صحيفة المثقف

مهدي الصافي: رثاء اهل الولاية

مهدي الصافيالحزن في العراق مثل مد وجزر، ينام اهله بهدوء وسكينة، فينهض شامخا احد الرافدين اما دجلة او الفرات، فتغرق المدن والعيون معا، تلك هي حسرات ارض لم تعرف السلم، ولم يضع اهلها السلاح والظلم والالم جانبا...

عشق النخيل عندهم كفؤاد ولهفة ام الولد الوحيد لابنها المسافر، ولعل طيب الاصلاء منهم جاء من بركات عمتهم، فهي تطعمهم صيفا وشتاءا بلا منة او تذمر، واعجب كيف يجرأ المتجاسرون على قطعها هذه الايام، وابناءها في المنافي يجهدون في رؤية فسيلة منها تنموا امامهم بدفء، وترى بعضهم كأنه اجنحة طير مشرعة تحوم فوقها كل يوم، او حمامة سلام تحمي فراخها من اذى اسراب الغربان، علها تبعد عنهم وحشة هذه الاماكن المجهولة...

واية وحشة تلك، بعد ان تغادر موطن الطين والقصب والبردي ورائحة خبز التنور، بعد ان تترك خلفك كل اساطير الكون الاول، في بلاد صيحات النائحين فيه اعلى اصوات المعمورة...

ولايخفى او يستتر هذا الشعور لكل من ترك بيته الاول، فلا يكاد ان يسمع شيئا عن ليلة الوحشة (صلاة الميت في اول ليلة نزول القبر)، حتى تطير وتصعد دقات نواقيس الغربة، وتقفز الى اعلى قمة الرأس، صارخا انها اقوى بكثير..انهاوحشة الغربة... اكبر واعظم مما تتصورون، هناك ينقسم الانسان الى نصفين وروحين وقلبين وعقلين ووو... نصفه الاثقل غائب في بلاده الاولى، ونصفه المتذبذب الاخر يترنح في الوطن الجديد، خائر القوى ما ان تصل الى مسامعه مرثية غريب، حتى انتبه الى صندوقه القديم الذي يشبه صرات العجائز المنهكات من غبار السنين، وتجاعيد المدن الكئيبة، حشر فيها اموال تكلفة نقل الجثة الى مقبرة وادي السلام، ويسأل نفسه مرارا وتكرارا، هل اكتمل المبلغ ام في العمر بقية.... ويعجب الانسان وما اكثر العجب في حياتنا البائسة، كيف يشعر ابناء المدن التي لم يفارقوها طيلة حياتهم بالغربة، وهم فوق ارض الوطن الاول، بين الاهل والعشيرة والاصدقاء والاحبة....

وماتلك البكائيات الا شرارات مبعثرة تتطاير من حولنا جميعا ببطئ، انهم اهل الولاية...اهل الخير والبركة ...وطيبة انسان الفطرة الاولى... لم تجمعهم العرقيات او الانتماءات او المذاهب، انما جمعتهم حمية مجتمع العائلة الواحدة، لا يرفع حتى الشقي منهم النظر في وجه اعراض المدينة،

وكل الامهات امهاتهم، وكذلك الاباء، عاش هؤلاء على حب اهل القران والرسول محمد ص وال البيت ع، الكل يندفع لمساعدة الكل، وماقدور ابناء الطائفة الصابئة المنصوبة لاطعام زوار الامام الحسين ع، الا كان عبارة عن شعارا ممزوجا بحضارات وادي الرافدين، لامة لايموت فيها الخير، وان اشتد الانحطاط والانحراف، كيف وهذا الوطن ما ان يخرج من معركة حتى يحشر في طوفان الاخر، لعنة ام قدر لازمه منذ ان رست سفينة نوح في جودهم، وبعد ان غرقت كربلاء والكوفة بدماء الاتقياء الابرياء...

هكذا كانت بقية الاطياف والمشارب، كان الجار يحرس بيت جاره،

والاشرار افراد يعدون على عدد الاصابع، حتى جاء بلاء البعث البائد، فأنقلبت الامور رأسا على عقب، ولم يبقى صامدين امام طاحونات سحق الاخلاق الا القلة، وكأن اهل المدينة اجبروا على الوقوف في منخل كبير، ينخلهم عكس نخل الخبازين، بالمقلوب يسقط الغث، ويبقى الضعفاء، ممن لايسمع لهم صوت ولايعرف لهم اذى، هؤلاء في عرف اهل الولاية القدماء جماعة السير الى جانب الحائط، لاغيبة ولارياء ولاكبائر الاثم....

الولاية شعار كبير لكنه لا يستوعب مساحة حضارة المدن، كان المصطلح معروف بين اهلها، يطرها النهر الى ضفتين، فتنقسم التسمية الى ولاية وذاك الصوب...

تسمع في مدننا القديمة عبارتين لاثالث لهما ...نازل للولاية(مكان الافندية)...رايح للسوق(سوق الخضرة والعطارين الخ.)، ثم زحفت عليها مظاهر الحياة العصرية الحديثة، وكأن هناك جيشان يتقاتلات بالتدافع بالايدي، (جيش اهل الولاية، وجيش الزحف الهائل على المدن القادم من هجرة اهل القرى والارياف، بسبب الجفاف وموت الزراعة والعسكرة البعثية للعراق، وحاليا بسبب انجازات الديمقراطية البدائية الفاشلة)، فلكما سقط نجم من اهل الولاية بحكم العمر، زادت مشاعل الوحشة توهجا، لتشيع بين الناس وتذكرهم بحتمية اكتمال مسيرة الغربة، عندما تحين ساعة اسدال الستار على تلك التسمية التي رافقتهم منذ الحضارات القديمة، ينطفئ نور ويشتعل جيلا اخر، مدن بشكلها الحديث...

اقسى اثار الحزن والكأبة تجدها بادية في وجوه اخر اجيال اهل الولاية، فالناس تبحث عن البدلاء، وتصارع الزمن للحفاظ على التسمية، ومن تحت رصاص الفتنة للنزاعات العشائرية الضالة، يموت الخير، كل الخير، وتسقط مكسرة فوانيس اهل المدينة، ويهيم الناس على وجوههم،

هل من منفذ للهجرة وترك المأساة، لا احد يريد ان يرى كارثة موت الولاية السريري، ويخشى مشاهدة نعوش اخر وجهاء المدينة، يحملونه عمال السخرة الى اكبر مقبرة في العالم.

عوالم الحياة والروح، وشريط الحياة المعروض للعائد من موت اللحظة، وكل الاديان والطقوس والعادات والاثار وعجائب الكون، لاتعني ان الحياة صحراء مجردة او منقطعة، فالميت ميت الاخلاق والدين والضمير، والحي حيا بالاخلاق الحسنة والذكر الطيب..

اهل الولاية الاصلاء لايموتون...لانهم جذر متجذر في عمق الاعماق

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم