صحيفة المثقف
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (233): فلسفة ختم الشريعة وأصالة الأخلاق
خاص بالمثقف: الثالثة والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
الدليل الرابع: إمضاء السيرة العقلائية
يعتبر إمضاء السيرة العقلائية في تشريع الأحكام دليلاً رابعاً على وحدة مبادئها، وارتهان شرعيتها لها. لا فرق بين الأحكام الشرعية والوضعية شريطة الالتزام بمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته. أو يفقد الحكم شرعيته مع الظلم والجور والانحياز والترهيب وعدم المساواة. أو بشكل أدق يفقد الحكم شرعيته بفقدان المشرّع / الفقيه / الجهة المتصدية للتشريع حريته وإرادته. الإرادة الحرة شرط أساس يضاف إلى غيره من الشروط المتقدمة.
وإمضاء السيرة دليل عقلي، مفاده: إن عدم صدور نهي عن تشريع الأحكام خارج حدود الشريعة أو في منطقة الفراغ، دليل على جوازه، وإمضاء ما تقتضيه حكمة المشرّع ومبادئ التشريع في ملء منطقة الفراغ. لا فرق بين الأنبياء، أو خصوص النبي محمد وغيره، مادام التشريع مرتكزا لتلك المبادئ والقيم الأخلاقية، فالحكم يدور مدارها نفيا وإثباتا. وقد ختمت الآية ما يخص الشريعة من أحكام وأكدت كمال الدين، دون الإشارة إلى منطقة الفراغ، وما هو مآل المسائل المستحدثة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). وهذا يؤكد أن ما تريده الشريعة قد بينته. ويبقى الأصل براءة الذمة خارج حدودها: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، فيؤول تشريع الأحكام لأهل الخبرة. إذاً رغم كثرة الحوادث والوقائع التي تستدعي وجود أحكام وقوانين وأنظمة غير أن أحكام الشريعة كانت معدودة، لا تغطي سوى مساحة محدودة من الحاجة الفعلية لها. فما هو موقف الشريعة من الأحكام المستجدة، مع استبعاد أية ولاية تشريعة لأحد بما فيهم النبي، كما أكدت سابقا بأدلة كافية: هل أن الأحكام المستجدة والوضعية باطلة؟ فلماذا لم ينبّهنا، لتفادي الوقوع في ارتكاب معاصٍ تترتب عليها تداعيات أخروية وربما دنيوية أيضا؟. أم أنها صحيحة وليست باطلة مادامت مستوفية لشروطها فسكت عنها؟. ومع انتفاء النهي يتعين الثاني الموافق لأصل البراءة العقلية بل وحتى الشرعية. لكن ماهي مرجعيات المشرّع في منطقة الفراغ؟:
لا مرجعيات للمشرّع في منطقة الفراغ سوى العقل أو النص لمن يؤمن بحجيته ومرجعيته. إما النص فيُقتصر على ما ورد في الكتاب الكريم من آيات الأحكام. ولا حجية للروايات إلا بقدر البيان والتفصيل ما له جذر قرآني. ومع فقدان الدليل اللفظي تصل النوبة للعقل، فيرتكز المشرّع في تشريعها لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وحاجته وضروراته. وهي الصيغة العقلائية التي يُرتهن لها في تحقيق العدالة. ومع عدم وجود احتمال ثالث، يكون الثاني متعينا، وهو المطلوب. وهذا دليل على صحة الفرضية. والكلام حول ملء منطقة الفراغ، فلا معنى للاحتجاج بوجوب الالتزام بأحكام الشريعة. وأما الالتزام بالكتاب، فقد مرَّ الكلام عن مبادئ التشريع حيث تم الاستدلال عليها بالقرآن والعقل والعرف العقلائي، وهذا مصداق واضح للالتزام بتعاليم الدين. وأما الفقيه فإن مرجعيته الرئيسة في الاستنباط هي الروايات، وآراء اجتهادية. وكلاهما لا يعتبر دليلا شرعيا، ما لم يرد الحكم في نص قرآني صريح، وفقا لمتبنياتنا في حجية السُنّة.
قد يقال بولاية الشريعة في ملء منطقة الفراغ، بمعنى:
1- إما أن يراد بولاية الشريعة: اقتصار مصادر التشريع على القرآن والسنة، فيختص الفقيه أو الرأي الفقيه بملء منطقفة الفراغ. ومرت مناقشة هذا الاحتمال، وقلنا لا حجية للسنة الا بقدر ما يخص وظيفة النبي من البيان والتفصيل. ولا حجية لأية رواية شارحة ومبينة ما لم تورث العلم واليقن وفقا لشروط صحة الروايات. ولا عبرة بما نقلتهه مصادر الحديث المعتمدة لدى المسلمين ما لم تستوف شروط صحتها. وهي عدد محدود من الروايات المتواترة، وما تبقى روايات آحاد. ورغم قلة الروايات المتواترة، فإن شروط التواتر، التي هي أشبه بالتعجيزية تحول دون تصديق نسبتها جميعا. ولا يمكن اعتماد نظرية الاحتمالات كما يذهب إليها محمد باقر الصدر لاثبات حجية التواتر على إطلاقها، والكلام في محله. فلم يبق من الشريعة، مع عدم وجود ولاية تشريعة لأحد مطلقا، سوى آيات الأحكام، ولا ريب في فعليتها، ضمن شروط حجية النص. وهذا القدر من الأحكام محدود لا يغطي سوى جزء يسر من حاجة المجتمعات. وأما من يجعل القرآن والسنة جزءا من مصادر التشريع فالأمر سيكون أوضح.
2- أو يقصد بها: إلتزام المشرّع بروح الشريعة ولوازم تشريعها. وعندي أن مبادئ التشريع، التي هي مبادئ أخلاقية وإنسانية، هي المعبّر الحقيقي عن روح الشريعة، وهي شرط في شرعية الأحكام الوضعية، ومع انتفاء الشروط أو بعضها تنتفي شرعية الأحكام، كما بالنسبة للأحكام السلطانية، التي كانت تكرّس سلطة الحاكم الأعلى على طول التاريخ ومازالت الأنظمة الشمولية تكرّس تشريعها لحفظ سلطته. ويكفي مراجعة كتاب الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى، لتكتشف بنفسك كي يكرّس فقيه السلطان جهده لتحصين السلطة على حساب القيم والمبادئ الدينية والإنسانية.
والإمضاء أحد الأدلة التي يستدل بها الفقيه على صحة السلوك الشرعي، وقد تناولته كتب أصول الفقه تفصيلا. جاء في أحد النصوص: (دلالة السكوت والتقرير: وأما السكوت فقد يقال: إنه دليل الإمضاء وتوضيح ذلك: أن المعصوم إذا واجه سلوكا معينا، فإما أن يبدي موقف الشرع منه، وهذا يعني وجود الدليل الشرعي اللفظي، وإما أن يسكت، وهذا السكوت يمكن أن يعتبر دليلا على الإمضاء. ودلالته على الإمضاء تارة تدعى على أساس عقلي، وأخرى على أساس الظهور الحالي. أما الأساس العقلي فيمكن توضيحه: إما بملاحظة المعصوم مكلفا، فيقال: إن هذا السلوك لو لم يكن مرضيا لوجب النهي عنه على المعصوم لوجوب النهي عن المنكر، أو لوجوب تعليم الجاهل، فعدم نهيه وسكوته مع عصمته يكشف عقلا عن كون السلوك مرضيا، وإما بملاحظة المعصوم شارعا وهادفا، فيقال: إن السلوك الذي يواجهه المعصوم لو كان يفوت عليه غرضه بما هو شارع لتعين الوقوف في وجهه، ولما صح السكوت لأنه نقض للغرض، ونقض الغرض من العاقل الملتفت مستحيل)، (ينظر مثالا، الحلقة الأولى من حلقات أصول الفقه، محمد باقر الصدر، ص223).
فسكوت الشارع عن تشريع الأحكام في منطقة الفراغ وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع رغم نسبية الحكمة وإدراك مبادئ التشريع بين الخالق والمخلوق دليل على إمضائها، ومن ثم شرعيتها. إذ لا مقارنة بين حكمة الله وحكم الإنسان. حكمته مطلقة، وإحاطته شاملة. وعدله كاملا. يعلم حقائق الأمور، وما يحقق سعادة الإنسان في إطار قيم الدين والأخلاق. أي ما يحقق معنى العدالة في المجتمع. هذا هو المفترض. لكن رغم كل هذا أمضى تشريع الأحكام لملء منطقة الفراغ على أساس الحكمة والعدل رغم نسبيتهما. وبالفعل مرَّ بنا تصدي الرسول لملء منطقة الفراغ بأحكام ولائية، لا باعتباره نبيا مبلغا، بل باعتباره وليا للأمر. كما سكت عن أحكام سبقته كأحكام التجارة فكان سكوته إمضاء لها. ولم يجعل تشريع الأحكام توقيفيا، كما هو الحال بالنسبة للعبادات، التي تتوقف شرعيتها ووجوبها على صدور إذن من الشارع. فالفقيه بما فيهم الصحابة لا يمكنهم تشريع فرض عبادي لم يرد فيه نص، لتوقيفية العبادات، ورغم علمهم بهذا شاركوا مباشرة أو بشكل غير مباشر في صدور تشريعات جديدة. وكان الخليفتان الثاني والثالث يسألان الصحابة عن حكم المسائل المستحدثة، ثم يفتون وفقها. وبالتالي فإن لازم عدم وجود نهي عن ملء منطقة الفراغ، وعدم ارتهان ملئها بأحد، إمضاء للسيرة العقلائية في تشريع الأحكام، التي ترتهن تشريعها لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع. خلافا لمن يدعي ارتهان التشريع لعقل معصوم أو عقل كامل، سواء الصحابة لدى السنة أو الأئمة لدى الشيعة. ومن باب أولى عدم ارتهانها للفقيه. وهذا دليل خامس على صحة الفرضية، وفي ضوئه بات الجواب واضحا على من يدعي التوقيفية في تشريع الأحكام لملء منطقة الفراغ، إذ لا نهي صريح عن ذلك في الكتاب، وعدم ارتهانه لأي شرط سوى مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع: (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
إمضاء التأويل
يلحق بدليل الإمضاء تأويل الوحي، رغم نسبية التأويل تبعا لنسبية ثقافة وقبليات المتلقي. إذ لا مجانسة بين عالمي الغيب والشهادة تتيح التفاهم عبر لغة وسيطة، سوى الوحي، وعلى الرسول فهمه وإدراك دلالاته وما يريد قوله، بأي تجلٍ كان الوحي. وهي عملية تأويلية، كغيرها من عمليات تأويل الرموز والإشارات والشفرات اللغوية المستترة بما فيها التجارب الدينية والروحية. ومادامت كذلك فيرتهن التأويل لقبليات المتلقي وثقافته ووعيه وأفق رؤيته، كوسط ثقافي لفهم دلالات الوحي، وهذا سرّ اختلاف التأويل حول موضوع واحد. وقد أمضى الخالق فهم النبي، واعتبر كلامه حجة رغم نسبيته وبشريته. فالنبي لم يتلق كلاما صريحا، ولم يسمع آيات تتلى، لعدم وجود لغة مشتركة بين عالمين مختلفين، فكان الوحي بديلا لتحقيق غايات الرسالات السماوية: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا). بمعنى أدق أن النبي كان يتلقى الوحي ويأوله بخلفية ثقافية، هي خلفية مجتمع الجزيرة العربية، وعندما عبر عن الوحي عبر عنه بذات اللغة والثقافة السائدة، باستثناء بعض الآيات التي ليست لها أمثلة يقاس عليها التأويل وهي بعض المفاهيم الميتافيزيقية، لذا قرر الكتاب: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ). وبالتالي فإن مبادئ التشريع، كمفاهيم لها دلالاتها في الثقافة العربية. وعندما اعتبر القرآن بيانا للناس أخذ بنظر الاعتبار اللغة والثقافة السائدتين في عصر نزول الوحي. وعندما أمر بالعدالة أمر بها كمفهوم متداول له دلالات محددة في اللغة المتداولة.
تجدر الإشارة:
- إن الحكمة مَلَكَة نفسية، تنمو وتتطور بالمران والتعلّم، وليست أمرا خارقا، وكان الحكماء موجدين على طول التاريخ، ولعل في حمورابي ومسلته مثالا تاريخيا مناسبا لتشريع الأحكام. وقد أكدت مجموعة آيات على تعليم الحكمة، باعتبارها إحدى وظائف الأنبياء إلى جنب الكتاب. ولازم التعليم وجود استعداد لدى الناس لتعلمها كتعاليم، وكرؤية عادلة ومنصف للأشياء: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ). غير أنها مرتهنة لشروطها وليست متاحة لجميع الناس لذا ختمت الآية: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ). فهي عقل يتدبر، يتأمل. ونفس صبورة على الحق وقول الحقيقة. وبما أن الحكمة مَلكَة كغيرها من المَلكات النفسانية، فلا خصوصية لأحد سوى قابلياته النفسية وقدراته العقلية والتأملية وصفاء سريرته. ويكون المعصوم، لو سلّمنا بوجوده، مجرد مصداق لمستوى رفيع من الحكمة. ورغم هذا لا أنفي الموهبة والتوفيق الرباني، وهذا لا يوجب احتكارها من قبل أحد.
- إن عملية تشريع الأحكام في منطقة الفراغ باتت معقدة تستدعي التشارك بين فقهاء القانون وخبراء التشريع والتداول المستمر حول صياغة القوانين واللوائح التشريعية وما يترتب عليه، بل وتستدعي مشاركة علماء ومتخصصين في علوم لها علاقة بموضوع التشريع، كعلماء النفس والتربية والاجتماع. التشريع اليوم يختلف عن فتاوى الفقهاء واستنباط الأحكم الشرعية. فمهما اختلف الفقهاء حول كيفية غسل الوجه في الوضوء مثلا، فإن تداعيات الاختلاف بطلان الوضوء، ويمكن للمكلف إعادته، وهو أمر شخصي لا غير. بينما نظام الحياة على جميع المستويات يتوقف على وجود أنظمة وقوانين، وأي خطأ يترك آثارا ربما خطيرة، لا تقتصر على الفرد وحقوقه رغم أهميتها لكن قد تمتد للمجتمع والدولة وتربك الأوضاع.
فلسفة ختم الشريعة
إن ختم الشريعة جزء من ختم النبوة، فكما خُتمت النبوة بسطوع العقل، كذلك خُتمت الشريعة، بعد إدراك العقل لمبادئ التشريع، فثمة فلسفة عميقة وراءهما، تحيل على العقل ومسؤوليته في ملء الفراغ التشريعي، وضبط سلوكه الأخلاقي وفاء لدوره كخليفة عليه مسوؤلية خلافة الأرض واستثمارها بما يحقق إنسانية الإنسان. وهذا اعتراف بقدرة العقل على اكتشاف مبادئ التشريع، وقدرته على تشريع ما يراه مناسبا وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته. واعتراف بقدرة الإنسان على مواصلة حياته على المدى البعيد، وعدم حاجته مستقبلا للوحي أو أي ولاية دينية. وهذا سرّ توقف هبوط الوحي وبعثة الأنبياء. يؤكده عدم وجود نص قرآني صريح يجعل ولاية دينية لأحد أو ينيط مسؤوليتها به. وما كان للوحي التوقف لو كانت هناك ضرورة لاستمرار التشريع والوصايا الدينية. بل توقفَ بعث الأنبياء والرسل. في ختم النبوة دلالات عميقة، يُدركها أولي الألباب.
إن حاجة الإنسان للعقل باتت أكثر من حاجته لأية وصايا دينية، بعد ختم النبوة، واكتمال الدين بهذا القدر المحدود من الأحكام الشرعية المذكورة في الكتاب الكريم، ولو كانت هناك حاجة لأحكام شرعية أخرى لحدد لنا القرآن مرجعياتها. وهذا لا يدركه إلا أولي الألباب، فثمة فرق بين اتجاهي العبودية والعقل في فهم مقاصد التشريع وإدراك فلسفة ختم النبوة والشريعة، هو ذات الفرق بين ارتهان العقل للنص، وارتهان فهم النص للعقل. الأول يعتقد "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، فعلا، لا بالقوة، دائما وأبدا، وما علينا سوى البحث عنه واكتشافه، ويبقى الفرد محكوما بوصايا الفقيه بعد انقطاع الوحي. بينما يرى الثاني أن أحكام الشريعة مجرد أمثلة لتشريع الأحكام وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، لذا قالت الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). وسياق الآيات، قبل وبعد، قرينة إلى إرادة التشريع.
كان دين الناس على الفطرة، وكانوا يمارسون حياتهم وفقا لعادات وتقاليد، جعلت منهم أمة واحدة، متجانسة ثقافيا رغم تعدد التجارب الروحية والطقوس الدينية، وما كانت هناك ضرورة للأنبياء لولا صراع المصالح والنفوذ فبعث الله الأنبياء، وكانت إحدى مهامهم بعد التبشير والانذار هي تسوية الخلافات وفق ضوابط أخلاقية.
إن حكم الحاكم، الحكيم، النبي في النزاعات الحقوقية لا يستدعي وجود حاكم معصوم موحى له، بل يمكن لكل شخص تسوية الخلاف وفق مبادئ أخلاقية وحقوقية متفق عليها، مادام حكيما ملتزما بالقيم الأخلاقية. يبقى فقط الجانب العبادي وسيأتي الكلام حوله في محله. ثم ماذا عن كثير من القضايا التي لم يبت بها الوحي، ولم تتطرق لها الشريعة، ألم تكن بمرأى ومسمع من الأنبياء، يتصدى لحلها أهل الحل والعقد بين القبائل العربية؟ إذاً، فثمة اجماع ضمني على قيم، يتم وفقها تسوية الخلافات وإحقاق الحق، وجميعها قيم أخلاقية وعقلانية، وليست بالضرورة من وحي الشرائع السماوية. ولم يثبت أن مسلة حمورابي مثلا شريعة سماوية، بل شريعة بشرية، وقد سبقتها شرائع وتشريعات مهما كانت بسيطة او بدائية غير أنها تفي بحاجة المجتمع أو التجمعات البشرية آنذاك.
يأتي في الحلقة القادمة
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه