صحيفة المثقف

واثق الحسناوي: تجلياتُ الرَّفض في شاهدةِ قبرِ السَّماوي.. دراسة سيميائية حجاجية تواصلية (2-4)

واثق الحسناويفي ظهور الإسلام برزت اتجاهات دينية حملت مضامينا اجتماعية وفكرية جديدة، حدّت من المظاهر والسلوكيات الفاسدة، وكانت بمثابة الثورة والرفض لكلِّ هذه المظاهر، لأن الدين (يقوم بوظيفة اجتماعية متممة لوظيفة الاخلاق، ومتمثلة بإحلال الطمأنينة، والسكون بين افراد المجتمع، والحيلولة دون تشتيت ذلك التماسك الذي يربط هؤلاء الافراد، وما مِن شك بأنَّ الدين يُتيح الفرصة لظهور مناسبات للتعبير عن هذا التضامن الاجتماعي، فضلاً عن التضامن الذي يحدثه بين الانسان والبيئة على اساس انّه يقلل من الخوف، والقلق الراجع الى الضياع واليأس، انَّه يحلُّ الطمأنينة في الحياة الدنيا المترعة بالمخاوف، والنزاع بل أكثر من ذلك يعطي المجتمع الأمل في المستقبل الذي كان موضع تساؤل، إنَّ علاقة افراد المجتمع ببعضهم، وبمحيطهم وبيئتهم تصبح تحت رعاية الرَّب وحمايته) .(13)

ومِن هنا يتضح لنا إنَّ الدين، قوّةُ ردعٍ ورفضٍ تقاوم قوى الهدم المجتمعي ؛ ما دعا عدداً من الشّعراء الى دحض ورفض المفاهيم الهدامة البائدة، التي كانت سائدة في تلك الفترة، ك(حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وزهير بن ابي سلمى وغيرهم)  مِمَن رفض الفساد، والظلم والالحاد او غير ذلك  .(14)

فكان شعرُ الرفض حاضراً أيضا في عصر ظهور الإسلام،  إلا انّه توسعت رقعته في العصر الأموي، بعد شيوع الفتن والاضطرابات لأسباب سياسية ودينية وقومية، جعلت من السلطات الحاكمة، حكومات رافضة لتطبيق الحريات والعدالة الاجتماعية والإنسانية، التي أوصى بها الإسلام، ما تسببت في تذمر وامتعاض، ورفض الكثير من الشعراء للخلفاء الأمويين و دفعهم للثورة والانتفاض عليهم، شعورا منهم بالظلم والاستعباد، كالفرزدق والكميت ودعبل الخزاعي، وشعراء الشيعة وشعراء الخوارج وشعراء الزبيرين وغيرهم .(15)

وفي العصر العباس نجد حالة الرفض تنامت لدى الشعراء لأسباب سياسية أو دينية أو قومية أو أخلاقية كذلك، اذ،تمرّد المتنبي على السلطات الحاكمة، ما كلّفه الكثير، فهو الشاعر الفارس المتمرد الطموح المعتز بكرامته .(16)  وقد تجلّت حالة الرفض الاجتماعي، والسياسي لديه في صور شتى، جمعها ابو البقاء العبكري في كتابه "التبيان في شرح الديوان .(17)

وكان الشعر الصوفي –أيضا- نوعٌ اخر من الرفض الاجتماعي والسياسي الرافض لكل مظاهر الفجور والمجون والرغد، والميوعة التي تفشت في العصر العباسي،اذ مثل الشعر الصوفي بعض من الشعراء الصوفيين( كرابعة العدوية و ابن الفارض والحلاج وابي العلاء المعري وغيرهم) كتعبير عن رفضهم للمفاتن الدنيوية الرخيصة وقد كلّف البعض منهم حياته. فهو شعر الكشف والنور والانهمام والانسجام والاتحاد والذوبان في الذات الإلهية وترك الدنيا بملذاتها ومفاتنها، والدعوة إلى العدالة والإصلاح والمساواة الاجتماعية، والدعوة الى القناعة والتواضع والتكافل والسمو والرقي بالعقل والاخلاق والدين والتوحد مع الذات الالهية .

وهذه الصلات التي تربط بين الدين والشعر، هي صلات تعتمدُ على الروح والإلهام، والتلقي والحدس والرفض للمحرّمات والموبقات المحرمة والقبيحة والمنبوذة، وهي ثورة الرّوح لكبح جماح الدوافع الفطرية السوية عند الإنسان .والشاعر كالصوفي يسعى لإسعاد العالم من خلال معالجة مشاكله ومظلمته، إذ  يرى "برجسون ": (إن هناك عباقرة في ميدان الدين،هم رجال الاديان والمتصوفة والقديسون،الذين يكتشفون ماهية الحقيقة، بواسطة الحدس الصوفي المتعالي عن التفكير المنطقي الصارم،وعما يرتبط بالاحساس، والادرك،  ليتحدوا بالله وبالديمومة، انهم يشعرون بوجود الله، وبحضرته، ولكن هذا الشعور هو الذي سيدفعهم الى تحطيم اغلال المجتمعات المغلقة، والديانات الساكنة المتقوقعة حول خدمة مجموعة دون مجموعة وحماية قوم دون قوم). (18)

وبهذا فالشاعر والمتصوف، يسعيان الى تصوير عالم أكثر مثالية، وكمال من عالم الواقع،  من خلال الإحساس بالواقع، والاستشعار به، بلغة مجازية استعارية سيميائية غامضة، مستعصية على المتلقي العادي، على الرغم من التعارض بين الشاعر والصوفي مِن حيث إن الصوفية هي تجربة سكونية مستقلة، منعزلة غامضة مجردة منفردة، بينما الشعر تجربة اشهارية ثورية معلنه في معظم حالاتها، فالتصوف يقام على رفض البذخ والفحش والترف والفساد بكافة انواعه ويدعو الى التمرد والرفض لكل مظاهرالفساد  .(19)

وفي مصر مارس الشيخ محمد عبده، اسلوب الرفض الديني والسياسي والاجتماعي، بسبب ممارسة الدول الاستعمارية هيمنتها على مقدرات، ولغة وتاريخ وادب مصر وشعبها .وبدأت الدعوات الرافضة لنهج الازهر وسياسة التتريك، والتعليم والاقطاعية والبرجوازية على ايدي مفكرين وعلماء وادباء كبار .ورفض جمال الدين الافغاني فكرة حكومة الاستبداد، ونظام الحكم القمعي المطلق، وأسّس حزبا في مصر باسم " الحزب الوطني الحر" .(20)

وفي القرن التاسع عشر اتسع نطاق أسلوب الرفض لدى شعراء كثيرين؛ نظرا لاتساع نطاق الظلم والطغيان، وتفشي الإمراض والفقر المتقع، المتزامن مع وجود الاحتلالات المتلاحقة للشعوب العربية، والمسلمة المغلوب على أمرها؛ ما ولّد شعورا هيستيريا وثورة رافضة لكل هذه المظاهر، والإفرازات المخيبة للآمال.

ومن مظاهر هذا الرفض، الدعوة الى محاربة الظلم والطغيان والاستبداد، والاستعمار والعملاء، والمرتزقة،والجهل والفقر والقيود الاجتماعية والدينية . والدعوة إلى الإصلاح والتعليم والانفتاح والتحرر، والاستقلال، ومنها ما تجسّد في شعر شعراء الشّيعة، الذين اعلنوا عن تمرّدهم، ورفضهم للأساليب التعسفية، والقمعية، والطائفية، التي انتهجتها السلطاتُ العثمانية ضدّهم، فاتخذوا من نهج وثورة ورمز الامام الحسين (ع)، اسلوبا لرفض السلطات، التي تقف ضدّهم، وتجسَّد هذا الرفض  في الرثاء أو المديح أو الندبة ل آل البيت (عليهم السلام)  أو من خلال اظهار المظلومية بوسائل البكاء والعويل، وممارسة الطقوس الرافضة للواقع أو التاريخ أو الحكم. (21)

وجميع هذه الممارسات و الاساليب الادبية والتعبيرية السيمايئية الحجاجية التواصلية، مستوحى جزءٌ منها من الشعر السومري القديم والشعر العربي الجاهلي، كالبكاء على الاطلال ورثاء القادة والملوك واقامة مآتم الحزن، التي تتجسد فيها مشاهدُ الالم والعتب أو الندم أو اظهار المظلومية من خلال البكاء، والعويل، وشقّ الجيوب، ولطم الصدور أو الوجوه، وما شابه ذلك.  فجميعُها مشاهدٌ تراجيدية درامية تحاكي الماضي، وتجسّد صُور الظلم وترفضه بشتى الوسائل، وقد تطورت كثيرا في وقتنا الحالي، وتعددت وسائلها وزادت حدّتها . والتي تجسدت في شعر الرصافي الاجتماعي، والثائر على العادات والتقاليد البالية في مجتمعه .(22)

وقد بقي الشعر العراقي-في القرن التاسع عشر- شعرا دينيا قوميا، رافضا لكل المظاهر الغربية أو الإلحادية، التي من شأنها إن تخدش الحياء أو تطعن بالشريعة السمحاء،  فالشاعر العراقي لم يفصل بين الدين الاسلامي والقومية العربية في شعره وقاوم معظم المظاهر الغربية، التي تحاول اختراق عرينه الثقافي والدين والتراثي، رغم انجراف بعضٌ منهم .

وكان الرصافي مِن أشدّ الشعراء العراقيين رفضا، وتمردا في عصره وتهكما، وسخرية بالنظم الحاكمة،كما نجد ذلك في وصفه للوزراء بآلات وانَّهم كتّابُ عند " برسي كوكس "وغيره من الأجانب، اذ يقول:

فوزيرٌ ملحقٌ كالذ         يلِ في عجزِ الحِمارةْ

ذنبٌ أصبحَ للحكمِ         بــــه اقبــــح شارهْ

وهو لا يملكُ أمراً        غير كرسي الوزارةْ

يأخذُ الراتبَ إمّا           بلغَ الشّهر سرارهْ  (23)

ومن الشعراء مَن رفضَ، فرض القيود على المرأة كالزهاوي، الذي قال:

هلْ بالسفورِ نفعٌ يُرجى ؟ قُلت: خيرٌ مِن الحِجاب السفورُ(24)

وكذلك رفضَ الرصافي التخمة، التي يعيشُ فيها الأغنياء على حساب الفقراء، بقوله:

أيَّها الأغنياءُ، كم قد ظلمتم     نعمَ الله حيث مَا إن رحتم

سهرَ البائسونَ جوعاً ونمتمُ     بهناءٍ مِن بعدِ مَا قد طعمتم

مِن طعامٍ منوّعٍ وشراب(25)

فكان الرصافي شاعرا مُصلِحا ثائرا على تقاليد المجتمع البالية،  وكان صدى صدقٍ، لتطلعات المجتمع ورغباته نحو التحرر والاستقلال .بعكس الزهاوي الشاعر القلق الذي لا يستقر على حال من الأحوال، فبسبب خوفه خرج من المُثل والقيم الاجتماعية العليا،ميالا إلى السلطات العثمانية أو الانكليزية الحاكمة.

فكان يعيش في تناقضات مع نفسه بين موالاة السلطة الجديدة، وبين تأكيد الذات وزمن من عدم تحقيق الحلم رفعَ راية الرفض، والتمرد لإثبات ذاته ولتأكيد شخصيته، فدعا إلى تحرير المرأة .(26)

ولم يكن الشاعرُ عبد المحسن الكاظمي، اقلَّ شانا مِن غيره من الشعراء العراقيين، الذين سلكوا أسلوب الرفض في شعرهم، فقد وصلَ مصر هاربا من الجور من اجل التحرر والاستقلال، فكان في طليعة الشعراء الذين حملوا لواء الوحدة العربية، والتغني بها فقال:

لا تحسبوا أوطانَنا    هنداً نَحِنُّ لها ودعدا

هي نورُ أعيننا التي    أبدا نراح و نغدى

أوطانُنا أرواحنا    بل إنَّها بالرّوح تُفدى(27)

وإذا أنعمنا النظر في الشعر العربي الحديث، وفي أواسط القرن التاسع عشر لوجدنا إن الشعراء العراقيين، يقفون في طليعة الشعراء العرب الذين حملوا أوزارَ وهموم وقضايا الأمة العربية،في الوحدة والتحرر والاستقلال، ومحاربة الجهل والفقر والاستعمار .

ويقف شاعرُ العرب الأكبر الجواهري في مقدمة هذا العصر، الذي مثَّل أسلوب الرفض بمعانيه، ومضامينه الفكرية والفلسفية، والدينية، والقومية، والسياسية ؛فكان         شاعرا رافضا مقاوما ثائرا متمردا على كلِّ المظاهر الظالمة والفاسدة ويدعو الى تحرير المرأة.

وكان لديه كبتٌ جنسي كان سببا في تمرده على قيود المجتمع النجفي-بحسب نظرية فرويد السيكولوجية التي ترى إنَّ معظم مشاكل الانسان واضطراباته النفسية او السلوكية، ناتجة عن الكبت الجنسي-، تجلى في شعره بوضوح،حتى إن سلوكيته المتمردة بطبيعة الحال، ضيعت عليه الكثير، وهو ابن مدينة النجف الاشرف التي تُعدّ اول مدينة عراقية تمردت على الاحتلال الانكليزي عام 1918.

أيَّد الجواهري  حركة بكر صدقي  التي حملت الشعارات الوطنية والاصلاحية، واختلف مع السياسي  ياسين الهاشمي ...اصدر  جريدة  " الانقلاب " ودعا له ..انضم الى المعارضة وتعرض للسجن وعطلت جريدته ..رشح نفسه لعضوية "مجلس البرلمان" في العراق ...وما أن حطَّ ركابه في (مجلس الامة) حتى نسي دعم الامير عبد الإله  له، فانضم الى المعارضة ليُلهب الحاكمين بخطبِه واعتراضاته...

وفي عهد الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، هاجم الحكّام العراقيين وخصَّ بالذكر عبد الكريم قاسم، وحلف بغداد،قائلا:

خلفت غاشيةَ الخنوع ورائي    واتيت اقبس جمرةَ الشهداء

اسطورةُ الاحلاف سوف يمجّها التا   ريخُ مثل خرافة "الحلفاء(28)

فقد عاش الجواهري سنينا في الغربة، أفنى نصف عمره في المنفى، وهو يصارع ألم الغربة، وصبابة الفراق، ولوعة الابتعاد عن الأحبّة الملحة، ما جعلت منه شاعرا رافضا لكل القيم والأعراف، والقوانين التي ترغم الأبناء على ترك الأوطان.

ويرى الدكتور علي عباس علوان:(إن الجواهري بعد إصدار مجموعته الشعرية الثانية عام 1935،شعر بالإرهاق؛ لأنه يحمل مُثلا قديمة ما عادت تلائم مجتمعه، كما نقرأ ضجره وشكواه وإحساسه الحاد بالضياع والنسيان، والفشل في كثير مِمَا أمل وطلب سواء في مجتمعه أم من هؤلاء الحكام). (29)

وتبعا لذلك فإن الاضطراب هو المحصلة النهائية لرؤية الشاعر، ومواقفه وثورته الرافضة لتلك القيود القديمة،متجها نحو التحرر والاستقلال والتجديد، وهو ما يعكس حقيقة الأمر نزعة الشاعر العراقي نحو التحرر الأبدي، والرافضة لكلّ مظاهر الظلم والاستبداد. كما نجد تأثر الجواهري الواضح بالمتنبي، وابو العلاء المعري، بخاصة في اسلوب الرفض .(30)

و تكمن شهرةُ الشاعر العراقي "أحمد مطر"، في لون الشعر الذي أبدعه، واعلن تمرده على أنظمة القمع والقهر، وشحذ لسانه في حربه ضدّ الديكتاتورية والاستبداد السياسي، فجاءت قصائده حادّة غاية في الحدة، والقسوة .(31)

ولا يقلُّ  شاعرنا  العراقي يحيى السَّماوي شأنا من شعراء التمرد الذين تحملوا أعباء الوطن وأخطاء الحاكمين، ودفعوا فاتورة ذلك بالتهجير القسري والمنفى الغيبي، فكان شعرُ الشاعر عبارة عن قصة شاعر، أحبَّ الوطن بإحساس التصوف المرهف والصادق، وهو صاحب قضية وطنية دافع عنها بجدارة الابن البَّار .

وقد يرى بعضٌ من القرّاء، أننا سنبتعد في تناولنا هذا عن اللغة الشعرية المكثفة التي قد تصل في بعض الاحيان الى الملل والاسفاف والمبالغة، والابتعاد عن الأساليب البيانية والمجازية التقليدية، والتي تغلب على سمة النقد الانطباعي، والعناية بالمحسانات اللفظية على حساب الفكرة، والموضوعية والبناء الفني بشكل عام، وبأننا قد نلّوح عنها مجرد تلويح، ومحاولتنا لتسليط الضوء على مسيرة الشاعر السياسية والجهادية المقاومة، وربّما أعطيناها أكثر مما ينبغي؛ إيماننا منا بأنَّ النقطة في بحر لجّي، قد تُعطي إشارة أمل وكشف ونور،كرمي الحَجر في الماء الساكن.

فالظروف القاسية والسلطة الحاكمة، ومجرد التفكير بالانقلاب على السلطة، يكلّف الحياة فكيف بشاعر اشترك في الانقلاب، وشهد التحقيق، وقيادة القوى المعارضة في معسكرات اللجوء في الدول المجاورة، ربّما يعني له طريق اللاعودة أو ما يسمى "اللعب بالنار" وهو ما لمسه وعاناه الشاعر فعلا، حينما حُكم عليه بالإعدام، وبدأت القصةُ التي بنظري لم تنته لحد ألان مع الشاعر الثوري الرافض لكل أنواع الظلم والتسلط والتعسف، وهو ما ولمسناه في معظم قصائده، التي هي عبارة عن شِفرات أو رسائل تهديد مرّة،ووعيد مرّة أخرى أو دعوات للرفض أو الترك أو المشاركة ..

فالشاعر السَّماوي طائرٌ ثوري مقاوم بامتياز، شاعر مهوسٌ بهموم وطنه؛ لحاجته الماسة له كما هي حاجته للطعام والشراب، الوطن الذي استمد منه معظم مصادر وعناصر طاقاته الجمالية والابداعية،والثقافية والمعرفية، ولغته القاموسية والمحلية، على الرغم من اغترابه.

لذلك نجده في حالة مزمنة من التّوجس والقلق، والاغتراب  والاحتياج،  فحاجاتُ السَّماوي الى وطنه لا حدود تقف امامها، إذ احترقت بنيران الاستبداد السياسي في بلد هو محارق ومقابر للأقلام والرموز الوطنية الحرّة، فكان صوتا مدويا يصدح باسم العراق في المحافل العربية والدولية، حتى كتب قصيدته النارية بعنوان "الحاخام يخطب في بغداد" عام 1994 بعد تدمير قوّة العراق العسكرية على أيدي القوات المتحالفة، بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، يقول السَّماوي:

خطب "ابن صبحة" يا أنامُ  سمعا إذا خطب الهمامُ

"قعقاع" هذا العصر لو.. أقعى: تراجفتِ العظامُ

وإمام -حزب البعث-.. تقطر من عمامته المدامُ

فالشاعر ينكّل ويسخر من الرئيس السابق صدام حسين، بأسلوب كنائي سيميائي ساخر، فيكنيه ساخرا منه  ب" ابن صبحة" أي ينسبه الى امه في اشارة  على إنّه مغموز النسب، وهو معنى سيمائي تداولي تراثي شعبي، اذ يمتد بجذوره الى عالم السخرية والانتقاص والانتقام من الاشخاص فيكنى (يعيّر) باسم امه كناية ونكاية به وهي علامة سيميائية حجاجية، تحمل عدّة معان تراثية وعقائدية فقهية وعرفية اجتماعية وقانونية وغير ذلك .

ووصفه ب" الهُمام " والقعقاع"  و" عمامته " وصف استعاري، يحمل ثنائية ضدية سلبية تهكمية ساخرة، هدف المرسل هو التنكيل والسخرية اللاذعة، بأسلوب رافض، بعد أن ألقى عليه الحِجج  بأسلوب ساخر.

وفي موضع آخر، استعمل الشاعر المصدر (عَجبا) للتعجب والانكار،  وهو يحتجُّ على مفاخرة اعدائه المزيفة، بأسلوب التضاد والمفارقة، التي تجلّت في جمل المقابلة (عار/ قيد) (هزمت / منتصر) وهي علامات سيميائية، تحمل أكثر من دلالة (الدلالة المعجمية، والدلالة الاستعمالية التداولية هي المقصودة) أي انّ ما خَلَّف البعدُ الدلالي التداولي من معنى عميق مسكوت عنه مخبوء، أعمق مِمَا طرحه المعنى المعجمي في التركيب السطحي للخطاب الحجاجي التعجبي، اذ يقول:

يتفاخرون بعار سطوتهم.. وأنا بوشم القيد أفتخرُ!

عجبا على الجلاد: قد هزمت.. كفاه، والمقتول منتصرُ!

فمعظم القصائد في مجموعة " شاهدة قبر "  كانت لما كنائية او استعارية حجاجية سيميائية/ رمزية، حملت ألفاظاً ومعانياً رمزية (سياسية او دينية او اجتماعية في اغلبها)،  وما يؤكد ذلك تكرار لفظة الوطن في معظم القصائد، حتى توهمنا بانَّ المجموعة الشعرية "شاهدة قبر " هي عبارة عن قصيدة عن الوطن، وربّما هي فعلا ذلك .

واختيار الشاعر لقصيدة "شاهدة قبر من رخام الكلمات " لأن تكون عنوانا لمجموعته الشعرية؛ دليلٌ على تعلّق الشاعر بأمه التي تعني له الوطن، وهذا دليلٌ على تعلق الشاعر بوطنه؛ كون الأم هي الوطن الحضن الدافئ، الذي فارقه ولم يشبع منه حتى صار قَلقَلا وشبحا يراود الشاعر طيلة إقامته بالمنفى حتى الآن، فكلّما ذكر الشاعرُ والدته  تدفقت دموعه من عينيه وانهمرت شوقا وحزنا وكمدا، حتى تكررت لفظةُ  " الأم" في أكثر من موقع، ولأكثر من قصيدة.

وهذا أيضا نوعٌ من مقاومة عاطفة الشوق والصبابة، ورفض البعد والحرمان، والقدر الذي حال بينهما،الذي كاد أن يؤدي بحياة الشاعر، وأرهقه كثيرا بخاصة انَّها ماتت مِن دون لأن يحضر وفاتها وتشييعها،كونّه كان وقتها في المنفى، وكان مطلوباً للسطات الحاكمة آنذاك .

فطفولته التي يتوق اليها، وتعلقه الكبير في بيئته الفطرية العفوية البسيطة بين أحضان الطين والبساتين والعصافير والأشجار، ونزعته التواقة منذ البدء للتحرر وحبّ الطبيعة،والتغني بها وحبّ الحياة والحرية، والطبيعية خلقت له شعورا رافضا لكل مظاهر القيود والاستبداد. وهو ما يبرر مقاومة الشاعر ورفضه للغربة،على  الرغم حياة القفص، والغربة الداخلية التي كان يعيشها قبل التهجير الارغامي، الذي تعرض له على مضض؛ كونه اعتاد منذ طفولته على الحرية والحياة العفوية البسيطة .

هكذا رفض الشاعر السَّماوي، القيم المتلبسة بالرّياء والنفاق السياسي،والاجتماعي، الباعثة على الجمود والاستكانة، مجتمع تداخلت فيه المعايير والمقاييس ؛ فكان هذا  دافعاً  لتمرده على الأحكام السياسية، والاجتماعية والفكرية والعقائدية والتراثية البالية او الدوغمائية، وشعورا بعدم الرضا .

إنَّ التمرّد ميزةٌ بارزةٌ وواضحةٌ في شعر السَّماوي، الذي سما بنفسه عن تلك القيود الصارمة، التي قد تقتل الحرية، وتعتقل السلام في بلده . والرفضُ طغى على معظم قصائد الشاعر، رفضه للواقع الذي يعيشه والسلطات التي تحكمه. سيما أننا نعلم أنَّ الشاعر ابن بيئته، ومرآتها الحقيقية العاكسة ولسان حال مجتمعه،ويرتكز رفض السَّماوي في شعره على عدّة أغراض، يذكر بعضا،منها:

لي الآن سبب آخر

يمنعني من خيانة وطني:

لحافٌ سميكٌ من ترابه

تدثرت به امي ..(32)

فأسلوب الرفض كان للإمراض الاجتماعية في الشعر العربي، بشكل عام والشعر العراقي الحديث بشكل خاص ليس غريبا علينا، وإنما الغريب هو ما يحرّك المشاعر والأحاسيس، ويصوّرها في أجمل واصدق تصوير الى درجة استمالة الجماهير، وكسب ودّها وتعاطفها، لاسيما قرب الشاعر من التجربة، وخوضها في المنافي، والحنين الى الوطن بعد الغربة والتشرد، وهواجس الخوف والقلق، التي سافرت مع الشاعر طيلة رحلته الشاقة في مقاومة السلطة سلميا .

فكان شاعر الرفض للانصياع للمغريات، والعروض، التي ربّما تغير مسارات واتجاهات الشاعر الفكرية أو الوطنية . ولكننا نلحظ العكس،  إذ انَّ الشاعر على  الرغم من الفقر، والجوع والحرمان،والتعب والقلق، والنفي والغربة الا انَّه حافظ على رسالته الوطنية والاخلاقية،وبقي صاحب رسالة سامية، وهو يقاوم بكلِّ ما أؤتي من قوّة وصبر، فالفقر والجوع والعوز والحرمان، عواملٌ تتسبب في خيانة الأوطان إلا إنَّ السَّماوي كسَر هذه القاعدة، فهو اكتفاءٌ ذاتي وجودي يرفض العدم، بما ناله من وطنه الذي يكفيه أن يكون لحاف سميك تدثرت به أمه، فمنعه من الخيانة للوطن، ويعبّر في موضع آخر من قصيدة "ركض في منفى الشمس "عن حبه للوطن بقوله:

1-رفض مغادرة الوطن:

ياذا الحزن الأنيق والأناقة الحزينة

انت لست جثة

فلماذا تسكن قلبي

قلبي الذي دفنت فيه وطني

وطيور أحلامي القتيلة ؟

وحده فأس الموت

يقتلع الأشجار من جذورها

بضربة واحدة(33)

لقد جاء نداء المضاف اليه، ضمن جملة المقابلة التي تضمنت تضادا سيميائيا رمزيا في طياتها (حزن انيق / اناقة حزينة)، خلق صورة تراجيدية، لما يعانيه من كبت وسكت، وحرمان، وآهات تشتعل في صدره مواقد حطب لسنيه،فيتساءل مستغربا عن هذا الحزن، الذي استوطن قلبه منذ عقود وعقود، لماذا يسكن قلبه وقد دفن فيه وطنه الذي يحبّه وطيور أحلامه القتيلة.

ففي هذه اللوحة السيميائية التراجيدية الحجاجية، يحاول الشاعر أن يطرح تساءلا وجوديا عدميا في نفس الوقت، تساءلا لوجود الحزن الانيق المرافق له، وبين عدمية العودة الى الوطن وطيور الطفولة.

فلفظة " دفنتُ " اشارة واضحة الى العدمية بعد يأس الشاعر من خلق الفرح وتجاوز الحزن، وعودة الشاعر الى الوطن الذي أُبعد عنه قصرا، وصار بالمنفى يتغنى بحبّه وذكرياته . وهذا صراع سيكولوجي عّبر عن هواجس القلق، والخوف في غشاوة وحرارة الغربة، التي مثّلت له كلّ شيء كان ماضيا جميلا، استحال الى عدم .

وفي الختام يعلن عن تشبثه بوطنه، معرباً عن أن الموت وحده الذي يستطيع اقتلاع جذور وطنه مِن قلبه المفعم بحبّه .

ولفظةُ  "فأس" اشارةٌ حجاجية واضحة على إنَّ الفأس رمز للقوة الغاشِمة والغاصِبة والمدمِّرة والهاتِكة والقاصمِة، فضربته قاتلة وقادرة على اقتلاع الجذور، فقد اختار هذه اللفظة، لأنه يريد أن يقول إنَّ الجذور لا يمكن أن تقتلع بسهولة ما لم تأتِ بقوّة قدرية طبيعية وجودية أكبر منها او فوق منها.

وهكذا يعبّر عن اسلوب الرفض ايضا ما بين ضربات الفأس الموجعة، ومقاومة الجذور ورفضها للموت على يد الفأس، ويعني كذلك السلطات التي تحاول اغتياله بالقوّة والغدر لتخلع من قلبه حبَّ الوطن بالقوّة .وهذا المشهد الدرامي غاية الروعة، اذ مثل صراع الوجود والعدم في ملحمة الكون والطبيعة والانسان، وهو صراع الخير والشر ايضا .

 

د. واثق الحسناوي - جامعة المثنى

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم