صحيفة المثقف

صادق السامرائي: الأمين والخلافة المجهولة!!

صادق السامرائيمحمد أبو عبدالله بن الرشيد (170 - 198) هجرية، تسنم الخلافة في عمر (23)، ولمدة خمسة سنوات تقريبا (193 - 198) هجرية، وقتله (طاهر بن الحسين)، قائد أخيه المأمون وفتك بأهله، وأباد ذريته، وأذل أمه زبيدة، وحمل رأسه إلى أخيه!!

سنوات خلافته مبهمة والمدون عنها يركز على اللهو واللعب، وترك الخلافة والإنهماك بخلع أخويه وتولية إبنه الرضيع، وكأنه دخل في متاهة تصارعية دامية مع أخيه المأمون منذ بداية خلافته، ولا شيئ مهم يذكر عنه، مع أنه صاحب ثقافة عالية تضاهي ما عليه المأمون، فهما تربيا كتوأم وحظيا بأعلام الدولة وجهابذتها لتربيتهما وتعليمهما.

فالأمين خليفة متنوّر معرفيا ويتمتع بذكاء وقدرات ثقافية متنوعة، وربّاه الكسائي والأصمعي وحماد الراوية، وقطرب، وغيرهم، ولا يمكن قبول أنه قد تهور بسرعة وتحول إلى عابث غير مكترث، لا هم له إلا الغلمان والخمر.

والرشيد لم يبقه وليا للعهد لو لم يتسم بمميزات قيادية واضحة على تحمل إدارة دولة شاسعة الأطراف، ولولا ما عنده من قدرات لما إحتار في الخيار بينه والمأمون.

هناك فترة مغفولة في تأريخ الدولة العباسية منذ وفاة الرشيد حتى تولي المأمون للخلافة، من الصعب تسليط الأضواء عليها، ومن العسير قبول ما نقل عن فترة الأمين على أنها لهو وهوى وعبث، وتجاهل لأمور الدولة والدين .

ولا تتوفر دراسات وبحوث وافية عن الدولة العباسية للفترة (193 -198) هجرية، سوى التركيز على حالات تهور وإنغماس في المتع والسلوكيات المنحرفة، التي تشير إلى أن الأمين كان منشغلا بالغلمان ومعاقرة الخمر، ولعب الشطرنج، وفي هذا ربما ما لا يتوافق ونشأته وتربيته الصارمة، التي كانت تعده ليكون خليفة، فكيف تؤدي ذات التربية إلى وجود نقيضين؟!!

هل أن معظم المدون عن الأمين مفترى عليه، لتأكيد خلافة أخيه؟!!

الرشيد أعلن ولاية العهد للأمين وهو في عمر خمسة سنوات وكان عمر الرشيد آنذاك (27) سنة، والمصادر تشير إلى أن ذلك حصل بضغط من زبيدة وبني هاشم، ولكون الأمين أصيل الأرومة، فهو ثالث خليفة عباسي ليس إبن جارية، وهم: (السفاح، المهدي والأمين) .

 وفي سنة (182) أجبره البرامكة على تولية العهد من بعد الأمين للمأمون في عمر (12) سنة، ويبدو أنه وجد نفسه مضطرا لتولية المؤتمن من بعدهما لكي يحقق التوازن، فأخطأ أو إرتكب خطيئة، حسب أنه سينهيها بما كتبه من عهدة وأشهد عليها الفقهاء، ونشرها في أرجاء الدولة وعلقها في الكعبة، وقد حج بهما وهما صبية في عمر المراهقة، وأخذ عليهما المواثيق المؤكدة، "بأن يخلص كل منهما لأخيه، وأن يترك الأمين للمأمون كل ما عهد إليه من بلاد الشرق...." .

 لكن الصراع أخذ يتأجج لخلافته بين العرب بقيادة زبيدة، التي تريد إبنها الأمين أن يكون خليفة، والبرامكة الذين يؤازرون المأمون، فما وجد الرشيد بدا من الفتك بالبرامكة حفاظا على الدولة، فإرتكب خطيئة كبرى جديدة، ناء بتداعياتها إبنه الأمين، وزوجته زبيدة التي أصابها الإذلال والهوان من بعده.

والعجيب في الأمر كيف لم يتعظ مما سبق، بل ومن تجربته مع أخيه الهادي، وأتى بسابقة غريبة ذات نتائج تصارعية دامية وحتمية، إذ جعل بأس أولاده بينهم، فتقاتل إثنان من أثقف الخلفاء في التأريخ، وحرمت الأمة من تفاعلاتهما الإيجابية، ولا بد لأحدهما أن يمحق الآخر، بل أن الأخوة الثلاثة قد تماحقوا، وذهبت ريحهم، وأبيدت ذرياتهم.

مما يؤكد أن الرشيد ما كان يحكم، وإن قيل أنه يصلي في اليوم (100) ركعة فكيف يحكم، إذا قدرنا كل ركعة (3 - 5) دقائق، فأنه يمضي (5 -7) ساعات في الصلاة كل يوم، وهذا يتقاطع مع ما يُروى عن نشاطاته الأخرى!!

2

بقي المأمون في خراسان بعد مقتل الأمين لستة سنوات (198 -204) هجرية، وجاء إلى بغداد سنة (204) هجرية، وكانت قد تخربت وما بقي فيها ما يذكره بأيامه فيها، وكأنه كان يشعر بالمرارة والألم بسبب ما جرى، وما إنتهت إليه الأحوال بينه وبين أخيه.

وسبب الصراع بين الأخوة هو (هارون الرشيد)، لسوء تقديره وقلة حكمته وضعف قيادته، فهو الذي عاش رمزا كبيرا للخلافة، وليس قائدا فاعلا فيها كما توهمنا كتب التأريخ.

إن المدوَّن يتحدث عن فترة خمس سنوات من حياة الأمين، ويُتهم بأنه منشغل بالغلمان، ولديه أبناء وبنات، وموضوع الغلمان كان سائدا في الدولة العباسية، وتواصل مع الخلفاء جميعهم، فالمأمون كان لديه غلمان، بل أن بعض الفقهاء والشعراء والأثرياء وذوي المناصب في الدولة كان لديهم غلمان.

وقد لعبت النعرات العصبية دورها بينهما، فهو هاشمي الأبوين، عربي أصيل، والمأمون إبن جارية فارسية إسمها مراجل، ويبدو أن للبرامكة دورهم في تقريب تلك الجارية إلى الرشيد، لتكون أما لولده البكر المأمون، وهم الذين حموه ورعوه وإلا لكان الموت مصيره في طفولته، فهكذا كان الأمر يجري على أولاد الجواري، وإلا كيف لم تقتله زبيدة وآل هاشم من حولها.

يبدو أن البرامكة كانوا منتبهين لهذا الأمر، فوفروا له الحماية والرعاية التامة، ولفشل زبيدة وآل هاشم في التخلص من المأمون إبن الجارية الذي له حق ولاية العهد، أجبروا هارون الرشيد على إعلان ولاية العهد للأمين وهو إبن الخامسة من العمر، وولاه على الشام والعراق وجعل ولايته تحت مربيه (الفضل بن يحيى البرمكي)، كنوع من الخداع والتضليل، والقول بأنهم أجبروه يثير أسئلة، بل أن الرشيد كان على إستعداد للقيام بالأمر، لغاية خفية في نفسه.

مما يشير إلى أنه ربما كان مهددا في حياته، وأعداؤه يتكالبون عليه، وقد يكون للبرامكة دور في محاولة لإغتياله - لم تدوّن لسريتها- لكي يكون المأمون من بعده، وتكون الوصاية في الحكم لهم حتى يكبر.

هذه من الأسباب الدفينة التي ربما لعبت دورها في نكبتهم، بعد أن إتضحت نوازعهم وتأسدهم في الدولة، وهي من أخطاء الرشيد الذي سلم لهم أمور الدولة حال توليه الخلافة، وكأنهم الأوصياء عليه.

كما أنهم شجعوا على إبادة العربي بالعربي، ولهذا إشتد الصراع بين العلويين والعباسيين وهم أولاد عمومة، وكان نهجهم بإتجاه القبض على الخلافة وتحويلها إلى دولة البرامكة.

3

ولم يتصرف الأخوة الثلاثة بحكمة وحلم لقلة الخبرة وصغر العمر، وكثرة المحيطين بهم والطامعين في تمرير أجنداتهم ومشاريعهم الأنانية.

ولهذا لعب (الفضل بن سهل)، و(الفضل بن طاهر) دورهما في تأجيج القطيعة بينهم ، حتى إنتهى الأمر بمقتل الأمين، وتدحرج رأسه أمام أخيه المأمون، الذي أظنه أصيب بالذعر والحزن والألم، وتأنيب الضمير.

وهذا ما يفسر عدم قدومه إلى بغداد إلا بعد ستة سنوات من مقتل أخيه، إذ بقي في خراسان، كما أن ما جرى تسبب بدفعه إلى عدم القول بولاية العهد لأي من أولاده ، بل أنه كاد أن يتنازل عن الخلافة لولا الضغوط التي تعرض لها من الناس، وأخيرا وهو على فراش النهاية قرر أن يكون المعتصم الخليفة من بعده، وما خطر على بال الرشيد أن يكون هذا الإبن خليفة، لأنه لم يتعهده بالرعاية اللازمة لهذا الأمر، وهذه أيضا مثلبة تؤخذ عليه، وتؤكد قلة خبرته وضعف فراسته.

وبسبب إشكالية ولاية العهد كان إبن المأمون يرى أنه الأحق بالخلافة من عمه، فضمرها بنفسه، وإستغلها بعض المناوئين، فحرضوه على عمه وهو منشغل بمعركة عمورية، فما وجد المعتصم بدا من سجنه حتى الموت.

إنها صراعات حول الكرسي وحسب !!

هل ندم الأمين على خلعه لأخيه، أظنه كذلك ولكن بعد أن سبق السيف العذل؟

وهل ندم المأمون على ما فعله، أظنه عاش في محنة كبيرة طيلة حياته، وحاول أن يهرب من نفسه بإنشغاله بالعلوم والمعارف الفلسفية.

وهل أن الرشيد قد أدرك أنه قد إرتكب أخطاءً، يبدو كذلك، لأنه قد إستسلم للأمر الواقع، وإشتد على نفسه وكأنه يريد أن يعاقبها، وذهب إلى طوس وهو مريض هربا من الحال الذي صار فيه.

أولياء عهد من حوله بأعوانهم ويريدون موته عاجلا لا آجلا، ويتحالفون مع أقرب الناس إليه للقضاء عليه.

ويبدو أن المأمون كان أكثر قربا لأبيه، ولهذا كان شاكا في موته، وقسى على طبيبه الذي إنتقل فورا ليكون مع الأمين، وكأنه كان يستعد لذلك منذ وقت.

4

الأمين كان مستقيما ولم تذكر عنه تصرفات سيئة قبل توليه الخلافة، ولا يمكن القبول بأنه قد تغير في ليلة وضحاها، وصار حالة أخرى، وهو متزوج ولديه أولاد، ويضيفون أنه كان يعاقر الخمر ومنهمك بالشطرنج.

ولا يذكر كثيرا عن إنجازاته وما حققه في خلافته، بل دونت على أنها صراع متواصل بينه وأخيه.

وما قام به من خلع أخيه من ولاية العهد سلوك متوقع ومتعارف عليه ولا يزال جاريا حتى اليوم، فالخليفة أو الملك يريد ولده من بعده فيبعد أخاه، وحاول الهادي خلع الرشيد.

وذلك طبع بشري وجار في الأمم والشعوب، ولهذا لجأت بعض الإمبراطوريات إلى قتل الأخوة، والإبقاء على واحد فقط من الأبناء للحفاظ على الدولة، ما دامت بلا دستور وإرادة سياسية جامعة، والسلطة فيها عائلية وكل عائلي يتآكل وينهار.

 

د. صادق السامرائي

..........................

* قتِلَ الأمين في 25\9\813 ميلادية، وأجتثت ذريته، وحُمل رأسه إلى أخيه المأمون وهو في مرو \ خراسان.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم