صحيفة المثقف

مصعب قاسم عزاوي: آفاق الإعلام البديل

مصعب قاسم عزاويالإعلام البديل هو جهد في المجال الإعلامي يقوم به أفراد أو مجموعات محدودة من الأفراد المستقلين عن مراكز الثقل والسلطة والثروة ويهدفون من خلاله لتشكيل وعي مغاير لما تسعى بشكل دائم وسائل الإعلام المتسيدة تأصيله في المجتمع، وهو يمثل جهداً ضرورياً لا بد على كل قادر على القيام به من الانخراط به بأقصى طاقة يستطيع عليها حتى لو كان ذلك محدوداً في تقديم دعم معنوي أو مادي محدود لأولئك الذين يقومون بجل العمل الإعلامي البديل.

والحقيقة الواقعة تختلف من الناحية السياقية فيما يتعلق بقدرة الإعلام البديل على إحداث تأثير ما ذي وزن نوعي تراكمي قابل للصمود في المجتمعات الاستبدادية ذات النظم الديموقراطية التمثيلية الشكلية أو تلك الفجة منها كما هو الحال في عالمنا العربي، حيث أنه من الناحية النظرية هناك ضمان قانوني لحرية التعبير والكلام في نظم الديموقراطيات الشكلية تتيح من الناحية الافتراضية هامشاً وثغرات في جدار الهيمنة الإعلامية لمراكز السلطة والثروة، والتي في الواقع يصعب تحققها فعلياً في ضوء شح الموارد المالية، ونفور المعلنين عن الإعلان في أي من أقنية الإعلام البديل لتناقض مصالحهم الإجمالية مع مقول وسائل الإعلام البديل، وهو ما يمكن معاوضته بشكل جزئي ومحدود جداً عبر الكم المهول من الاجتهاد والدأب الذي يقوم به الأفراد المنخرطون في جهد عملية إنتاج محتوى ورسالة الإعلام البديل بالاعتماد على مصادرهم الذاتية المحدودة جداً، والدعم المحدود الذي يحظون به من أفراد آخرين مؤمنين برسالة الإعلام البديل عبر تبرعات معظمها مجهري لا يغطي النفقات المهولة التي يتطلبها أي عمل إعلامي يطمح للوصول إلى شريحة واسعة من المتلقين. وذلك النموذج من التوازن مثل المقدمة التي أنتجت الكثير من محاولات الإعلام البديل على أصعدة كثيرة في العالم الغربي تراوحت بين المجلات والمواقع الإلكترونية، وبعض البرامج الإذاعية التي لا يتجاوز جمهورها بضع مئات أو آلاف في أحسن الأحوال. وهي جهود تستحق الثناء والتقدير دائماً، والذي لا يغير من حقيقة هشاشتها لعدم تمكنها من الوصول إلى شرائح أوسع في المجتمع جراء ضعفها البنيوي وجراء شروط العمل الإعلامي في المجتمع التي تم تصميمها أساساً لتكون على قد أهداف ومصالح الفئات المهيمنة في المجتمع والقادرة على الإنفاق الضروري لتوطيد هيمنتها في المجال الإعلامي كجزء ضروري من إمساكها الكلياني بتلابيب السلطة و الثروة و صناعة المعرفة في المجتمع الذي تتغول عليه.

والمعادلة الأخيرة تصبح كجلجلة سيزيف ومهمات هرقل المستحيلة إلا لهرقل نفسه حينما يتطلب من الإعلام البديل العمل في مناخ هيمنة الفساد و الإفساد للنظم الأمنية على الطريقة العربية و ما كان على شاكلتها على المستوى الكوني، حيث أنه في نظم الاستبداد الفج ليس هناك أي رادع للضرورات الإخراجية يقتضي منها احترام حرية التعبير والكلام حتى ولو شكلياً، بالإضافة لانخفاض عتبة تحسس كل الطغاة والمستبدين بشكل هذياني لكل ما يحتمل أن يكشف وجههم الدميم على حقيقته، وهو ما يفصح عن نفسه بالأعداد المهولة من الصحفيين الناشطين الأباة الذين لم ينصاعوا لمقتضيات الاستبداد فكان مآلهم التغييب في سراديب آلات القمع البربرية للنظم الاستبدادية بالاستناد إلى أي تهمة جاهزة من قبيل التخابر مع جهات معادية، أو غسيل الأموال، أو التهرب الضريبي، أو حتى تمويل ودعم الإرهاب. وذلك كله جعل من أي محاولة لتحقيق أي شكل، حتى لو كان جنينياً من الإعلام البديل المؤثر في عملية تكون الوعي الجمعي في المجتمع مسألة شبه مستحيلة في مجتمعات النظم الاستبدادية الفجة. وقد يستثنى من ذلك وسائل وأقنية الإعلام البديل التي يديرها المهجرون المنفيون من أوطانهم من الدول التي اضطروا للهجرة إليها، وهي اجتهادات جديرة بالتقدير على الرغم من ضعف قدرة تأثير أي منها لعدم توطنها في مجتمعها مما يحد من قدرتها على زيادة عديد المتطوعين المنخرطين للعمل في مشروعها، ويتركها غالباً في خانة الاعتماد على جهود وإمكانيات أفراد محدودين، لا يحتمل في غالب الأحيان أن يتمخض نتاجهم عن تأثير ذي وزن نوعي.

والنقطة الأهم في هذا السياق والتي تحتاج دائماً إلى إعادة التشديد على أهميتها المرهفة ألا وهي الواجب الأخلاقي الثابت وغير القابل للتغاير بتغير الظروف والأحوال والمتمثل في ضرورة قيام كل من هو قادر على دعم أي مشروع للإعلام البديل بما هو قادر عليه سواء بالمساعدة المباشرة أو الدعم المعنوي أو المادي، نظراً لأن ذلك هو الرافعة الوحيدة المتاحة لتأصيل وعي بديل في المجتمع وفق توازن القوى المختل بين الفئات المهيمنة على مصادر السلطة والثروة والإعلام وتلك الفئات المستضعفة في المجتمع، والتي يجب أن لا تتخلى عن طموحها في التغيير مهما كانت العقبات في طريق تحقيق ذلك الطموح صعبة.

ومن ناحية أخرى لا بد من الإشارة إلى أهمية تبني نموذج خطاب «الوما» الذي أسس لنهجه المعاصر الأستاذ طيب تيزيني، والذي يستند إلى أن «اللبيب من الإشارة يفهم»، وأن كل عاقل هو لبيب حاذق حتى لو لم يقدر له التعرف على تلك الميزة في نفسه لظروفه الموضوعية أو حتى الذاتية. وهو ما يقتضي تبني الإعلام البديل لنموذج من الخطاب المُسَرْبَلِ دائماً بتلاوين التورية والخطاب المضمر ما بين السطور، والذي لا يقلل من أولوية مجابهة الطغاة وفقأ أعينهم بحقيقتهم البائسة، ولكنه تكيف ضروري لكي لا يتحول العمل في ميدان يتعلق بالشأن العام ومنه الإعلام البديل إلى انتحار لا طائل منه على مستوى تحقيق كسب ذي وزن نوعي في ميدان تأصيل الوعي الاجتماعي البديل بضرورة الحراك الاجتماعي المنظم والدفاع المستميت عن حقوق المستضعفين بأنفسهم وأجسادهم ومآقيهم التي بتجمعهم وانتظامهم معاً فقط تستطيع مقاومة «مخارز» جلاديها وبصاصيها وعسسها وطغاتها ومستبديها.

 

مصعب قاسم عزاوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم