صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: الميتافيزيقا.. الخلفية التاريخية ومشاكل الميتافيزيقا التقليدية

حاتم حميد محسنيُطلق تقليديا على الفلاسفة المتخصصين بالميتافيزيقا بالانجليزية ميتافيزيقيون وبالفرنسية metaphysicien، وبالألمانية ميتافيزيكير. ربما أغلب الميتافيزيقيين الأنجلوامريكيين يعتقدون ان مشاكل الميتافيزيقا يمكن التعامل معها كمشاكل في اللغة، يمكن حلها بالتحليلات المفاهيمية. انهم فلاسفة في تحليل اللغة. آخرون متخصصون بمنطق الضرورة والاحتمال modal logic، حيث يعتقد البعض منهم ان منطق الضرورة والاحتمال هو ميتافيزيقا. لكن اللغة فيها من المرونة الشديدة والغموض الكبير والمجاز الكثير، بحيث لا ترقى لتكون أداة تشخيص ميتافيزيقية. لذا يجب ان نذهب الى ما وراء لعبة اللغة والألغاز المنطقية نحو المعلومات الأساسية المتضمنة في المفهوم، والى الشيء الذي يمثل مفهوما غير مادي.

الأغلبية الساحقة من الميتافيزيقيين اليوم هم طبيعيون naturalists. هم يعتقدون بان كل شيء يمكن توضيحه بما يسمونه "قوانين الطبيعة". هم يأخذون تلك القوانين باعتبارها قوانين الفيزياء الكلاسيكية، لأن هناك القليل منْ يفهم فيزياء الكوانتم الحديثة. حتى العديد من الفيزيائيين يُصابون بالحيرة والإضطراب تجاه مظاهر ميكانيكا الكوانتم الغير مألوفة، والتي قادت الى العشرات من التفسيرات لميكانيكا الكوانتم.

الشيء الأكثر إشكالية اليوم، هو ان الميتافيزيقيين هم ماديون، بما في ذلك الماديون الأقصائيون الذين يعتقدون ان لاشيء هناك سوى المادة. هم يعتقدون بان ما موجود هو الأشياء المادية فقط. الإستثناء الوحيد من هذا هم الميتافيزيقيون الدينيون الذين لازالوا يبحثون عن الله والأرواح الخالدة.

المادية هي الادّعاء بان لاشيء في العالم وراء المادة (بما في ذلك الطاقة)، وان كل شيء يتبع "قوانين الطبيعة" وان هذه القوانين هي سببية وحتمية. لذا فان "ما فوق الطبيعة" يعني "الغير مادي" و حرية خرق قوانين الطبيعة. فلسفة المعلومات تنكر مافوق الطبيعة. لكنها تدافع عن المعلومات غير المادية كتلك التي تشكل روح الانسان . وهي تدافع عن الحظ الانطولوجي كمولّد للإمكانات الجديدة التي لا تتقرر بـ "الماضي الثابت"، فاتحة الباب للرغبة الميتافيزيقية الحرة.

الخلفية التاريخية

تدل الميتافيزيقا على عدة أشياء في تاريخ الفلسفة، لكنها لا تبتعد عن القراءة الحرفية لـ "ما وراء الطبيعة". المصطلح جرى اختراعه في القرن الاول قبل الميلاد من قبل رئيس المدرسة المشائية الأرسطية، اندرونيكوس Andronicus . اندرونيكوس راجع ورتّب أعمال ارسطو، معطيا اسم ميتافيزيقا "الى الكتب التي جاءت في الترتيب وراء الفيزياء"، ربما هي الكتب التي تُقرأ بعد قراءة كتب ارسطو في الطبيعة، التي اسماها الفيزياء. الطبيعة لدى اليونانيين هي الفيزياء، لذا فان الميتافيزيقي هو ايضا "ما وراء الطبيعي".

ارسطو لم يستخدم ابدا كلمة ميتافيزيقا. بالنسبة لإفلاطون (معلم ارسطو)، اعتبر عالم الأفكار المجردة هو أكثر "واقعية" من الطبيعي او الأشياء المادية الملموسة، لأن الأفكار تدوم اكثر (وجود بارمنديس)، بينما الاشياء المادية تتغير باستمرار (تحولات هيرقليطس).

في القرون الأخيرة، أصبح الميتافيزيقي "وراء المادي". اصبحت الميتافيزيقا تعني دراسة الأشياء اللامادية مثل الذهن، الذي قيل بانه يشرف على الدماغ المادي. الميتافيزيقا نوع من المثالية، وهي في تناقض حاد مع المادية. والميتافيزيقا فشلت قياسا بالنجاح الكبير للمادية، وهي الفكرة بان قوانين الطبيعة وحدها توضح تماما محتويات الكون. بالنسبة للمادي الأقصائي والفيلسوف الحتمي، الذين يعتقدون ان لاشيء هناك عدى المادة، جرى رفض الميتافيزيقا كهراء.

ان كتب ارسطو التي اعتبرها اندرونيكوس "وراء المادة" تضمنت "الفلسفة الاولى لارسطو" – انطولوجي (علم الوجود)، الكوزمولوجي (العمليات الاساسية والاسباب الاصلية للاشياء المادية)، والثيولوجي (الإله المطلوب كـ "سبب اول"؟).

فيزياء ارسطو تصف الأسباب الاربعة او "توضيحات" التغيير والحركة في الاشياء الموجودة سلفا في الكون (السببان الشكلي والنهائي مقابل السبب المادي والسبب الفعال). ميتافيزيقا ارسطو يمكن النظر اليها كتوضيحات للوجود ذاته. ماذا يوجد؟ ماهي العمليات التي تجلب الاشياء الى (وخارج) الوجود؟ هل هناك سبب او توضيح للكون ككل؟

في الخطاب الفلسفي النقدي، كانت الميتافيزيقا مشوهة بترجماتها اللاتينية كـ "ما فوق الطبيعة"، مع مضامينها الثيولوجية القوية. ولكن منذ البداية، مؤلفات ارسطو حول "الفلسفة الاولى" اعتبرت الله من بين الأسباب الممكنة للاشياء الاساسية في الكون. في تعقّبه لسلسلة الاسباب رجوعا في الماضي كحلقات غير متناهية، افترض ارسطو السبب الاول او "السبب غير المسبب" – حيث كل حركة تحتاج الى محرك سابق لتوضيحها، هو افترض وجود "محرك أول غير متحرك". هذه الافتراضات اصبحت عنصرا رئيسيا في الثيولوجي نزولا الى العصر الحديث. الميتافيزيقا هي قسم من الفلسفة تتضمن انطولوجي، او علم الاشياء. المعنى الاساسي للميتافيزيقا مشتق من تلك النقاشات التي خاضها ارسطو الذي هو ذاته أطلق عليها سم الفلسفة الاولى او الثيولوجي، والتي تتعامل مع طبيعة الوجود ، ومع اسباب اولى، بدايات جديدة او أصلية، وهكذا مع وجود الله.

بالنسبة لفلاسفة القرون الوسطى، كانت الميتافيزيقا تُفهم كعلم ما وراء المحسوس. البرتوس ماغنوس Albertus Magnus سمىاها علم ما وراء الطبيعي. توما الاكويني اختزلها الى ادراك الله. جون دونس سكوت لم يوافق على ذلك، مجادلا ان دراسة العالم وحدها يمكن ان تنتج معرفة في الله. أغلب الفلاسفة المدرسيين أعاد الميتافيزيقا الى دراسة الوجود ذاته، او، انطولوجي، والذي مرة اخرى اليوم هو الحقل المركزي في النقاشات الميتافيزيقية. في آلمانيا النهضة، وسّع كرستيان وولف الميتافيزيقا لتتضمن علم النفس، الى جانب الانطولوجي، والكوسمولوجي، والثيولوجي الطبيعي او العقلاني. في انجلترا النهضة، ضيّق فرنسيس باكون الميتافيزيقا الى الدراسة الارسطية للأسباب الشكلية والنهائية، حيث فصلها عن الفلسفة الطبيعية التي اعتبرها دراسة الاسباب الفعالة والمادية. ديكارت تحول من التركيز على ما موجود الى معرفة ما موجود. هو غيّر التأكيد من دراسة الوجود الى دراسة شروط المعرفة او الابستيمولوجي. بالنسبة للتجريبيين في انجلترا مثل جون لوك وديفد هيوم، تتضمن الميتافيزيقا الاشياء "الاساسية" التي وراء علم النفس و التجارب الحسية "الثانوية". هم انكروا ان المعرفة ممكنة بعيدا عن التفكير التجريبي والرياضي. هيوم اعتقد ان الميتافيزيقا سفسطة ووهم.

"اذا أخذنا بأيدينا اي كتاب في الإلهية او المدارس الميتافيزيقية، مثلا، دعنا نسأل، هل هو يحتوي على أي تفكير تجريدي يتعلق بالكمية او الأعداد؟ كلا. هل هو يحتوي على أي تفكير تجريبي يتعلق بمسائل الحدوث الحقيقي والوجود؟ كلا. اذاً ضعه في النار لأنه لا يحتوي على أي شيء سوى السفسطة والوهم". (تحقيق يتعلق بالفهم الانساني، قسم 12). غير ان البعض يرى ان تحقيق هيوم ذاته حول الفهم الانساني لا يقع تحت أي من الصنفين الجيدين، فهل هو كان غافلا عن المفارقة التي وقع فيها؟

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم