صحيفة المثقف

حاتم جعفر: وجه الزعيم ودورة القمر

حاتم جعفر(صفحات مجتزئة من عمل سردي طويل)

 على نحو مفاجىء وعلى غير عادته، توارى حميد الخياط عن الأنظار وليس له من أثر يُذكر ولبضعة أيام. وعلى الرغم من قلة فترة غيابه فقد باتت ثقيلة على مقربيه ومريديه، لذا راحت اﻷسئلة تتوالى من هنا وهناك.صحيح انه اختار في الفترة الأخيرة الحد من لقاءاته وتردده على المقهى لإعتبارات وجدها ضرورية، الاّ إنَّ صدى صوته وآراءه ومماحكاته كانت تُسمع وبوضوح، حتى وإن كان غائبا.

 فالرجل وبإ`تراف أبناء حيّه بمن فيهم مَنْ يدعي عدم إرتياحه لحضوره، فقد كان شاغلهمِ ومالىء أوقاتهم بل وأحد مصادر سلواهم، لما يحمله من أفكار وآراء مُلفتة للنظر وجاذبة للأنتباه، حتى وإن لم تَرُقْ لهم كثيرا. أول من تنبَّه الى تغيّبه أو غيابه هو ابو وعد النادي، صديقه القديم والمستأجر الجديد لمقهى الحي، حيث إتخَذ من هذه المهنة مضطرا باب رزق، بعد أن تم إحراق بستانه السخي، الوافر العطا، والمسترخي على كتف نهر المدينة الكبير، وعلى يد حفنة من مأجوري وأزلام العهد البائد،  يوم كانوا متسلطين على دست الحكم.

 ليلة حميد الخياط الأخيرة في مقهاه العتيد، لم تمضِ على خير، إذ كانت وبشهادة ما رواه روادها الأصلاء والدائميون، حامية الوطيس، حيث شهدت حوارات صاخبة، تقلبت وتنقلت بين اتجاهات ومواضيع شتى. غير انَّ أكثرها سخونة والذي تركَّز حولها النقاش في تلك الأمسية وتمحور، هو ما أدّعاه أحد الحاضرين وببرودة أعصاب يُحسَد عليها، برواية مفادها: بأن الله قد حباه بمكرمة ما بعدها مكرمة، فكلما تطلَّع في القمر حين إكتماله، سيجد صورة الزعيم، شاخصة أمامه، معلقة هناك، وهي ترفل بالزهو وبهيبة الحضور. لِمَ لا فهو زعيم البلاد المفدى والذي راح غدرا، دافعا ثمن قربه من الناس وما يشتركان به من حب متبادل. كان حاميا لهم ومحافظا على أرواحهم من شر العداوات ومن كل سوءٍ قد يتهددهم. وإذا كنّا قد نسينا فكيف لنا أن ننسى تلك الليالي الحالكات، والتي عصفت بالبلاد وكادت أن تشعل حربا أهلية، أطرافها مجاميع حمقى، كل منها أراد جر العباد حيث الفوضى، وبذريعة إحتكاره صواب الرأي ورجاحة العقل وما يتبعه.

 ثم يضيف ذات الشخص الذي أنف ذكره: وكي أكون أكثر دقة في الوصف وللتوضيح كذلك، فإن دورة القمر ستأخذ شكلاً يطابق وجه الزعيم وليس العكس. (هنا لم يكن المتحدث دقيقا في وصفه، فَوَجهُ زعيمه المفضل يميل الى الطول). أما ضحكته وبشاشته والكلام لا زال له، فلا تفارقانه أبداً حتى وإن غاب القمر. وكلما تقدمت خطوة، فستقابلك تلك الكتلة الضوئية المعلقة في السماء بخطوة مماثلة، مساوية لها بالضبط إن لم تزد عليها، تقديراً وتبجيلا وإكراما لمقامه ومكانته. انَّهما (القمر ووجه الزعيم)خُلقا هكذا كأنما يأبيان الإفتراق عن بعضهما البعض.

 ثم يمضي صاحب الرأي ليزيد على ماذكره  وبلغة لا تخلو من تحدٍّ وإصرار وقناعة لا تدانيها قناعة: إذا كان لدى البعض منكم ما يساوره ولو قليل شك فيما أقول، فبإمكان أي واحد منكم، الخروج معي الآن، ما دمنا في منتصف الليل والفرصة سانحة للتحقق من ذلك فالقمر في بدره، ولترون بأم أعينكم زعيمنا المفدى بكامل قيافته وبزته العسكرية وعنفوانه. ويمكننا أن نصطحب معنا من الشهود مَنْ تشاءون، حتى لو كان من بينهم مَنْ إختلفَ أو كان عدواً أو حاقداً على الجمهورية الفتية وعلى مفجرها المغوار، إبن الشعب.

 مِن بين الجلاس مَن أقلقهم الأمر وراودتهم بعض من الأسئلة وبداوفع لا تخلو من فضول وإستطلاع، لذا قرروا الخروج مع الخارجين ليتحققوا بأنفسهم وبالعين المجردة من تلك المزاعم، وفيما إذا كانت حقاً صورة زعيم بلادهم الراحل معلقة، ليتجهوا بأنظارهم صوب السماء، متلفتين على مختلف الإتجاهات، فكلما تحرك القمر تحركوا معه، بل راح أحدهم وللتأكد مُخرجا من جيبه ضوءه المتنقل (اللايت)، والذي عادة ما يستعين به حين عودته الى البيت ليلا، ومروره بأزقة ضيقة جدا تفتقر الى الإنارة الكافية، وليحركه بشكل دائري، وصولا الى تثبيته بمواجهة القمر.

 وبسبب من حجم الزحام والتدافع على رؤية القمر وهو مُشِعٌ  بوجه الزعيم، فإنَّ (هدَّو) كاد أن يسقط في نهر خريسان المحاذي تماماً للمقهى، بعد أن وجد نفسه ولكي يلحق بركب الباحثين عن وجه الزعيم، مضطرا  على إعتلاء سياج النهر وماسيرافق ذلك من إرباك  وترنح. كذلك ما شكلته شجرة اليوكالبتوس المطلة، الوارفة والمتدلية على النهر من عائق، َفوَّتت عليه فرصة رؤية صورة الزعيم بشكل أوضح. بالمناسبة فإنَّ (هدَّو) كان حذرا بعض الشيء هذه المرة، مستفيدا من تجربة صديقه الذي يزيده قصرا، والذي عادة ما يتسابق معه في الوصول الى ما يبتغيه، حيث سقط اﻷسبوع الماضي في نهر خريسان، أثناء عملية البحث التي قام بها وآخرون معه، عن وجه الزعيم.

 الطريف في الأمر أن من خرجَ للتثبت من الإدعاء المذكور، أخذ في البحث عما يدعم أوهامه، بنشاط وحيوية منقطعي النظير وبإصرار تام ولا تراجع عنه. فإذا ما صادف على سبيل المثال أن مرَّت غيمة خاطفة وغطَّت قليلاً من وجه القمر، يبادر أحدهم بالقول، إنظروا ها قد بدأت تظهر بعض من معالم  بزته العسكرية، فها هي أزرار قميصه الخاكي، ثم يمضي مضيفاً: أترون معي السيفين المتعاكسين والنجوم المتلألئة على كتفيه، كم تبدو مشعة وبريقها ألمع من نجوم السماء، وسيتبعها حتماً ظهور وجه الزعيم. أو يقول آخر ممن يحمل ذات الرأي والإعتقاد، سبحان من صوَّرك، كم هي جميلة ابتسامتك وضحكتك. دققوا معي في الوجنتين، يقول لمن برفقته، ففيهما الرصعتان دلالة حُسنه وجماله، أمّا الشاربين فقد خُطّا بكفاءة ودقة عاليتين لتبدوان كالقلم، ولا تليق الاّ به وبشخصيته العسكرية المنضبطة والفذة. الى آخر الأوصاف والتشبيهات التي أخذت تُطلق بعفوية وبراءة بل وبسذاجة.

 وبعد إن إنتهت ما يمكن تسميته بحفلة رؤية الزعيم في القمر، عادوا أدراجهم الى المقهى ولتعود معها النقاشات ثانية بعد أن بلغ الوقت قرابة الواحدة فجرا أو ما يزيد. منهم مَنْ إطمأن الى رؤية الزعيم وقطع الشك باليقين وأشبع فضوله. ومنهم مَنْ لم يصل الى قناعة كافية، تزيل من حجم الظنون التي راودته رغم كل ما قُدِّم له وعلى يد الطرف اﻵخر من (أدلةٍ دامغة وقاطعة).

 في كل الأحوال إنقسم الحاضرون الى جبهتين غير متكافئتين، تراوحت بين المكذّب والمصدّق، الاّ انَّ إحدى الكفتين مالت أكثر وبشكل صريح الى الجهة التي تعتقد بل وتجزم ان صورة الزعيم معلقة في السماء ولا ريب في ذلك، شاء من شاء وأبى من أبى. وراح دعاة هذا الرأي يتهامسون في ما بينهم وبما يشير أو لنقل تأكدهم من تفوقهم على الطرف المغاير.

 في حين فضَّل قسم ثالث أن يقف على الحياد بين الرأيين، وليقرر مغادرة المقهى والإنسحاب على عجلٍ، ففي ذلك الموقف ما يعتقدونه خيراً لهم، وهذا ما جاء على لسان أحدهم، قائلاً: لسنا مُجبرين على الإصغاء الى أحاديث لا طائل منها، (ولا توكّل خبز)، ولا تحميهم أيضاً من البرد القارص الذي يوشك أن يطرق أبوابهم وأجسادهم وفي أية لحظة.

 ولولا صاحب المقهى أو مستأجرها ابو وعد النادي، وتدخله في الوقت المناسب وحكمته في التصرف وأخذه لزمام الأمر، وكذلك تهديداته المتكررة لهم بغلق المقهى، لكانت الأحاديث وتقاطع اﻵراء وما قد يصحبها من (زعل)، مصدره كل اﻷطراف المتحاورة، لكانت المناكفات والمماحكات قد إستمرت وعلى ذات المنوال وحتى بزوغ فجر يوم جديد.

***

حاتم جعفر

السويد ـــ مالمو

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم