صحيفة المثقف

علي الجنابي: تَنُّوُرُ أمّي

علي الجنابيإيهٍ يا عَجُوزَ الرِّيفِ أمّاهُ، ورغمَ عيشكِ في بغدادَ دهراً وتغيّرِ الأحوالْ!

رَحِمَكِ الرَّحمنُ، يا بنتَ جدّي ويا فحلاً في بَطنِ أُنثى دونَ إختلالْ!

ليتَكِ تعلمينَ أنَّ ذِكرَ رَسمِكِ يُصَيِّرُ مُتوني رَضيعاً فَتَزحُرُ جَلَلاً رَغمَ لَهيبِ الشَّيبِ بإشتعالْ، ورغمَ رَهيبِ ما جرى في الدّهرِ بعدَكِ من أهوَالْ، وأنَّ فِكرَ هَمسِكِ يُحَيِّرُ عُيوني فتَدحُرُ بَلَلاً مُحتَقَناً يأبى هطولاً ومُحالْ، فَتَرينَ مُقلةَ العَينِ -يا أمَيمَةَ- تَطحَرُ فتَنحُرُ نَحْنحةً تَتَصَنَّعَ بها نوبةً من سعَالْ، وَتَرينَها في الخلواتِ تُخَيِّرُ الكَتِفَيْنِ أيّكما يهوى تَمَتّعاً بدمعٍ جارٍ وسَيّالْ؟

أتَذَكَّرُ إذ وَلَجتُ الدّارَ يوماً، وإذ هيَ حَذوَ تنُّورِها تَقِفُ مُحاطةً بِحطبٍ وأدغَالْ، فدندنتُ لها بِلينِ حرفٍ دندنةَ مُداهنٍ أو حنحنةَ مُتعجرُفٍ مُحتالْ؛

" دعْ تنّوُرَ أمّي! لا تَقرَبْهُ! وذَرُ التَسَلّطَ أيا والداً مُتَكَبِّراً مُتَعالْ"؟

فإلتَفَتَتْ أميمَتي إليَّ بإمتِعاضٍ وبإنفعالْ، فرَمَقَتنيَ بِنظرةٍ كادَ خافقي منها أن يَختَلَّ أو يغتَالْ، فزمجرَت وهي قائِلةٌ بِنَبَراتٍ ثِقالْ؛ "حَقيقٌ على أبيكَ على ألّا يكونَ إلا مُتَكَبِّرٌ مُتَعالْ، وجَبّارٌ عليكَ وبإذلالْ.

ويْ! أَإنَّكِ لأنتِ أمّي؟ أجل، إنّها هيَ وتلكَ هي فظاظةُ ألحانِها بعينِها ولا جِدال...

أوَعَقَقتُها؟ أوَشَقَقتُ رَحِمَ بِرِّها؟ أوَسَحقتُ إجنحةَ الذُلِّ، ومَحَقتُ الوِصالْ! وما ذنبيَ أنا إذ كانَت أمّيَ مُغَلَّفةً بِدشداشةِ أبي البيضاءَ بإشتِمالْ؟ ومُلَفلَفةً بِغُترَةِ بَعلِها المُتَغطرسُ المُتعالْ؟

ويحَكِ يا عين! ما بالُكِ تَملأينَ طَيّاتِ الأَلْغَادِ بِغيثٍ مُنهَمرٍ كلّما ذُكِرَت الودود الوَلود للأشبالْ! رَحِمَ الرَّحمنُ أمّيَ، إذ أنَعَمَ عليها في دنياها بِودٍّ مشهودٍ في حِلٍّ وفي تِرحالْ، وأكَرَمَها بين الأنامِ بِدُعاءٍ مُستجابٍ غيرِ مردودٍ، ولا يتَأخّرُ لمحةَ بصرٍ ولا يُقال، وأنّيَ لطمّوعٌ بدُعاءٍ من مثلِهِ لَمّا تُبَدَّلُ الأرضُ وبعدَ زوالِ الجِبالْ. دُعاءٌ بَرّاقٌ يبرُقُ في ظُلماتِ أوزارٍ مُوبقاتٍ كان عَضُدِي بِجَهالةٍ لها كَيّالْ.

مسكينةٌ أمّيمةَ، فما لَمَسَ رمشُكِ كُحلاً، وما تَغَمَّسَ بنهرِ (مَسكَرةٍ) وإكتِحالْ، ولكأنّكِ كنتِ فحلاً في بَطنِ أُنثى، فما رأيتُ نبضَكِ يَتَحَمَّسُ لخضوعٍ بالقولِ، ولا يَتَلَمَّسُ لرمي الخُطى بتَغَنّجٍ مُتَراقِصٍ ودَلالْ.

تَكَحَّلي إمّاهُ، ويحكِ!

إكتَحلي يا إمرأَة فكلاكُما الآنَ في كَنَفِ الرّحمنِ ذي الجَلالِ والجَمالِ والكَمالْ، إكتحلي لأبي البائسِ والقانعِ المُعتَرّ، ودعِي إنغلاقاً وإقفالْ، وتَغَنّي وتَغَنَّجي هنالكَ وحيثُ نور أبديٌّ فلا ضحىً ولا عصراً ولا عتمةً في ليالْ. تَكحّلي له يا أنتِ ولا تجعَليه حتَّى في الآخرةِ رهينَةَ الإعتقالْ! وأنظري وإغمزي له بغمزاتٍ لَعُوبٍ طوالْ، إغمزي له بِرِمشٍ(مُتَمَسكِرٍ) يخلُبُ لُبَّ الحورِ العينِ بشغفٍ وَوِصال، وتمايلي بحضرتِهِ وحَيثُ لا نَظَراتٍ هنالكَ إلّا نَظراتُ أبي المُعَلعَل الحالِ، وكانَ منكِ في الأولى مُزَلزَلَ البالْ، وكأنّه غرابٌ عن قبيلتِهِ مُتَمّرِّدٌ أو ضال، ثم إنها نظراتٌ حقٍّ لهُ وحَلالْ.

إغمزي لهُ يا بنتَ جدّي فقد وَلّى زمان تنّور الشَّوكِ والعاقول والأدغَالْ.

رَحِمَكُما كليكُما، ورَحِمَ زمانَكُما اللهُ المليكُ الكبيرُ المتعالْ. ذاكَ زمانُ الزأرة التي تفزعُ من إرتداءِ زركشاتٍ ونصفَ بنطالْ، ولا تنزعُ مُستَميتةً لقعدةٍ في صالةٍ فندقٍ يُسَمّونَهُ يا أمّاه؛ فندق (إنتركونتيننتالْ) أو هكذا يَنطِقُونهُ بتمَلُّقٍ وهكذا يُقال.

 

علي الجنابي-بغداد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم