صحيفة المثقف

أولغا توكارشوك: يانتي

2848 توكارشوكبقلم: أولغا توكارشوك

ترجمة: صالح الرزوق


 يمضي أشير روبين في الظلام، عبر باحة بيت إليشا الموحلة، حيث تم ذبح إوزة للتو، بعد تربيتها طوال فصل الصيف، وكانت معلقة ورأسها للأسفل. دخل من بوابة ضيقة واشتم رائحة البيض المقلي مع البصل، وسمع صوت طحن فلفل في هاون يأتي من مكان ما. النساء صاخبات دوما في المطبخ. وكان الهواء البارد مختلطا بتيار من البخار القادم من هناك، ويصدر عن الأطباق المحضرة للطعام. وبعدها فاحت رائحة الخل، وجوزة الطيب، وأوراق الغار. ومعها عبير اللحم الطازج الحلو والمسبب للدوار. هذه الروائح تجعل هواء الخريف يبدو أبرد وأدعى للامتعاض. وكان الرجال وراء الحواجز الخشبية يتكلمون بمزاج عدواني كأنهم يتجادلون. وبإمكانه أن يسمع أصواتهم ويشم رائحة شمع الإنارة والرطوبة المتغلغلة في ثيابهم. كان البيت مزدحما لدرجة الانفجار. مر أشير بأولاد. لم ينتبه له الصغار منهم، كانوا مستغرقين بالتحضير للحفلة. وعبر بباحة ثانية، وكانت ضعيفة الإضاءة، ينيرها شعلة واحدة. وعند أعتاب الباب، مر بيهودا المخمور، وكانت كل العائلة تناديه ليب. والحق يقال اسم روبين ليس روبين أيضا. إنما هو أشير بين ليفي.

والآن في هذه العتمة الخفيفة تجمع الضيوف، كل الأسماء تبدو سائلة لحد ما، يمكن التبديل بينها، كما لو أنها شيء ثانوي. وفي النهاية لا يوجد مخلوق فان يتمسك باسمه لفترة طويلة. دون أي كلمة قاده يهودا بعيدا في أعماق البيت وفتح بابا يفضي لغرفة صغيرة حيث هناك نساء صبايا تعملن، ولمرأة عجوز مستلقية في سرير قرب الموقد، كانت تتكئ على وسائد، ولها وجه جاف شاحب. حيته النساء بحمية وتوزعن حول السرير، بفضول واستعداد للمراقبة.

كانت يانتي صغيرة ونحيلة، مثل دجاجة مسنة، وبجسم متهالك. كان قفص أضلاعها الرقيق يعلو وينخفض بسرعة فائقة. وفمها نصف المفتوح محاط بشفتين رقيقتين جدا، وممصوصتين للداخل. ولكن عينيها السوداوين تابعتا حركات الطبيب. كان يتفحص المشاهدات المنتشرات في أرجاء الغرفة. ثم رفع الغطاء ونظر لكل جسمها. كان بحجم طفلة، ونظر ليديها المنحوتتين من عظام وهما تتمسكان بحبال وأشرطة جلدية. كانت مربوطة حول رقبتها داخل جلد الذئب. فقد اعتقدن أن جلد الذئب يجدد طاقة وقوة الإنسان. وفكر أشير: كيف سيتمكن من جر هذه المرأة العجوز بما تبقى لها من حياة ضعيفة في داخلها؟. كانت تبدو أشبه بثمرة فطر قديم ممزق. ووجها الأسمر تحدد ملامحه كيفما اتفق أضواء الشمعة، فتبدو صورة غير بشرية. وتولد إحساس لدى أشير أنها سريعا سوف تكون شيئا لا يمكن تمييزه عن بقية عناصر الطبيعة - لحاء شجرة، خشب متيبس، حجرة خشنة. لم يكن هناك شيء غريب في رغبتها بحضور عرس أقاربها، باعتبار أنه سينضم أيضا أبناء عم من مورافيا ومن لوبلين النائية.       

جلس أشير القرفصاء بجوار السرير المنخفض واشتم مباشرة ملوحة العرق البشري ثم - فكر لدقيقة من الوقت، محاولا تحديد نوع الرائحة - ورأى أنها رائحة تفوح من الأطفال. في عمر يانتي، تكون رائحة الإنسان مثل رائحة الطفل مجددا. كان يعلم أن هذه المرأة لا تعاني من شيء - بل هي ببساطة تحتضر وتموت. فحصها بعناية ولم يجد شيئا غير التقدم بالعمر. كان قلبها ينبض بخفوت وبلا انتظام، كما لو أنها منهكة. وكانت بشرتها نظيفة غير أنها رقيقة وجافة، مثل رقعة ورق. وعيناها زجاجيتان وغائرتان. وصدغاها يغوصان للداخل أيضا، وهي بالتأكيد إشارة على الانحدار للموت. وفي حلقها، تحت قميصها غير المزرر بإحكام، يمكنه رؤية بعض الخطوط والعقد. لامس إحدى قبضتي المرأة العجوز المضمومتين، فقاومته قليلا، ثم، كما لو تملكها الخزي، تفتحت يدها كزهرة الصحراء. وفي راحتها وجد قطعة من الحرير، مغطاة بكاملها بحروف عريضة: ש״ץ (*شاتز). وبدا تقريبا أن يانتي تبتسم له بفمها الأدرد. وبعينيها الغائرتين السوداوين اللتين تعكسان بريق الشمعة المشتعلة.

وشعر أشير كما لو أن هذا الانعكاس يأتيه من مسافة بعيدة، من أعماق غير مقدرة يمتلك مثلها كل البشر. سأله إليشا فجأة وهو يقتحم ذلك الفضاء المزدحم:”ما خطبها؟. ما خطبها؟”. 

نهض أشير ببطء ونظر لوجهه المضطرب. قال:”ماذا تعتقد؟. هي تموت. لن تعيش حتى يوم الزفاف”. أجاب وجه أشير روبين دون كلام: لماذا أتوا بها إلى هنا وهي بهذه الحالة؟. قبض عليه إليشا من كوعه وجره جانبا. قال:”لديك طرقك التي لا نعرفها. أليس كذلك؟. من فضلك أنجدنا يا أشير. اللحوم أصبحت جاهزة، وقشرنا الجزر. ونقعنا الزبيب في الأطباق. والنساء ينظفن القريدس. ألا ترى عدد الضيوف الكبير؟”. قال روبين: “لكن قلبها يدق بصعوبة. ليس بيدي شيء. ما كان يجب حملها على القيام بهذه الرحلة”. وبدماثة حرر كوعه من قبضة إليشا شور وتوجه إلى الباب.

باعتبار أن يانتي هي أكبر الموجودين بالعمر، كل من حضر الزفاف عمد لزيارتها أولا. وتدفق الضيوف نحو غرفتها الصغيرة في البيت الثاني والموجودة في نهاية المتاهة، وعلى الطرف المقابل من شارع المقبرة، ولذلك توجب عليهم المرور بباحة إضافية.  واختلس الأطفال النظر من شقوق في الجدران - لا يزال يوجد وقت لسدها قبل موسم الشتاء. أما هايا ابنة إليشا فقد جالستها لبعض الوقت. وضعت يانتي يدي هايا على وجهها، ولمست عينيها، شفتيها، وخديها - وشاهد الأطفال ذلك. ثم ربتت على رأسها. أحضرت لها هايا حصتها، وقدمت لها حساء الدجاج لتشربه، وأضافت له ملء ملعقة من دهن الإوز، وعركت يانتي شفتيها الجافتين والرفيعتين بعد أن انتهت، ولكن الدهن لم يمنحها القوة الكافية لتنهض. وما أن وصل المورافيان سلمان زالمان وشنايدل، زوجته اليافعة، أسرعا لزيارة خالتهما المسنة. استغرقت الرحلة من برون قرابة ثلاثة أسابيع للوصول، واضطرا للمرور من زلين وبريشاو، ثم دروبيش، ولكن الخطة لم تتضمن العودة من نفس الطريق. فقد هاجمهما بعض الجناة الهاربين في الجبال، وتوجب على زالمان أن يدفع فدية كبيرة - ومن حسن حظهما أن الجناة لم يسلبوا كل شيء يحملانه. وقررا العودة من كراكوف، قبل هطول الثلوج. كانت شنايدل حاملا بطفلها الأول، وللتو أخبرت زوجها بالنبأ. وغالبا ما كان ينتابها الدوار.  

ولم يكن ينفع أن يحييها عبير القهوة والبهارات لحظة الدخول إلى دارة شور الكبيرة، أو في المتاجر. وكذلك لم تعجبها رائحة يانتي العجوز. كانت تخشى من هذه المرأة، بثيابها المربكة وشعرها المنسدل على ذقنها كما لو أنها حيوان بري. في مورافيا تبدو سحنة النساء المسنات مرتبة ومريحة - تلبسن قبعات منشاة ومآزر نظيفة. واقتنعت شنايدل أن يانتي ساحرة. وخافت من الجلوس على طرف سريرها، رغم إلحاح الجميع أن تفعل ذلك. كانت تخاف أن تمرر العجوز شيئا لجنينها. شيئا مسحورا. جنونا مطبقا. وحرصت أن لا تلمس أي شيء في الغرفة الصغيرة. ولم تتوقف رائحة الغرفة عن إلحاق الغثيان بها. وكان أقاربها المنتسبون إلى بودوليا يظهرون لها بمظهر ضار ومتوحش.

وفي النهاية دفعوا شنايدل نحو المرأة العجوز، فقبعت على طرف السرير، متأهبة للفرار في أية لحظة. كانت تنبعث منها رائحة الشمع - فقد كانت تشم بالسر الشموع المشتعلة - ومعها رائحة الطين الممزوج بروث الجواد، أضف له الآن كما تعلم الفودكا. وكان زالمان أكبر منها بشكل واضح، ببنية متينة وبطن منتفخة، وهو بأواسط العمر وله لحية، ومعتز بزوجته الجميلة، التي يقدم لها بين كل لحظة وأخرى جرعة من الفودكا. تذوقت شنايدل الشراب ولكن لم تتمكن من ابتلاعه. ولفظته على الأرض. وعندما جلست الزوجة الشابة، مدت يانتي يدها من تحت جلد الذئب ورمتها على بطن شنايدل. لم تكن بطنها منتفخة، لكن أمكن يانتي أن ترى الروح الثانية التي تسكن في جوف شنايدل، روح لا تزال غير واضحة. ويصعب وصفها لأنها تضاعفت. هذه الأرواح الحرة والفريدة توجد في كل الأرجاء، بانتظار الفرصة لتقبض على شيء لا نملكه. والآن هي تتقمص كتلة صغيرة، تبدو قليلا أشبه بشرغوف، مع ذلك لا يوجد شيء مادي و ملموس فيها، مزق فقط، أخيلة وظل. ويتغلغلون فيها، ويجربونها. الأرواح تتشكل من خطوط: صور وتراكم وذكريات أفعالنا، وشظايا عبارات لم تكتمل، وحروف. لم تشاهد يانتي كل ذلك من قبل بهذا الوضوح. و إن شئت الحقيقة لم تشعر شنايدل أنها تشارك في هذا الإحساس بذلك الحضور - كما لو أن دستة من الأيدي الغريبة تضغط عليها، كما لو أن مئات الأصابع تلمسها. ولم تكن تريد أن تلجأ لزوجها - وفي كل حال لم تكن لتجد الكلمات المناسبة.  جلس الرجال في غرفة منفصلة، واجتمعت النساء في غرفة يانتي، التي اتسعت لهن بصعوبة.  

وبين حين وآخر يأتي شخص بالفودكا من المطبخ، فودكا الزفاف، بطريقة شبه سرية، مثل مهرب، ولكن طبعا هذا أيضا، كان جزءا من اللعبة.

وكان المحتشدون والمتأهبون للحفل، ينسون أنفسهم و يبدأون بالتهريج، ولم يكن يبدو أن ذلك يقلق المريضة يانتي - وربما سرها أنها مركز هذا المرح. أحيانا يسترقون منها نظرة، مرتبكة مغمورة بمشاعر الذنب وهي تغط بغيبوبتها، ثم بعد لحظة تستيقظ وعلى وجهها ابتسامة طفولية. منحت شنايدل هايا نظرة معبرة، حينما مهدت هايا جلد الذئب للمرأة العجوز، ولفت وشاحها حول رقبة يانتي، ولاحظت القلادات التي ترتديها - جيوب جلدية صغيرة مربوطة بخيط، قطع خشبية صغيرة تحمل كتابات رمزية، أشكال منحوتة من العظام. ولم تجرؤ هايا أن تلمسها. فالنساء تنقل عنها حكايات مرعبة - أشباح، وأرواح مفقودة، وأشخاص يفنون وهم أحياء، ولعنات شريرة. قالت تزيبا، امرأة مثقفة، وزوجة المسن نوتكا:”لو علمنا عدد الأرواح الشريرة التي تحشر نفسها في نقطة دم منا، سنتوجه جميعا قلبا وقالبا لخالق هذا العالم”.

سألت واحدة من العجائز بهمسة مرتعشة:”وأين هي هذه الأرواح؟”. حملت تزيبا عصا من الأرض المتسخة وأشارت لطرفها وقالت:”هنا!. هنا موجودة كلها. انظرن جيدا”. حدقت النساء بطرف العصا، وطرفت عيونهن بطريقة مضحكة، وبدأت إحداهن تقهقه، وبضوء الشموع القليلة المشتعلة شاهدن ظلين أو ثلاثة، ولكن لم تقع أنظارهن على أية روح.

في الليل حينما ذهب الجميع للنوم، خط أليشا شور وهو يكتب بضوء الشموع الحروف التالية على رقعة صغيرة من الورق: המתנה, המתנה, המתנה (تهيأ، انتظار، انتظار) 

Hey-mem-tav-nun-hey . Hamtana. انتظار.

وقفت هايا بثوب النوم الأبيض، وتابعت دائرة غير مرئية مرسومة بالفراغ حولها. والآن حملت رقعة الورق فوق رأسها. ووقفت بهذه الطريقة لفترة طويلة. كان فمها يتحرك. ونفخت على الورقة عدة مرات، ثم لفتها بعناية فائقة ودستها في إسطوانة خشبية بحجم الإبهام. وانتظرت هناك لفترة طويلة، صامتة، رأسها منكس، ثم فجأة مصت أصابعها ومررت شريطا من ثقب في التميمة، التي مررتها لوالدها. وانزلق أليشا والشمعة بيده من البيت الغارق بالنوم والذي ينبعث منه الشخير، وعبر من الممر الضيق، للغرفة التي تنام فيها يانتي. وجمد عند الباب يصغي. ولم يزعجه أي شيء سمعه هنا، ثم فتح الباب بحذر، واستسلم له الباب بطواعية دون أي ضجة، وشاهد مساحة مزدحمة مضاءة بضوء خفيف يأتي من فانوس زيتي. كان أنف يانتي الحاد شامخا للأعلى، نحو السقف، ويلقي ظلا صامدا على الجدار. وتوجب على أليشا المرور من الممر كي يضع التميمة فوق رقبة المرأة المحتضرة. وحينما مال عليها، خفق جفناها، وتجمد أليشا في منتصف حركته، ولكن لم يكن هناك شيء. كانت بوضوح تحلم. كانت أنفاسها خفيفة جدا لدرجة لا تشعر بها. ربط أليشا نهاية الشريط ومرر التميمة تحت ثوب نوم العجوز. ثم استدار على رؤوس أصابعه واختفى بهدوء كما جاء. وعندما انخفض نور الشمعة في شقوق الخشب، فتحت يانتي عينيها، وبيد ضعيفة، لمست التميمة. كانت تعلم المكتوب عليها. قطعت الشريط، وفتحت الأنبوب، وابتلعت قطعة الورق كأنها حبة دواء. وتابع الخدم القدوم لغرفة يانتي الصغرة والمزدحمة يحملون معاطف الضيوف. ألقوها ناحية أقدام السرير. وعندما شرعت الموسيقا تعزف، كان من العسير أن تشاهد يانتي تحت أكوام الملابس، وفقط عندما أتت هايا رتبت الأوضاع، ونقلت المعاطف إلى الأرض. انحنت هايا على خالتها المسنة وأصاخت السمع لتنفسها، كان يبدو أضعف من نسمات تصدر عن خفقات أجنحة فراشة. لكن قلبها كان ينبض. كانت هايا محمرة قليلا بفعل الفودكا، وقد ضغطت أذنها على صدر يانتي، وفوق تجمع التمائم، والخيوط، والأشرطة، وسمعت دقات خفيفة، بطيئة، نبضات متباعدة تعادل تباعد أنفاس يانتي. نادت هايا بهدوء:”بابكيا يانتي”. وتولد عندها شعور أن عيني العجوز نصف المفتوحتين خفقتا، وتحرك بؤبؤاها، وأن شيئا شبيها بابتسامة ارتسمت على شفتيها. كانت ابتسامة شاردة - غير مستقرة، أحيانا زوايا فمها ترتفع، وأحيانا تنخفض، ثم بدا الموت على يانتي. كانت يداها دافئتين، وليس باردتين، وبشرتها ناعمة وشاحبة. سرحت هايا شعر يانتي، فقد ظهر من تحت منديلها. ثم مالت على أذنها قالت:”هل أنت معنا؟”. ومجددا ظهرت تلك الابتسامة من مكان مجهول وشقت طريقها على وجه العجوز. ولم تستمر إلا دقيقة ثم اختفت. ونبه هايا من بعيد صوت أقدام تقرع الأرض، فقبلت العجوز من خدها الدافئ وأسرعت للرقص.

من غرفة يانتي لا يمكنك أن تميز الألحان بشكل واضح، فقد حجزتها الجدران الخشبية، والممرات الملولبة التي تحول كل نغمة إلى دمدمة خافتة. وكل ما بوسعك أن تسمعه هو صوت خبط خطوات الرقصات، ومن حين للآخر زعقات عالية. شعرت يانتي بالفضول لتعرف ماذا يجري هناك. وأدهشها أنها انزلقت من جسمها وأصبحت معلقة فوقه، ونظرت لوجهها بعينيها، كان متخاذلا وشاحبا، ويغمره شعور غريب، وسرعان ما انجرفت بعيدا، وانزلقت مع تيار الهواء، وذبذبات الأصوات، ومرت بلا صعوبة من خلال جدران وأبواب خشبية. وأصبح باستطاعة يانتي أن تشاهد كل شيء من أعلى، ثم عادت نظراتها إلى تحت جفنيها المطبقين. وهكذا مرت بقية الليلة. تطير وتخمد. تجتاز الحدود وتعود. وأتعبها ذلك. لم تبذل جهدا كما هو حالها الآن، ولا حتى حينما كانت تعتني بالحديقة. ومع ذلك لم يكن الطيران والسقوط يخلوان من المتعة. الشيء الكريه الوحيد هو تلك الحركة، الهامسة ولكن المصممة، والتي حاولت أن تجرها لمكان بعيد، لما بعد الأفق، تلك القوة، الغريبة والفظة، والتي يستحيل مقاومتها، أو منعها بالتمائم التي تحمي جسمها من الداخل، وتعكس مفعولها. شيء غريب - طارت أفكارها في أرجاء المنطقة. قال صوت ما في رأسها:”الريح”. ولا شك أنه صوتها. الريح هي رؤيا الأموات حين يتأملون العالم الذي أتوا منه. كانت تريد أن تقول إلى هايا: ألم تشاهدي حقلا من الأعشاب، كيف الأوراق تنحني للأسفل وتتباعد؟. هذا لأن شخصا ميتا يراقبها. إذا أحصيت عدد الأموات ستلاحظين أنهم يتوفوقون بالعدد على الأحياء. أرواحهم مطهرة، باعتبار أنهم مروا بعدة أطوار من الحياة، والآن ينتظرون المسيح، الذي سيظهر لينهي مهمته. وهم يتابعون كل شيء. ولهذا السبب تهب الريح على الأرض. الريح هي نظرتهم التي ترعى حياتنا.

بعد لحظة من التردد الاضطراري، انضمت للريح التي تطير فوق بيوت روهاياتان بمساكنها الصغيرة المتواضعة، فوق العربات المتجمعة في ساحة السوق على أمل مرور زبون، وفوق المقابر الثلاثة، وفوق الكنائس الكاثوليكية، والمعبد اليهودي، والكنيسة الأرثوذوكسية، وردهة روهاياتان - ثم تابعت، وهي تخشخش بين الأوراق المصفرة التي تغطي التلال، في البداية دون نظام، وبعشوائية، ولاحقا، كما لو أنها كانت تتعلم كيف ترقص، ضاعفت من سرعتها على ضفاف الأنهار طوال الطريق حتى بلغت دنيستير. وهناك تمهلت. فقد غلت الدهشة يانتي حينما شاهدت التعرجات العجيبة التي يتبعها مجرى النهر، تعرجاته مثل خطوط حرف ג (جيميل) وحرف ר (راش). ثم تابعت فوق الحدود التي ارتطمت بالنهر لتقسم بلدين - مع أن يانتي لا ترى ببصيرتها مثل هذه الحدود. ووجدت يانتي نفسها في الريف، قرب بريزيجاني. هذا هو اليوم الذي حملتها أمها به. واليوم فقط يمكنها الشعور بذلك. بهذه الحالة الغريبة وجدت يانتي نفسها، فهل هي قادرة على تبديل الأشياء قليلا؟. التأثير باتجاه الأحداث؟. هل يمكنها ذلك؟. لو بمقدورها ستبدل هذا اليوم بالتحديد.

شاهدت امرأة شابة تمر عبر الحقول ومعها سلة بيدها، وفيها إوزتان. كانت رقبتاهما تتحركان مع إيقاع خطواتها، وعيونهما المستديرة تنظر حولهما بثقة تألفها الحيوانات الأليفة. واقتربت دورية فرسان قوزاق وجاءت قفزا من الغابة، وكانت تكبر كلما أمعنت النظر بها. وأصبح الوقت متأخرا على الهرب. وقفت المرأة مرعوبة، وغطت وجهها بالإوزتين. وحاصرتها الجياد. وأحكمت الحصار. ترجل الفرسان كأنهم في مهمة، وجرى كل شيء بسرعة، وبصمت. ألقوها بهدوء على العشب، سقطت السلة، وخرجت منها الإوزتان، لكن لم تبتعدا، كانتا تنفخان قليلا، وبهدوء، يشبه التهديد والتحذير أنهما شاهدتان على ما يجري. قبض اثنان على الجياد، وفك الآخر حزام سرواله المجعد والعريض واستلقى فوق المرأة. ثم تبادلوا الأدوار. الثاني كان أسرع من سابقه كأنه توجب عليه أداء هذه الحركات بتسرع. ولم يكن توجد إشارة تدل على استمتاع الرجال بذلك. كانت بذورهم تنسكب في المرأة ثم تنثال على العشب. الأخير ضغط على رقبتها، واستسلمت المرأة لفكرة أنها ستلقى حتفها.  لكن الآخرين قدما له زمام جواده، وعاد الرجل على صهوة حصانه. نظر إليها دقيقة إضافية، كأنه يريد أن يتذكر ضحيته. ثم ابتعدوا بسرعة. استغرق الحادث عدة دقائق. جلست المرأة وساقاها مفتوحتان، والإوزتان الخجولتان تنظران لها، وتقرقران بعدم رضا. بقطعة من معطفها مسحت ما بين ساقيها، ثم اقتلعت بعض الأوراق والأعشاب. وأسرعت للجدول ورفعت تنورتها عاليا وجلست في الماء، لتطرد كل الكائنات المنوية من داخلها. واعتقدت الإوزتان أنها تشجعهما، وترنحتا نحو ضفة النهر. وقبل أن تعزما على السباحة، وتلجما إفراز الأنسرين، أعادتهما المرأة إلى السلة. وعادت لطريقها. وأبطأت عندما اقتربت من القرية، وأصبحت خطواتها أضعف، ثم توقفت، كأنها بلغت حدودا غير مرئية. هذه أم يانتي. وهذا هو السبب الدائم لمراقبة ابنتها عن مقربة، في النهاية، كبرت يانتي واعتادت على نظرات أمها، نظرة الشك التي تأتي من مكان جلوس أمها عند الطاولة وهي تقوم بواجب ما، أو وهي واقفة تقطع الخضار، أو تقشر البيض المسلوق، أو تنظف الأواني. 

كانت أمها تحرسها كل الوقت مثل ذئب، مثل كلب مستعد ليغرس أنيابه في حلقها. ومع الزمن، بدأت تظهر رواسب من أثر هذه الحراسة: ارتفاع بالشفة السفلى، حتى كادت أن تلمس أنفها - ليس تعبيرا عن الضغينة أو الغضب، لكنها مرئية قليلا، وغير ذات أهمية. وتذكرت كيف أن أمها، وهي تسرح شعرها في أحد الأيام، وجدت وحمة سوداء فوق أذنها وتفاءلت بها. قالت لوالد يانتي:”انظر. لها وحمة بنفس مكان وحمتك، ولكن على الطرف الآخر. كأنها انعكاس بالمرآة”. وأصغى الوالد بذهن شارد. لم يكن يشك بأي شيء طوال حياته. وتوفيت أم يانتي وبقي سر وفاتها معه. ماتت وهي ترتجف بغضب. لا بد أنها كانت مثل وحش ضار. كانت يانتي مولودها الحادي عشر. وسماها أبوها يانتي، ويعني “هي التي أذاعت الأخبار”، و"هي التي تعلم الآخرين”. ولم يكن لدى والدتها قوة للعناية بها - كانت هشة بالروح والجسد. وكبرت يانتي في حضن النساء الأخريات اللواتي كن تتجولن في أرجاء البيت - أبناء العم، خالة، ولبعض الوقت، جدتها. وكانت تتذكر كيف كانت أمها تتخلى عن قبعتها في المساء - وهكذا يمكن ليانتي أن ترى من فوق وعن مقربة، شعر أمها البائس، وهو مشذب جدا، لينمو على جلدها الرقيق وغير المعافى.

ليانتي ستة أخوة أكبر منها، سافروا إلى يشيفا، لكن في الوطن، نسخوا فقرات من الكتاب المقدس بتأن بينما هي تنتظر عند الطاولة التي جلسوا عليها، فقد كانت يافعة جدا ولا يمكن أن تقوم بأعمال نساء ناضجات.

كذلك لديها أربع أخوات أكبر منها، إحداهن متزوجة. وتم بذل جهود محسوسة لتزويج الثانية. أما أبوها فقد تعرف على اهتمامها وطاقاتها بما يخص الحروف الهجائية، واعتقد أنه يمكن أن يعرضها عليها مثل صور صغيرة، مثل جواهر ونجوم. الألف المحبوب، مثل صورة مخالب الهرة. شين، مثل قارب بشراع مصنوع من الخشب الذي يطفو على الماء. لكن يانتي التي تعرف متى وكيف، تعلمت الحروف بطريقة مغايرة - بطريقة تساعدها سريعا على صناعة الكلمات. ضربت أمها يديها بعنف مفرط، كما لو أن يانتي تعالت كثيرا. لم تكن أمها تعرف كيف تقرأ. لكن كانت تصغي بحبور حينما يكون والد يانتي في بعض المناسبات، أو في مناسبات متكررة حين يكون أبراميك المشلول، وهو من الأقارب البعيدين، يروي للنساء والأولاد حكايات من كتب مكتوبة باليديشية. كان أبراميك يفعل ذلك دائما بصوت بسيط، كما لو أن الكلمات المكتوبة بطبيعتها تقبل الحزن والرثاء.       

كان يبدأ في الظلام الباكر، مستعينا بنور الشمعة الخفيف، وهكذا يتابع القراءة، ويظهر في البيت في الأمسيات حينما تكون القرية تحت وطأة أحزان القبالة التي لا تحتمل. فقد كان يوجد منهم عدد قليل في تلك الأيام. وقد احتفظ الناس بذكريات تلك الأحزان بنفس الطريقة التي أغرم بها البعض بالفودكا. والجميع يغلب عليهم الحزن الأسود ويصبحون جاهزين للنواح والشفقة. ثم يلمسون بأيديهم كل شيء رواه أبراماك، ويحنون لشيء ملموس - ولكن لم يكن هناك أي شيء منه. كان العجز فظيعا. ويتبعه اليأس العميق. كل ما حولهم ظلام وبرد ورطوبة خانقة. في الصيف، غبار وأعشاب يابسة وحجارة. أين كان كل ذلك، ذلك العالم، تلك الحياة؟. أين كانت الفردوس، وكيف يمكننا أن نصل؟. بالنسبة ليانتي الصغيرة كانت كل أمسية تتخللها تلك القصص تبدو خانقة، ومظلمة، وغير نفوذة، ولا سيما إذا قال إبراماك المشلول:”من الشائع أن الفضاء في العالم مليء بالأشباح والأرواح الشريرة، التي تتكاثر من خطايا البشر. فهي تطفو وتسبح في الهواء، كما هو مسجل تماما في الزوهار. كان علينا حراستها والتستر عليها ونحن بالطريق إلى المعبد، ولذلك كان علينا أن نفهم المكتوب في الزوهار، بالتحديد أن مصادر التهديد تنتظرك في طريقك من الجهة اليسرى، فقد كانت الميزوزا محفوظة على الجهة اليمنى، وعلى الميزوزا تجد اسم الله، شاداي، وهو يتكفل بإلحاق الهزيمة بمصادر الضرر. وهذا وحده يفسر معاني الميزوزا:” وشاداي سيكون واقفا على عتبة باب بيتك”. أشاروا برؤوسهم علامة الموافقة. هذا شيء نعلم به. الجهة اليسرى. ويانتي تعلم هذا. همست أمها تقول:”هذا الفضاء مملوء بالعيون”. وجعلتها تدور حول نفسها مثل دمية من القماش تريد تبديل ثيابها.

“إنهم يراقبونك. فكري بطلبك، وسترد الأرواح فورا. كل ما عليك أن تتحلي بالقدرة على الاستفسار. ولتجدي تلك الأجوبة التي تتلقينها: في الحليب الذي سال منك بشكل حرف ساميخ، بشكل أثر حافر الحصان المشابه لحرف شين. اجمعي، اجمعي هذه الحروف، وسريعا ستقرأين الجملة كلها. أين الفن بقراءة كتاب كتبه الإنسان بينما كل العالم كتاب وضعه الله، حتى طريق الغضار يقود إلى النهر؟. انظري إليه. ريش الإوز أيضا، والحلقات الجافة في خشب ألواح السور، والصدوع في الغضار الذي نشيد منه جدران المنازل - هذا بالضبط هو مثل حرف الشين. أنت تعرفين كيف تقرأين، إذا اقرئي يا يانتي”.

كانت تخاف أمها، وكيف. هي امرأة رفيعة وصغيرة، وكانت تتمتم دائما شيئا، ودائما باحترام. “ناشزة” هذا ما كان يقول عنها كل أهل القرية. وذهنها يتبدل بسرعة ولا تعرف يانتي إذا كانت أمها، ستجلسها في حضنها، وتقبلها وتحضنها أو تعصر كتفيها بقوة وتهدهدها. ولذلك فضلت أن تبتعد عن طريقها حسب. كانت تراقب يدي أمها النحيلتين وهي تودع آخر قسط من مهر عرسها في الصندوق المحكم الإغلاق - فقد جاءت من أسرة كريمة المحتد وثرية من يهود السيليزيان، ولكن لم يتبق من تلك الثروة إلا القليل. وقد سمعت يانتي والديها ينوحان على سريرها، وعلمت أن والدها يلاحق الديبوك (*روح شريرة لدى اليهود) الذي تقمص أمها، وهذا شيء أسره لنفسه ولم يعلنه لبقية العائلة. 

في البداية حاولت أمها أن تهرب منه، لكنها أخذت نفسا عميقا، مثل شخص يغمر نفسه في الماء البارد، في ميكفاه، الماء المثلج (*اسم طقس الغمر بالماء عند اليهود)، حيث يمكنها الاختباء من الشيطان. وحينما كانت يانتي في فاقة ومجاعة راقبت بالسر ذات مرة أمها وهي تأكل حصص الجميع - كان ظهرها منحنيا، ووجهها مسترسلا، وعيناها فارغتين. كانتا سوداوين ولا يمكن ملاحظة البؤبؤين فيهما. وعندما بلغت يانتي العام السابع من عمرها، توفيت أمها أثناء الولادة، مع الطفل الذي لم يكن يقوى على شق طريقه من داخلها. وبالنسبة لتفكير يانتي كانت تراه دايبوك (روحا شريرة)، أكلته أمها حينما سرقت الحصص المقدرة للبقية، ولم يتمكن الوالد من طرده خلال أوقات الشدة تلك. فقد وجد دايبوك في معدة أمها مخزنا لها ولم يرغب بمغادرته.

والموت - كان هو العقاب.  

في الصباح حينما كان الجميع ينامون بعد الزفاف في كل زاوية من البيت، وحينما أصبح الغبار في الغرفة الكبيرة بعد أن وطأته الأقدام يبدو ترابا، دخل إليشا شور لغرفة نوم يانتي. كان متعبا، وعيناه محمرتين. جلس بقربها على السرير، وتأرجح للأمام والخلف، وهمس:”انتهى كل شيء يا يانتي. يمكنك أن ترحلي. لا تغضبي لأنني تركتك لفترة طويلة. لم يكن لدي بديل”. ثم ببطء سحب من تحت رقبتها حفنة من الخيوط والأشرطة الجلدية، ونظر لواحد منها على وجه التحديد، ثم مررها واحدا بعد الآخر بين أصابعه. وافترض أن عينيه المرهقتين لم تلاحظا ذلك. كرر ذلك عدة مرات - وعدّ التمائم الصغيرة، والأكياس والجيوب الجلدية وأقراص العظام التي عليها تعازيم. الجميع يتحلى بها. لكن النساء المسنات مثل يانتي ترتدينها بشكل خاص. لا بد أنه تتواجد عدة عشرات من الملائكة تطير حول يانتي، ومعها أرواح حارسة، وكائنات أخرى، لا يمكن تسميتها. ولكن قلادته المسحورة لم تكن موجودة. وجد الخيط المربوط بها فقط، وكان محلولا، وبلا أي شيء يتعلق به. لقد اختفت القلادة المسحورة - التميمة. لكن كيف حصل ذلك؟. تصلب أليشا شور، وأصبحت حركاته عصبية. وبدأ يتفحص العجوز. رقدت يانتي هناك مثل كلب، دون حراك، وابتسامتها تتوسع على وجهها، نفس الابتسامة التي لاحظتها ابنته هايا سابقا.  

جر جسمها المستلقي وبحث تحت ظهرها، وتحت وركيها، وكشف كل أجزاء يانتي الهزيلة، قدميها العظميتين الضخمتين، واللتين برزتا من تحت تنورتها. وفتش في ثنايا قميصها، وتأمل راحتيها، وفي الختام، بمزيد من الرعب، بحث في وسادتها، في الملاءات، اللحاف، الغطاء، وتحت السرير وحوله. كيف أمكن ذلك؟. كان مشهدا هزليا، هذا التفتيش الملحاح لسرير امرأة مسنة وبيد رجل ناضج، كما لو أنه أخطأ بها واعتقد أنها شابة وكان يحاول بخراقة أن يتعلق بها.

قال لها بهمسة ثاقبة:”هل ستخبرينني بما سيحصل يا يانتي؟”. كان كأنه يكلم طفلا ارتكب خطأ فادحا، ولكنها، طبعا، لم تستجب، ارتعش جفناها فقط، وتحركت مقلتاها لطرف للحظة واحدة، ثم لطرف آخر، وارتعشت ابتسامتها قليلا، بشكل غير واضح تقريبا، لكن لم تذهب من شفتيها.

سألت هايا أباها:”ماذا كتبت عليها؟”. كانت نائمة بقميص النوم ومنديل على رأسها، وقد جاءت تركض بعد أن ناداها. كان إليشا مضطربا، والتجاعيد على جبينه تتحول لتموجات متتالية وناعمة جذبت نظرات هايا. هكذا دائما يكون شكل أبيها حينما يشعر بالذنب.

قال:”تعلمين ماذا كتبت. كنت أمسك بظهرها”.

“هل علقتها حول رقبتها؟”.

أومأ والدها برأسه.

“من المفروض أن تضعها في علبة مقفلة يا والدي”.

تنهد والدها بيأس وقالت هايا:“أنت مثل الأطفال”. وفورا شعر بالتحسس والغضب. “كيف يمكنك ذلك؟. ضعها حول رقبتها فقط؟ حسنا، أين هي الآن؟”.

“إنها ليست في أي مكان. لقد اختفت”.

“لا شيء يختفي هكذا”. وبدأت هايا التفتيش، ولكنها سريعا انتبهت أن لا جدوى من ذلك.

قال:”لقد اختفت. لقد بحثت”.

قالت هايا:”أكلتها. ابتلعتها”.

ارتعش والدها بصمت. ثم قال بمزيد من اليأس، والقنوط يرتفع مع صوته:” لن تموت الآن”. وظهر تعبير واضح يدل على الصدمة والشك على وجه هايا. ثم ببطء أصبحت دهشة. ضحكت بهدوء في البداية، ثم بصوت أقوى وأقوى، حتى ملأ هدير عميق الغرفة الصغيرة وتفجر من الجدران الخشبية. غطى والدها فمه بيديه. الورقة التي ابتلعتها يانتي استقرت في المري قرب قلبها. وبللها لعابها. والحبر الأسود المحضر بطريقة خاصة ذاب الآن، وفقدت الحروف شكلها. ضمن الجسم البشري الكلمة انشطرت لاثنتين: المادة والجوهر. وعندما يتلاشى الأول، الثاني يستسلم دون شكل، وربما يمتصه نسيج الجسم، باعتبار أن الجوهر دائما يبحث عن ناقل في المادة - ولو أن هذا هو السبب لعدد من المناسبات السيئة. ذات يوم ستفهم يانتي أن الأجسام مثل الأوراق، هي مستودع النور، لفصل واحد، لعدة شهور. ثم تسقط ميتة وتجف، وتطحنها العتمة وتحولها لغبار، حتى إذا إذا جاهدت الأرواح داخلها بكل قواها لتجديد دورة الحياة والدخول بدورة تقمص جديدة.

والآن، وهي مستلقية ومغطاة حتى رقبتها بجلد الذئب، ابتسمت يانتي ببساطة، وهي تعلم أنها خدعت الجميع.

***

.........................

* الترجمة عن البولونية: جينيفر كروفت. منشورة في النيويوركر عدد 13 أيلول 2021.

* أولغا توكارشوك  Olga Tokarczuk  كاتبة بولونية. حازت على نوبل. من أهم أعمالها “رحلات”2018،” بيت النهار، وبيت الليل” 2003، “الروح المفقودة” 2021....

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم