صحيفة المثقف

كريم الأسدي: حدَّثني نبيلٌ فقال ..

كريم الاسديمعرفتي بالسيد نبيل ترقى الى قبل أعوام عديدة حين أتى نبيل طالباً منتقلاً من جامعة في جنوب البلاد الى جامعة العاصمة ..

كان وقوراً هادئاً رزيناً رغم ميله الى الدعابة، مؤثراً في حديثه، جالباً انتباه الآخرين حينما يطل أو يتحدث فهو الى هذا وسيم وسامة ظاهرة وأنيق في ملبسه حتى لو كان ملبسه بسيطاً اِذْ يختاره بعناية وتنسيق ليلائم جسده الرياضي الرشيق دون ان ان يكون مظهره شغله الشاغل، فقد كان شغوفاً بالأدب والعلم والمعرفة، مهموماً بهموم وطنه البعيد وعائلته التي لم يزرها منذ زمان بسبب تعقيدات ظروف البلد، وقد ترك هذا الأمر مسحةَ حزنٍ على محياه تبدو جلية حين يصمت أو يسرح في الخيال أو يمضي بأفكاره وحيداً الى البعيد، ولم يكن صعباً على مَن عرفه معرفة انَّ همّاً كبيراً يسكنه وأسىً جليلاً يمور في أعماق روحه..

كنتُ التقيه بين الفينة والفينة، اسامره وأستمع الى عذب حديثه والى حكاياه الرائعة عن منطقته وأبطالها الشعبيين أبناء الحياة البسيطة وأهل البداهة والحكمة والطرائف الذكية النادرة المازجة بين المفارقة والنكتة والحكمة .

بعد قدومه الى المدينة العاصمة بأشهر استطاع ان يغزو منتدياتها الأدبية والفكرية والثقافية بدون مشقة أو تكلف يسنده تمكنه من لغة البلد الغريب وشجاعته الأدبية وثقته الكبيرة بنفسه بأن يتقحم ولا يهاب : كان ظاهرةً في ريادته للحوار وتمكنه من ادارة دفَّة الحديث حتى لو كان في الهامش، وسرعان ما اكتسب عدداً غفيراً من الأعداء كان بعض أبناء بلده ولغته الأم أكثرهم صلفاً في معاداته ومحاولة تهميشه وايذائه واِبعاده عن دائرة الضوء، رغم انه يحب من الأعماق كل شيء له علاقة بوطنه . شرعوا بالتخطيط لعزله ومقاطعة النشاطات الأدبية والشعرية التي تُقام له وهو يستغرب ويتساءل عن سر هذا العداء ولا سيّما انه لم يقصد ايذاء شخص أو احراج صديق أو اِشعار أحد بالصغر .. كان عاشقاً للجمال وجمال المرأة بشكل خاص وله قابلية لا تضاهى في جذب النساء والمثقفات الجميلات منهن خصوصاً، فكنَّ يمنحن له بسخاء وحب العوالم الرائعة والأجواء البديلة ويطردّن عنه وحشته ..

لم تنقطع علاقته بأبناء وطنه ولغته في مغتربه فكان يتردد على مطعم ومقهى الأخ جاسم الذي افتتحه جاسم في العاصمة وحاول ان يحيله الى مكان شرقي ساحربأثاثه وتصميمه وموسيقاه وأكلاته وتوابله وبخوره وقناديله وحفلاته في عطلة الاسبوع حيث يسعى المغتربون بحكم عاطفة الحنين للقاء بعضهم او الالتقاء بأطياف مدنهم وأوطانهم .. التقيت نبيلاً مراراً هناك وكنت أسمع بشغف أحاديثه التي يضيف اليها عنصرَ التشويق والطرافة، وفي لقاء جميل حدثني نبيل فقال :

صادفتُ في مطعم الأخ جاسم قبل فترة صديقنا أيمن، فجلسنا لبعض الوقت ثم وقفنا لوقتٍ آخر سوية أمام باب المطعم حيث كان أيمن يهمُّ بالمغادرة لأمر بدا مهمّاً ولا يمكن تأجيله، ومن ضمن اسئلته عن أحوالي سألني عن علاقاتي بالناس الآخرين فقلت له بصراحة انني اعاني بعض الأحيان من صعوبات لامبررة ومواقف تكاد تكون غدراً من أناس لم يسبق لي الاساءة اليهم .. فما كان من أيمن الّا ان طلب منّي الاِصغاء جيداً الى قصة نصيحة وبدأ يقص عليّ فقال :

في يومٍ ما هاجر رجل من قريته الى قرية ثانية معروفة بغزارة مياهها حيث يمرُّ بها نهران، وحينما التقى الرجلُ الغريبُ أهلَ القرية شرحوا له أمراً مهماً بأنَّ النهر الأول سليم المياه ومَن يشرب منه يبقى سليماً، أما النهر الثاني فاِنَّ مياهه تسبب الجنون ومَن يشرب منه يفقد عقله، واِنَّ أهل القرية برمتهم قد ارتكبوا خطيئة الشرب من النهر الثاني الذي يحيل الناس الى مجانين فأُصيبوا جميعهم بالجنون .. فصار عِلمٌ واضحٌ عند الزائر الجديد ان النهر الثاني خطرٌ والشرب منه يكلفه عقله، فتجنب الشربَ منه وبقي يشرب من النهر الأول فقط .. بيد انه لاحظ انه أصبح معزولاً في القرية، ولا يسعى أحدٌ الى الحديث معه، وان سكّان القرية المجانين يتجنبونه ويحيدون عن لقائه، فذهب الى النهر الثاني ليشرب منه، فأضحى بعد ذلك الجميع اصدقاءه ..

كنت لم أزل أصغي الى أيمن حينما قال لي وبسرعة :

الآن توجّب عليَّ ان اغادر، فأصدقائي ينتظرونني في الجامع للصلاة فأنا اِمام الجماعة.

***

قصّة قصيرة ..

كريم الأسدي

......................

ملاحظة: زمان ومكان الشروع في تأليف هذا النص: اليوم الثاني والعشرون من أيلول 2021، في برلين، أمّا التفكير في كتابته فيعود الى زمن أَقدم.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم