صحيفة المثقف

علجية عيش: جزيرة صاغون هل هي جزيرة البنائين التي تَحَدَّثَ عنها ابن بطوطة في رحلاته؟

علجية عيشسؤال ربما يطرحه القارئ العربي إن كانت "جزيرة البنائين" التي تحدث عنها الرحّالة ابن بطوطة هي نفسها جزيرة "صاغون" التي تحدث عنها "إخوان الصفاء وخلان الوفاء" في رسائلهم وهي الجزيرة التي سكنتها "الفرقة الناجية"؟، أم هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها افلاطون؟ لقد أعطى البعض مفهوما خاطئا للبنائين، فكانت هذه العبارة موضع تساؤل، هل يُرَادُ بها "البناؤون الأحرار" الذي تحدث عنهم التاريخ، سؤال قد لا يقود إلى الفهم الصحيح، لأن البناءون الأحرار معروف عنهم بأنهم جماعة تسعى إلى إلغاء كل الأديان وإزالتها من جذورها وضمها في دين واحد؟​ وهو بذلك أي ابن بطوطة يعني المدينة الماسونية التي يحلم بها الماسونيون؟

كما وجب أن نعرف ماذا يُقْصَدُ بالمدينة الماسونية؟ هل هي مدينة يسكنها أناس أحرار، معتدلون يربطهم عقد اجتماعي يقدمون خدمات اجتماعية؟ وهل المدينة الماسونية تشبه المدن الأخرى التي تحدثت عنها الروايات كمدينة "مورول" التي يعيش فيها أناس مسالمون لا يعرفون طريقا للجريمة ولا للقتل، أناس فضلاء لا يمارسون العنف والتطرف؟، وقد خاض بعض الكتاب العرب في هذه المسألة بالذات، وذهبوا إلى أبعد الحدود، مثلما ذهب في ذلك الكاتب والمترجم مدني قصري وهو جزائري مقيم بالأردن، الذي تحدث في مقال له عن قبول المسلمون الدخول في النظام الماسوني حينما قام بترجمة كتاب تييري زاركون (Thierry Zarcone) وهو عبارة عن قصة أضيفت لقصة "مناهضة الماسونية الإسلامية" في محاولة منه تكييف الماسونية مع البيئة الإسلامية، من خلال أوجه الشبه مع الأخوية الصوفية.

2864 جزيرة البنائين

فما يروى عن إخوان الصفاء وخلان الوفاء أنهم تحدثوا في رسائلهم وبالأخص رسالة "جامعة الجامعة" عن أهل الظاهر وهم قوم بعيدون عن العلم والحكمة، وقد تمادوا في ظلمهم بعد غياب الإمام، وتحكموا بأتباع أهل البيت المطهرين، وهذا الإمام الذي سيكون رئيس مدينة أهل الخير يُنْتَظَرُ قدومه ليأخذ الحق ويطهر الأرض من أنجاس الجاهلية، ويفرّق إخوان الصفاء بين أعمال أهل الإنس من أصحاب ظواهر الشرائع القائمون فيها بالرياء وبين الجنِّ أهل الدعوة المؤمنون، هذه الفرقة من الجِنِّ التي تحدث عنها الله في كتابه: " وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"، ما ذكره إخوان الصفاء هو أن هذه الفرقة من الجن وليَ عليها مَلِكُ في جزيرة "صاغون" إلى أن جاء مركب إلى الساحل فخرج من فيه إلى الجزيرة، أفرادها متآلفة بعضها مستأنسة غير متنافرة، وهؤلاء القوم استوطنوا تلك الأرض وأعجبوا بما فيها ثم انهم أخذوا يتعرضون للبهائم والأنعام يسخرونها ليركبوها ويحملون عليها اثقالهم فنفرت منهم وهربت وذهبت إلى ملك الجن فشكت إليه، وتدخل ملك الجن لينصرهم، كان عددهم سبعون ( 70) من بلدان شتى.

وجزيرة صاغون التي تحدث عنها إخوان الصفاء وخلان الوفاء هي مدينة أهل الخير والبحر في التأويل الإسماعيلي الباطني هو العلم الإمامي الحقيقي والسفينة هي الدعوة الإمامية، سواء كانت ظاهرة أم مستورة وهذا يعني أن هذه السفينة ضمت ممثلين عن الفرق الإسلامية الثلاث والسبعين ( 73) المذكورة في الحديث الشريف عن النبيّ (صلعم) "ستنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، اثنتين وسبعون هالكة وواحدة ناجية" وقيل أن الفرقة الناجية هم أهل البيت، وباقي الفرق الضالة فقد تقاذفتها الأمواج لإبتعادهم عن طريق الحق والهداية وقد رمتهم الأقدار إلى جزيرة صاغون، لكن ملك هذه الجزيرة لم يقبل بدخولهم حتى تتم محاكمتهم، ولما تم قبولهم بالدخول واستقبلهم ملك الجزيرة وقف ونظر إليهم فوجدهم مختلفي الألوان، وهذا دليل قاطع على أن هذه الجماعات هم الفرق الإسلامية التي اختلفت بعد وفاة النبيّ (صلعم)، أمّا الفرقة الناجية فهي اتباع الملك ويعيشون معه في المدينة الفاضلة، والمدينة الفاضلة أصحابها مؤمنون معتدلون يتسمون بالأعمال الصالحة، يمثلون العالم الطائع لباريه، ويدركون أن جميع أمور الدنيا وما يجري فيها من الأعمال والأفعال إنما هي إشارات لما يكون في يوم القيامة كما جاء في الفصل التاسع من رسالة جامعة الجامعة، وفيها تعرض أعمال أهل الطاعة وأعمال أهل المعصية.

و بالعودة إلى جزيرة صاغون قد يتساءل البعض إن كانت صاغون هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون؟، وهل هي جزيرة البنّائين التي تحدث عنها ابنة بطوطة في رحلاته؟، فقد وصف ابن يطوطة أهلها بأنهم كانوا يتمتعون بالمهارة والإبداع وحرية التفكير وشجاعة الرأي والتعبير ومشاعر الأنفة والعزة والكرامة من مودّة وتواضع لا يشوبهما كذب ولا كبر، الشيئ الذي يميز جزيرة صاغون ليس الأرض بل الفرد (المواطن) وما يحظى به من علم وما يتجلى به من رؤية كونية ومن خير وأخلاق ومبادئ يبني بها سلوكه ومؤسساته، يحترم بها حقوق الإنسان وكرامته الخ...، هي نفس المبادئ التي يلتزم بها أهل جزيرة البنائين من خلال احترام الحريات التي بها يحقق الناس توازنهم وترشد سلوكاتهم حتى يصبحون مخلوقات صالحة خيّرة على هذه الأرض بالإعمار الصالح العادل وقد أدرك أهلها معنى الحياة والمعنى الصحيح للحرية في مجتمعهم.

فالحرية عند أهل جزيرة صاغون وجزيرة البنائين لا تعني الفوضى والإنقلاب واتباع الضلالات والنزوات التي تضيع الحقوق وتهدر الكرامات والمسؤوليات وتوقع الضرر والمظالم بالنفوس والمجتمعات وارتكاب المفسدات والإنحرافات والوقوع في الموبقات، فهذه في شريعتهم وعرفهم ليست حرية، بل قصور وفوضى، وأصحابها في مرتبة الحيوانات التي ليست لحياتها معنى ولا غاية، وقد تحدث إخوان الصفاء وخلان الوفاء عن هذه الحيوانات وهم من باب التأويل الذين ينتمون إلى بني البشر (الإنس) وهم الطائفة التي تقيم شرائعها على الرياء والنفاق والكذب والخداع، وهم باختصار أهل الشرّ، ويفهم من حديث إخوان أن أهل الخير، هم "الفرقة الناجية" التي سكنت تلك الجزيرة ووجدت فيها الأمان، فكانت لها رؤية كلية كونية للحياة، كانت حقًّا فرقة "سَلامية" (أي أهل سلم) لأنها كانت تتمتع بمناهج الفكر السليم، استمدت عزتها من فهمها الصحيح لعلاقتها بالله عكس الفرق الإسلامية الأخرى.

و كما هو معلوم فلإخوان الصفاء علاقة بالإسماعيلية ويعتبرون من المؤسسين لهذه الدعوة، يقول الدكتور عارف تامر محقق ومقدم جامعة الجامعة: إننا لو أردنا التحليق في أجواء إخوان الصفاء والدخول إلى مدينتهم لأخذنا بعجائبها وفتنا بمناظرها وتنعّمنا بروائعها وتفيأنا بظلال أشجار حدائقها ذات الورود العطرة والثمار الناضجة والينابيع الثرّة الدافقة، فهل هي الجنة التي ذكرها الله في كتابه ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضودٍ وطلح منضودٍ وظل ممدودٍ وماء مسكوبٍ وفاكهة كثيرة،لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم إلى آخر الآية من سورة الواقعة، وقد ذكر إخوان الصفاء الباب التي تدخل منه النفوس الطائعة إلى الجنة، هذه النفوس التي ارتقت بأفعالها إلى الرتبة السماوية ونزل الموت ساحتها نزول الملائكة الطيبون بالرأفة والرحمة (وجنّة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) الآية 133 من سورة آل عمران.

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم