صحيفة المثقف

محمود محمد علي: تحالف "أوكوس" وبداية حرب باردة جديد بين أمريكا والصين (2)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن تحالف "أوكوس" واحتمالات بداية حرب باردة جديد بين أمريكا والصين، وهنا نقول: وللتوضيح فنحن نتحدث عن غواصات تعمل بالطاقة النووية، وليست غواصات تحمل أسلحة نووية، ولكن ليس عن هذه هو ما تقصده الدول الثلاث من الصفقة، وإنما تتحدث عن غواصات لا تحمل أسلحة نووية، ولكنها تعمل بالطاقة النووية،فكثير من جيوش العالم لديها غواصات، لكن معظم هذه الغواصات تعمل بالطاقة التقليدية (البترول ومشتقاته)، وهذه الغواصات يكون من مهامها إما مهام تجسسية، ومهام عسكرية، ولكي تقوم بالمهمتين، فإنها في حاجة أن تظل تحت المياه أطول فترة ولأبعد مسافة ممكنة . أما عندما تعمل فقط بالطاقة التقليدية، فهذا يضع قيوداً علي قدرات هذه الغواصة، وذلك لكونها في حاجة دائمة للتزود بالوقود، وهذا الأمر يضع قيوداً على عمل الغواصة، وذلك لكونها باستمرار في حاجة دائمة للتزود بالوقود .

أما عندما تعمل الغواصة بالطاقة النووية، فهذا يعني أن لديها مفاعل صغير مبني فيها، وهو قادر علي أن يمدها بالطاقة لفترات طويلة جداً، ومن ثم تستطيع أن تعمل لشهور طويلة دون الحاجة للعودة إلي قواعدها والتزود بالوقود، ومن ثم فهي تستطيع أن تعمل لشهور طويلة، وعلي مسافات بعيدة جدا، حيث إن التكنولوجيا هي التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في هذا النوع من الغواصات يمكنها من أن تكون سريعة وقادرة في تنفيذ مهامها علي المناورة والتخفي ويصعب تعقبها، ومن ثم فهذا تطور درامي في دعم القدرات البحرية الأسترالية .

كذلك من الأسباب الذي جعل صفقة الغواصات تحظي بأكبر قدر من الاهتمام حين تابع العالم الاتفاق العسكري بين الدول الثلاث، علاوة علي أن التكنولوجيات أنواع والحلفاء أنواع، فالولايات المتحدة الأمريكية كما هو معرف لديها تكنولوجيات عسكرية كثيرة، ولديها حلفاء كُثر، لكن ليس كل الحلفاء سواء، وليست كل التكنولوجيات سواء ؛ فهناك تكنولوجيات تعتبرها الولايات المتحدة حساسة ولا تشاركها مع أحد، حتي مع أقرب حلفائها، وهذا النوع من التكنولوجيا يمثل تكنولوجيا حساسة، ولم تكشفه لأحد  إلا لدولة واحدة وهي بريطانيا وذلك عام 1958م، ومنذ ذلك وهذه التكنولوجيا لم تذهب لأي دولة أخري مهما كان قربها من أمريكا .

وللآن فإن أستراليا سوف تكون الدولة الثانية في العالم التي تستفيد من هذه التكنولوجيا الأمريكية الحساسة، والأمر الثالث والذي يجعل من هذه الصفقة محل اهتمام هو أن يبدأ التحالف بتمكين أستراليا من هذا النوع من الغواصات ليكشف بشكل لا لبس فيه من أن الهدف من التحالف هو مواجهة الصين عسكريا إذا تطلب الأمر، خاصة والولايات المتحدة تستشعر في الأيام الأخيرة بأن الصين في مسعاها علي منطقة بحر الصين وعلي منطقة نفوذها البحرية تبني استراتيجيتها العسكرية كما يعتقد الأمريكان علي فكرة تطوير أسلحتها التقليدية والنووية بأنها ستستخدمها لضرب أو إغراق أي سفينة أو حاملة طائرات أمريكية أو غير أمريكية يمكن أن يسعي للتدخل في هذه المنطقة من العالم في حال وجود أي صراع .

إلا أن ما تجده الصين في الصعوبة في التعامل معه هو وجود غواصات تعمل بالطاقة النووية، وقادرة علي العمل لشهور طويلة، ويصعب تعقبها، ومزودة بقدرات صاروخية متطورة تستطيع أن تلحق أضراراً ضخمة بالجيش أو الأسطول الصيني، ومن ثم فهذا تطور خطير يكشف بشكل لا لبس فيه عن الاستراتيجية الأمريكية في التعالم مع الصين، وذلك في حالة وقوع أي عدائيات، أو في ردعها عن القيام بأي سبب يدعو الولايات المتحدة للتدخل معها عسكرياً، ومن ثم فعلي الصين أن تُعيد استراتيجيتها العسكرية بشكل كبير .

كذلك فإن صفقة الغواصات النووية أدت إلي إثارة غضب دولة تعد واحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة، ألا وهي " فرنسا"، حيث أن صفقة الغواصات الأمريكية –البريطانية مع أستراليا، جعل الأخيرة تتراجع عن صفقة شراء الغواصات الفرنسية، والتي اعتبرتها فرنسا طعنة للظهر وخيانة للثقة، هكذا أجمعت مواقف وزارتي الخارجية والدفاع الفرنسيتين على وصف تراجع الحكومة الأسترالية عن عقد توريد غواصات  فرنسية بقيمة ثلاثة وأربعين مليار دولار..

في معرض تفسيره لقرار إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية، ذكر رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون أنه أشار للرئيس الفرنسي ماكرون قبل عدة أشهر إلى تغير البيئة الاستراتيجية المحيطة ببلاده، وملمحاً بطريق غير مباشر إلى عدم فاعلية الغواصات التقليدية الفرنسية لمواجهة أعباء تلك البيئة الجديدة.

وهنا يلمح أمرين د. حسن أبو طالب؛ أن إدراك أستراليا بخطر الصين بات كبيراً يتطلب مواجهته الاعتماد على قوة أكبر من قوة فرنسا، والثاني أن التكنولوجيا العسكرية الفرنسية هي أقل كفاءة لمواجهة التحدي الصيني البحري الآخذ في النمو بمستويات عالية. والبعد الثاني تحديداً يفسر حجم الغضبة الفرنسية الرسمية، لأنه يمس الصناعات العسكرية الفرنسية إجمالاً، وليس فقط صناعة الغواصات، ناهيك عن فكرة استبعاد فرنسا من منظومة الأمن في المحيط الهادئ، أو على الأقل تخفيض مستوى حضورها في تلك المنظومة الصاعدة.

وفي الاتجاه ذاته لم تخف باريس امتعاضها من دور الولايات المتحدة في قرار كانبيرا، فانتقد وزير خارجيتها جون إيف لودريان ما اعتبره مضي البيت الأبيض في اتباع نهج الرئيس السابق دونالد ترامب.. كما ألغي حفل سنوي دأبت سفارة باريس في واشنطن على تنظيمه احتفاء بدعم فرنسا لحرب استقلال الولايات المتحدة؛ وعلى الطرف الآخر رحبت أستراليا بامتلاك تقنيات عسكرية متقدمة وفق معاهدة "أيوكوس" الدفاعية التي تؤسس لتحالف جديد في منطقة المحيط الهادئ، بينما اعتبرت الصين صفقة الغواصات تهديدا للسلام والاستقرار الإقليمي.

ولذلك لم يُكتب للرئيس الأمريكي بايدن أن يتم شهر العسل التاسع مع الأوربين، ومن النافذة الباريسية هبت رياح شرقية  أثارت ما تحت الرماد، حيث فرضت صفقة الغواصات الأسترالية فصلا جديدا من التوتر علي مشهد لطالما توقعت فرنسا له للنهايات .

لم يمر التحالف الأمريكي – البريطاني – الأسترالي، مرور الكرام، رغم أنه مهم من حيث الهدف الإسراتيجي وكذلك من حيث استهدافه للمحيطين: الهادي والهندي، لمواجهة الصين، وكبح جماحها في تلك المنطقة الجارية المهمة، والتي تضم كما قلنا بحر الصين الجنوبي، لكن إلغاء صفقة الغواصات النووية الفرنسية من طرف أستراليا، كان محطة فاصلة في رؤية الأليزية لما يجري، وبناء عليه جاءت الانتقادات من فرنسا حادة ولاذعة، فهذا وزير خارجية فرنسا يصف بعض الحلفاء بالكذب والخيانة ويصف ما حدث كما رأينا بأنه طعنة في الظهر، ولأنه طعنة في الظهر صرح الوزير، فقد قررت باريس بأن تدير ظهرها للأمريكا وبريطانيا وأستراليا، وتتوجه إلي الأتحاد الأوربي لتطلب موقفا موحداً في مواجهة اختلال التوازن الذي سببته صفقة الغواصات الأمريكية، وهذا الاختلال الذي تتحدث عنه باريس قد يؤثر علي استراتيجيات حلف الناتو – هكذا تقول فرنسا، والتي لم تُشر علناً إلي نيتها الإنسحاب من الحلف، علماً أن ماكرون ذاته قد قال في وقت سابق:" إن الناتو في غرفة الإنعاش"، ودعا ماكرون لإحداث تغييرات في شكله ومضمونه .

وبين ما يحدث ذلك تتشاور فرنسا مع سفرائها في الولايات المتحدة وأستراليا، بعد أن قامت باستدعائهم في حدث هو الأول في تاريخه علي مستوي السياسة الفرنسية الخارجية، كما أن الأيام المقبلة ستشهد اتصالاً هاتفياً بين الرئيسين: الأمريكي والفرنسي لبحث الأزمة وآخر تطوراتها، وبدورها تقول الولايات المتحدة بأنها تخطط لإجراء محادثات مع كبار المسؤولين الفرنسيين خلال الأيام المقبلة، ومن خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في محاولات لتهدئة عاصفة دبلوماسية بشأن إتفاق أمنها الجديد مع أستراليا .

ولذلك يرى المراقبون أنه من الضروري أن لا تؤدي هذه الأزمة إلى إعادة فرنسا النظر في سياستها في المنطقة، وهي التي كانت تحاول اللعب على المستويين الإقليمي والدولي، لما تملكه من قواعد عسكرية، والقيام بعلاقات مميزة مع دول المنطقة مثل الهند وأستراليا واليابان، كما أن على فرنسا أن تنأى بنفسها عن الوقوع في شرك الخلافات السياسية والتوترات الأمنية والعسكرية القائمة بين الصين والولايات المتحدة، ويرى المراقبون أنه من الأفضل لكل من الدولتين تجنب الوصول إلى نقطة اللاعودة، خصوصا في ظل التوترات السياسية والعسكرية في المنطقة، ونتيجة لذلك، فقد انتقدت الصين هذه الشراكة الاستراتيجية بالقول إنها شراكة غير مسؤولة وتلحق أضرارا جسيمة بالأمن الإقليمي والدولي، وتكثف سباق التسلح النووي، وإن أستراليا ستكون ضمن الدول المستهدفة في حال وقوع حرب نووية نظراً لما ستمتلكه من غواصات تعمل بالوقود النووي، وقد تكون قادرة على حمل صواريخ نووية عابرة للقارات.

ونتيجة لهذه الأزمة وقيام تحالف “أوكوس”، قد يتجه العالم إلى المزيد من التوترات السياسية والتحديات العسكرية والصراعات الأمنية، ما ينتج قيام تحالفات إقليمية ودولية جديدة تراعى فيها مصالح الدول العظمى مع الدول المطلة على المحيطين الهندي والهادئ للسيطرة على المنطقة والحد من تمدد الطرف الآخر.

ولذلك تطرح تساؤلات كبيرة اليوم حول مصير الحلف الأطلسي ومستقبل العلاقات بين اوروبا والولايات المتحدة وتأثير كل هذه التغيرات على الملفات الساخنة في العالم. ويرى البعض ان أزمة الغواصات ليست سوى القطرة التي أفاضت الكأس، فالانسحاب الامريكي الآحادي من أفغانستان شكّل بداية مرحلة من التذبذب والفتور في العلاقة بين باريس وواشنطن. ويعتبر البعض ان باريس ترى في التحالف الجديد الأمريكي الاسترالي البريطاني منافسا شرسا لها في منطقة تمتلك فيها نفوذ ومصالح هامة في المحيطين الهادئ والهندي، اذ لفرنسا نحو مليوني وآلاف الجنود في عدة جزر فرنسية.

صحيح ان هناك مخاوف مشتركة فرنسية أمريكية من تمدد النفوذ الصيني ولكن بناء تحالف أمني جديد يؤكد الخلاف في رؤية الطرفين للعلاقة مع العملاق الصيني ذلك أن باريس لا تريد اثارة المزيد من الأزمات او المواجهة في حين أن بايدن يرى بان تحالفه العسكري بمثابة تصعيد لا بد منه وتأهب للمواجهة القادمة مع بكين في مختلف المجالات.

وفي خضم كل ذلك، تزداد المخاوف من اندلاع حرب باردة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتي كانت الى حد قريب ميدان تنافس اقتصادي محموم بين مجموعة الدول السريعة النمو والآن يهدد نموذج «عسكرة الصراع» المنطقة برمتها. فقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من احتمالية اندلاع حرب باردة، ودعا الصين والولايات المتحدة إلى إصلاح العلاقة المختلة تماما بينهما قبل أن تنتشر المشكلات بين الدولتين الكبيرتين والمؤثرتين بشكل كبير فى باقى أنحاء الكوكب. على حد قوله. وأشار في حواره مع وكالة أسوشيتدبرس الأمريكية، الى إن القوتين الاقتصاديتين الهائلتين ينبغي أن يتعاونا في قضايا المناخ والتفاوض بشكل أكثر قوة حول التجارة والتكنولوجيا حتى في ظل استمرار الخلافات السياسية حول حقوق الإنسان والاقتصاد والأمن الإلكتروني والسيادة في بحر الصين الجنوبي. ودعا الى إعادة تأسيس علاقة ناجحة بين القوتين.

ولا يخلو تحالف «أوكوس» من مفارقات؛ أبرزها ازدواج المعايير ومخالفة مبدأ منع الانتشار النووي، والذي تعتبره واشنطن أيقونة سياسية استراتيجية تستخدمها في مواجهة القوى المتصادمة معها. والثاني أن سياسة بريطانيا في زمن «بريكست» والميل الحاد ناحية واشنطن، سوف يمثلان عبئاً كبيراً على الأمن الأوروبي من جهة، وعلى التفاعلات داخل الناتو من جهة ثانية. وهو ما يتطلب معالجة أخرى أكثر تفصيلاً.

لذلك يؤشر «تحالف اوكوس» الأمني إلى انقسام جديد في العالم خاصة مع احتدام التنافس المحموم بين الصين والولايات المتحدة والذي يتجاوز المجالات الاقتصادية والمالية والأمنية الى المجال العسكري بكل ما يمثله ذلك من مخاطر على العالم الذي يعيش منذ أكثر من عقدين حروبا بالوكالة في أكثر من منطقة في العالم.

 

د. محمود محمد علي

......................

الهوامش

1- د. حسن أبو طالب: تحالف «أوكوس»... خطوة أخرى لمحاصرة الصين، صحيفة الشرق الأوسط، الثلاثاء - 14 صفر 1443 هـ - 21 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15638]

2-سيد جبيل:  ماذا يعنى التحالف الثلاثي الجديد لأمريكا وبريطانيا وأستراليا؟.. يوتيوب.

3-أزمة الغواصات الفرنسية تعصف بتحالفات بايدن.. أي مصير ينتظر التحالف؟ - دائرة الشرق.. يوتيوب.

4-أحمد محرم: تحالف أوكوس.. هزة محسوسة في العلاقات الغربية واستياء آسيوي بالغ.. هل تعيد الشراكة الأمريكية البريطانية الأسترالية زمن الحرب الباردة وسباقات التسلح؟،  السبت 18/سبتمبر/2021 - 09:09 م.

5-قاسم روعة: «تحالف أوكوس» بين واشنطن ولندن وكانبيرا ... من «شراكة أمنية» إلى «تغييرات كبرى» في التحالفات الدولية.. 21/09/2021.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم