريخ الثقافة. وتكملة للفكرة السابقة، لا مفر من أن تكون نصوص الأطفال موضع إهتمام بكامل مفرداتها ومكوناتها التي تتمتع الخاصية ذاتها التي أشار إليها بياجيه. لأننا نعاني من نصوص لا تحتوي على جوانب رمزية خصيبة. حقيقي أن الصور والأشكال المطروحة تدخل في إطار لغة النص، إلاَّ أنها إفتراضياً تحول عملية التلقي موضوعاً تكوينياً لفكر الأطفال. ومن ثم سيؤثر ذلك بالتبعية على التعليم، وطرائقه ومناهجه.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم