صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: الميتافيزيقا.. الخلفية التاريخية والمشاكل الميتافيزيقية (تكملة)

حاتم حميد محسنفي آلمانيا، ادّعى كانط في نقد العقل الخالص بوجود عالم متعالي، غير تجريبي أسماه الشيء في ذاته noumenal، فيه عقل خالص، وأفكار قبلية (سابقة للتجربة)، وراء الظاهرة. عالم كانط الظاهري هو سببي، مادي محكوم بقوانين نيوتن في الحركة. اما عالم كانط غير المادي (الشيء في ذاته) هو عالم ميتافيزيقي غير تجريبي من (الأشياء في ذاتها) الى جانب الحرية والله والخلود. كانط  حدد الانطولوجي ليس في الأشياء في ذاتها وانما، متأثرا بديكارت، في ما نستطيع التفكير فيه حول الاشياء في ذاتها. وبهذا، حسب كانط، ان المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة للأذهان المحدودة.

فكرة ان الميتافيزيقا تتجاوز التجربة والعالم المادي قادت بوضعيي القرن التاسع عشر مثل اوكست كومت وارنست ماخ، وتجريبيو القرن العشرين مثل رودلف كارناب ومورتز شيلك، الى إنكار امكانية المعرفة الميتافيزيقية. كارناب أكّد على ان الاقوال الميتافيزيقية هي بلا معنى.

الوضعية Positivism هي الادّعاء بان المصدر الوحيد الصالح للمعرفة هو التجربة الحسية المعززة بالمنطق والرياضيات. كلاهما يوفران الدليل التجريبي للعلم. وضعية كومت رفضت الميتافيزيقا والثيولوجي كمرحلة مبكرة ومجردة في تطور المعرفة.

وضعية ماخ ادّعت ان العلم يتألف كليا من حقائق (نتائج التجارب). هو رفض النظريات حول الأشياء المشاهدة مثل ذرات لودج بولتزمان Ludwig Boltzmann، فقط قبل سنوات قليلة من استعمال البرت اينشتاين لعمل بولتزمان لإثبات ان الذرة موجودة. الوضعية المنطقية لبرتراند رسل ولودفيج فيتجنشتاين تدّعي ان جميع المعرفة الصالحة هي المعرفة العلمية، مع ان العلم احيانا انتُقد لـ "اختزاله" كل الظواهر الى أحداث فيزيائية وكيميائية. الوضعيون المنطقيون  شخصوا الانطولوجي ليس بالأشياء ذاتها وانما بما يمكن ان نقول – استعمال المفاهيم واللغة – حول الأشياء ذاتها.

الوضعيون المنطقيون والتجريبيون المنطقيون لحلقة فيينا لم يزعموا فقط ان كل المعرفة هي معرفة علمية مشتقة من التجربة او من المشاهدات الممكن اثباتها، وانما هم أضافوا ايضا التحليلات المنطقية للّغة كأداة رئيسية لحل المشاكل الفلسفية. هم قسّموا الأقوال او البيانات الى بيانات تُختزل الى بيانات أبسط حول التجربة وبيانات ليس لها  أساس تجريبي . هذه الأخيرة أطلقوا عليها اسم "الميتافيزيقا" او "اللامعنى". فاذا كانت اللغة زلقة جدا وغامضة لتُستعمل كأداة موثوق بها للتحليلات الفلسفية، فان المعلومات الكمية التي تؤطر كل استعمالات اللغة، هي التي توفر مثل هذه الاداة. الوضعيون المنطقيون والتجريبيون ادّعوا خطأ ان النظريات الفيزيائية يمكن استنتاجها او اشتقاقها منطقيا من نتائج التجارب.

يعتقد  التجريبيون جميعهم منذ لوك وآخرون بالفكرة الخاطئة بان كل المعرفة مشتقة من التجربة، حين تُكتب على الصفحة الفارغة لأذهاننا. في العلوم، هذه فكرة معيبة ان تكون كل المعرفة بالنهاية تجريبية. لنتذكر عبارة كانط وساندر بيرس، النظريات بدون تجارب فارغة، لكن التجارب بدون نظريات عمياء. بالمقابل، طريقة العلوم الحديثة الإستنتاجية – الافتراضية تؤكد على ان النظريات ليست النتائج المنطقية للتجارب. كما ذكر اينشتاين بعد ان تحرر من حماسه المبكر لأفكار ماخ الوضعية، ان النظريات "اختراعات حرة للذهن الانساني". النظريات تبدأ بفرضيات، مجرد تخمينات، "خيال" قيمتها تتضح فقط عندما تتأكد بنتائج التجارب. مرة اخرى، النظريات تنبأت بسلوكيات في ظروف فيزيائية لم يتم اختبارها بعد والتي فاجأت العلماء، وغالبا ما تقترح تجارب جديدة  زادت من تأكيد النظريات، والتي مرة اخرى تثير الدهشة. المعرفة العلمية باعتبارها معلومات خالصة، هي أبعد بكثير من نتائج التجارب وحدها.

رغم ان الميتافيزيقا في السنوات الأخيرة اصبحت شيئا ما عاما تضم مجموعة مختلفة من المشاكل التي لم تُحل في الفلسفة والفيزياء ، لكن الانطولوجي بقي محل إهتمامها الرئيسي وسوف نركز على المكانة الانطولوجية للأشياء المادية كـ "هياكل معلومات" والمكانة الوجودية لـ "للمعلومات غير المادية" حول هذه الهياكل وحول المعلومات ذاتها، كأساس لمعرفتنا. الأفكار غير المادية هي واقعية كجزء من العالم المادي وان هيكلها السببي هو كالمادة، حتى عندما تكون مثالية وليست مادية.

سعى الكوزمولوجي التاريخي (علم الكون) وبعيدا عن الانطولوجي التزامني  لتعقّب أصل وتطور الكون المادي الى الانفجار الكبير Big Bang قبل 13.75 بليون سنة. لكن الأسئلة الميتافيزيقية العميقة لاتزال قائمة. هل الزمن بدأ عند الانفجار الكبير؟ هل كان هناك فضاء فارغ من أي شيء  قبل ان تأتي المادة الى الوجود؟ هل كانت هناك معلومات خالصة قبل ان يكون هناك زمان ومكان؟ هل تلك المعلومات تتضمن إمكانية الكون؟ هل الزمان والمكان هما فقط افكار كونية،أشكال غير مادية مستمرة، تساعدنا في تنظيم ووصف العمل المتقطع والمستقل للجسيمات الصغيرة للمادة والطاقة؟

كيف تساهم فلسفة المعلومات في حل بعض مشاكل الميتافيزيقا؟

الادّعاء الاول

 يقوم الادّعاء الاول للميتافيزيقا المرتكز على المعلومات على ان الكون المادي يحتوي على اكثر من مجرد مادة (وطاقة) في الحركة. العالم الافلاطوني وعالم كانط في الأشياء ذاتها ليسا مقيدين بقوانين المادة في الحركة. ذهن غير مادي هو الذي يعطي تلك الافكار قوى سببية، ويضفي عليها المظهر الأبدي لتلك الافكار، كل هذه المشاكل هي تقليديا جزء من الميتافيزيقا. فلسفة المعلومات قد لا تجيب ابدا على الأسئلة "النهائية" مثل سؤال ليبنز" لماذا هناك شيء ما بدلا من لا شيء؟"، لكنها تستطيع الإجابة على لماذا تبدو هناك رعاية دائمة قيد العمل تجعل العالم مريحا للحياة عموما وللانسان بشكل خاص.

بالنسبة لفلسفة المعلومات، لا يتعلق الانطولوجي  بما نستطيع التفكير به  ولا بما نستطيع قوله حول الأشياء ذاتها، وانما بمحتوى المعلومات اللامادية للأشياء، والتي ترتبط بشكل لا ينفصم مع المعلومات المتجسدة في أفكارنا الذهنية وفي المفاهيم والكلمات المُستعملة لإيصال المعلومات التي هي في الأشياء ذاتها. التماثل الجزئي بين المعلومات في العالم الخارجي للأشياء  والمعلومات الداخلية حول تلك الأشياء في أذهاننا هو قياس كمي لمعرفتنا حول الأشياء.

الادّعاء الثاني

 ويقوم على  وجود الاكوان غير المادية، المجردة، بعض منها ضروري بالتعريف المنطقي، جميعها توجد في عالم افلاطون وعالم كانط للمعلومات الخالصة. بالمقابل، الاشياء الملموسة  كلها مادية (بما فيها طاقة الاشعاع الخالصة). يقوم هذا الادّعاء على انه رغم ان معرفتنا بعالم المعلومات جاءت أساسا من التجربة، اي من مصادر تجريبية، لكن عالم المعلومات ذاته هو غير تجريبي ( مع انه مادي) ولذلك لا يُختزل الى مادة "مغلقة سببيا" في الحركة. الميتافيزيقا تسأل عن الطبيعة العامة لكل الأشياء، الوجودات، والوجود ذاته. وبهذا تكون المعلومات خاصية ضرورية لكل الاشياء. وانها خاصية كمية ،اكثر قوة من المفاهيم اللغوية. انها تعطي شكلا للمادة. المادة بدون شكل لايمكن تمييزها، تكون عمياء، غير مرئية. اما الشكل بدون مادة فهو فارغ – جوهر بدون وجود.

مشاكل الميتافيزيقا

العديد من المشاكل التي تواجه الميتافيزيقيين اليوم تتعلق بالهيكل الأساسي للواقع، بالجوهر المادي الاساسي والعمليات الخلاقة التي تعطي الشيء المنفرد شكله وصفاته.

بعيدا عن المظاهر وعن البيانات الحسية للتجارب، ما هو الواقع الأساسي، ماذا هناك حقا؟ ما الذي "يشكل" الشيء المادي؟ ما مبدأ التفرد فيه؟ هل يحافظ الشيء المادي الملموس على هويته عندما يتحرك في المكان والزمان؟

عدد كبير من الأسئلة الميتافيزيقية اليوم كانت قد طُرحها فلاسفة اليونان قبل الفي سنة. من المؤسف ان نرى القليل من التقدم الحاصل في توفير إجابات واضحة لبعض تلك الاسئلة.

ربما السبب هو ان الميتافيزيقا هي بحث عن معرفة محددة تتجاوز العالم المادي، غير مشتقة من التجربة، وصحيحة دائما (في أي عالم ممكن). مثل هذه المعرفة تقتصر على الأفكار غير المادية في المنطق (A  هي A)، والرياضيات (7+5 =12)، وبعض الجمل والافتراضات التي هي صحيحة وفق التعريف (التقليدي).

هل يمكن للحقائق والأفكار الأبدية غير المتغيرة ان تعطينا أي معرفة بالعالم المادي المتغير باستمرار؟

وما هي المكانة الوجودية (او الانطولوجية) لهذه الافكار المجردة؟ هل الأعداد موجودة؟ اذا كانت موجودة، هل يختلف نوعها الوجودي عن تلك الأشياء المادية؟ هل الماضي والحاضر موجودان؟ كيف يمكن ان يتفاعلا؟ رغم ان العديد من الميتافيزيقيين يدّعون انهم يستكشفون البناء الاساسي للواقع، لكن نسبة ساحقة من كتاباتهم هي حول المشاكل في الفلسفة اللسانية التحليلية، اي مشاكل الكلمات. العديد من الأسئلة تبدو مراوغات لفظية، اخرى تفتقر الى المعنى او لا تمتلك قيمة حقيقية واضحة، تتحول في النهاية الى مفارقات. بناءً على الممارسة الحالية، نحن نستطيع ان نرقّي تعريف الميتافيزيقي ليكون فيلسوف في تحليل اللغة يناقش مشاكل ميتافيزيقية. بالمقابل، الميتافيزيقي المعلوماتي هو فيلسوف معلومات مطّلع على الفيزياء الحديثة والكيمياء والبايولوجي بالاضافة الى تفسيرات فيزياء الكوانتم. البناء الأساسي للواقع اليوم يجب ان يواجه الغموض وإرباك الواقع الكوانتمي.

فمثلا، وظيفة الموجة للجسيم الكوانتمي هي معلومات خالصة. بعض تفسيرات ميكانيكا الكوانتم هي جوهريا مشاكل ميتافيزيقة للميتافيزيقي.

تجدر ملاحظة ان العديد من المشاكل الميتافيزيقية هي ذات تقسيم ثنائي، تشير الى ان فكرة اساسية شائعة هي نوع من الثنائية، هناك تقريبا دائما الثنائية بين المادية والمثالية (معلومات مجردة خالصة).

 

حاتم حميد محسن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم